|
|
غادر الجميع أماكنهم .. وحدهم الأموات مكثوا! |
|
|
|
|
تاريخ النشر
07/10/2011 06:00 AM
|
|
|
طلبت مني صحيفة (الناس) أن أقدم موضوع (أسرار عن نفق سجن الحلة والكفاح المسلح في الأهوار) التي اعدها المهندس علي الكناني الذي سينشر بحلقات . تعتقد الصحيفة أن هذه الشهادات هي ضرب من التاريخ المكتوب الذي لم يحظ بفرصة الظهور الى العلن لأسباب سياسية. أخبرت الصديق رئيس التحرير بعدم صلاحيتي الشخصية والسياسية لهذه المهمة، فأنا لم أسمع عن أو أعرف أيا من الشخصيات الرئيسية التي ترد في هذا النص غير الشاعر مظفر النواب المعروف جيدا من العراقيين والعرب، كما أنني لم استوعب شاعرية النص الا في اطار مشكلة تتجاوز الروح الإحتفالية الثورية (لو خيرت لاخترت نصا جافا يتحدث عن الوقائع) . فضلا عن ذلك أراني منفصلا عقليا عن هذا التاريخ الباسل لرجال خرجوا عن بطرياركية الحزب بوسائل البندقية والشجاعة والشعر. أزاء ذلك ثمة دال كبير يشد هذه التجربة شدا.. فمن جهة الزمن الموضوعي يمكن القول أن الأوان قد فات ، وأننا لن ننقذ شيئا ، وهكذا هو الحال من جهة التجربة السياسية ، فقد خسر الشيوعيين المبادرة والفرص التاريخية ، وأكثر من هذا حوّلوا الخسارة الى رأسمالهم الرمزي المليء بالشهداء والمعذبين والمغدورين من دون مراجعة جادة. لعل الاسماء التي ترد بالنص عرفت هذا الامر بحزن ، إلا أن ما يدعوه ارنست بلوخ بالفائض الثقافي - وهو في العراق أكثر فاعلية من الثقافة المبنية ذات التقاليد - احتفظ بمحاولاتهم الثورية في مكان ما من الذاكرة والثقافة. لقد أمسكت نار التاريخ بأردان العراق وأذياله ، لكأن العراق لم يغادر عام 1921 ، أو غادرها الى ردة لا نستطيع قياس عمقها وإلى ماذا ستفضي. فما نفع الدوران حول تفصيل يابس أو جرح قديم ، وماذا يفعل فائض ثقافي بات يتقلص كثيرا أمام التضخم السياسي للطوائف والاثنيات التي تحلل اليها العراق في ظل الاحتلال وغياب الدولة؟ إن علاقات قوى جديد حلحل صور الماضي جميعا وغيّر من مواقعها. تلك هي تبريراتي الخاصة في أن لا اتكلم . لكني حقيقة لم أمتنع عن التفكير في الموضوع ، ولم أقدر. لقد حكّني ذلك الجرح الذي لم يمتلئ بالدم حتى يبرأ، على حد تعبير صديقي الشاعر عبد الرحمن طهمازي. في الفترة التي أعقبت انشقاق الحزب الشيوعي توصل عديدون الى ليبرالية داخلية مدفوعة بكراهية عميقة لبطرياركية السلطة والحزب مدعومة بمراجع جديدة في مقدمتها علم الاجتماع الذي كان السوفييت يسمونه (بورجوازيا). أما في الثقافة فكان اليسار الاوربي قد حصد مجدا كبيرا عن طريق نقد الشيوعية الروسية بقسوة، ودمقرطة الفكر اليساري وأنسنته وتقوية اتجاهه النقدي ، هذا فضلا عن انفتاحه الذي ضم أطيافا واسعة من العقول الذكية المشهود لها بالعدالة والتعاطف الانساني. كان هذا وحده كافيا لكي يفكر المرء بطريقة مستقلة من دون أن يبدو أنه ذهب بعيدا الى أحضان أخرى . أزاء ذلك كانت الشيوعية العراقية تنظيميا تتوالد في حاضنة تعيد انتاج نفس التركيبات : آباء متحجرون، وكادحون شرفاء من دون إعداد فكري ، انشقاقات تتحجج بالأفكار والعدو الطبقي الداخلي في حين أنها نتاج دكتاتورية القادة وسوء الفهم الذي يشيعونه وارتباطاتهم بالبطريارك السوفييتي الأكبر، حزب يدور حول نفسه سياسيا ، وعودة مستمرة الى الماضي ، ومثقفون أقرب الى الشعراء، وجلهم يفتقرون الى ثقافة سياسية تعددية. قد نجد لوصفي المركب هذا موقعا في النص المنشور هنا . فالقارئ يحتاج الى المزيد من الانتباه لعزل الوقائع عن النغمة العاطفية . هناك دمدمة شعرية تموزية تحفر بالكلمات للوصول الى الوقائع ، ولعل اختيار معيار الصداقة والتمسك بالمآثر جاء معوّضا عن الهوة الزمنية ، فالامر يعود الى ذكرى وليس مجرد معلومات ، ذكرى لا تغادر العناصر الرمزية ذات الطابع الشعري . لقد هُزم الحزب فبات الرجال يتامى يتمسكون بالأخوة والذكرى العطرة. إن التباعد الزمني والهزيمة النكراء يفرضان قراءة جديدة لا تتفق رؤاها مع رؤية ابطال هذا النص شبه الدائري الذي تتجاذبه الوقائع الصريحة والتعليات الرمزية . والحال أن التاريخ السياسي العراقي لم يكتف بإثارة الخلل في هذه التعليات فقط ، بل وطمس معالم الوقائع الصلبة نفسها التي تكاد أن تكون غامضة أصلا بعد أن اختارت لغة أدبية تشبه دمدمة منومة حزينة لأمهات مفجوعات. أكثر من هذا أن مظفر النواب وهو البطل الرئيسي في النص، والنص بمجموعه يمر عبر شعريته الشعبية ورسائله المشحونة، جرّ خطى شيخوخته الثقيلة الى بلاده في لحظة لم تغير فيه البلاد سحنتها السياسية فقط بل وارتدت على أعقابها في الكثير من العناصر ايضا. إنها خياراته بالطبع ولا ألومه عليها، بيد أن الرواية الشعرية البطولية تكاد أن تتوج خيبتها بهذا الرجوع . إن الدمدمة تتحول الى نشيد شخصي أو مجرد ذكرى مطوية بعناية تحت الوسائد. فيما يخصني هناك تجربة ذاتية رافقتني وأنا اقرأ هذا النص . لقد تذكرت صديقي العزيز رافع نافع الكبيسي الذي سقط في مكان ما من الكوت بكمين نصبته له شرطة البعث. لقد عرفت سماعا أنه مسؤول تنظيم الجنوب في القيادة المركزية ، كما أنني لم اعرف قصة موته على نحو واضح ، ففي تلك الايام من عام 1971 كان من يقتل يفقد قصته معه. إن الفاشية العراقية المتجددة بانشقاق وطني كبير(1958)، تمحو الأجساد والأسماء والذكريات ضمن نسيج يضيق أو يتسع شاملا القريبين بوجه خاص كالعائلة والاصدقاء ، أي كل من يتأثر وقادر على نقل الحكاية. لقد دفنت حتى التفاصيل الصغيرة التي قد تجعل البشري والعادي ينتصران انتصارات جزئية، فبعد سنوات حلّ لغط الجبهة الوطنية ، فكأن رافع قتل مرة أخرى بيد رفاقه، وعندما اندفعنا الى سنوات الكآبة والحرب كانت أسماء الأحياء نفسها ترتجف وتختفي . كان دفن الذكريات يجري بمحاريث السلطة التي تقلب وتتغلغل وتغطي ، لتمارس لعبة الحياة دفن ما تبقى نابتاً أو ظاهراً. لقد بحثت عن اسم رافع الكبيسي في المواقع الالكترونية فوجدته يتكرر مرتين بوضوح ، مرة يشير الكاتب اليه بوصفه مولودا في العمارة ، وهو أمر أجهله بل أعتقد أنه خاطئ لأنني عرفته دائما في الاعظمية ، لينتقل هو وعائلته الى الكرادة في شارع سيد ادريس. ومرة مع قائمة شهداء شيوعيين تتجاوز الالفي اسم نجح الحزب في تخصيص تقاعد لهم . من معرفتي بشرفه وعفافه لا أظنه سيقبل هذا الكرم ، بيد أنني آمل أن التقاعد سيلبي حاجات زوجته الصابرة (من عشيرة الازيرج) وولديه الاثنين الذي أذكر أن امي خاطت لهما ثيابا. في تلك الأيام بدت القيادة المركزية قمرا منيرا ، وكان رافع قد حسم خياراته لمصلحتها هو ورفيقه سامي الجصاني (قتل في قصر النهاية). كنت دائما استمع الى رافع بانتباه ، فقد عدّ نفسه ليكون قائدا للكادحين منذ أن كان مسؤولا عن فقراء (خان حجي محسن) في الكسرة قبل انقلاب شباط 1963 ، وكان كثيرا ما يمزج ثقافة الكتب بالامثلة الواقعية، أي تماما هذا الذي لا اجيده ابدا . كنت اسلّم بتحاليله عندما أكون داخلها، بيد أنني كنت في النهاية أقف خارجها بالكامل مع معدات ثقافية اخرى. كنت بعكسه أرى أن الخيار الشيوعي لم يعد نافعا ، وأن الذهاب الى الكفاح المسلح هو الوجه المعكوس لاتجاه يميني مغروس بقوة من قبل الاتحاد السوفيتي. إن يسار الشيوعية ويمينها غير صالحين للحياة، فهما بيئتان متماثلتان من حيث الثقافة والمراجع والنزاع بشأن التفاصيل ، والإثنان بلا أفق . قلبي يؤلمني وأنا أتحدث عن صديقي العزيز المقتول منذ عام 1971 ولم يذكر الا باسمه العاري مع معلومات بدأت أشك بصحتها . في هذا النص الذي اقدمه لا يرد اسمه ، بيد أنني على نحو ما تخيلته هناك ينتظر خروج الهاربين ليجهز لهم مخبأ . ثمة علاقة لهذا النص بما عرفته عن رافع أود أن أختتم به هذا التقديم ، فعلى الرغم من واقعيته وحسّه بالمشكلات المحددة ، كان مغمورا بشاعرية شيوعية عراقية تقع بين تقاليد الهور وهوساته و(فشكه) كما في شعر مظفر النواب، والرمزية المجتمعية الثورية للفلاحين . الحقيقة أن الشيوعيين الذين طوروا الفكر التموزي الشعري ، وعززوا الاسطورة السياسية المرتبطة به ، هم أنفسهم من وضع الحزب فوق الاسطورة فأذلوها وأنهوا جاذبيتها التليدة ، في حين أنها كانت أكثر نفعا في السياسة والتعبئة ، ورمزيتها تعج بذخيرة حية من الحكايات والسلوك اللغوي المثير. إن صوفية هادي العلوي الانسانية تمتح من تلك الاسطورة بوضوح. بصرف النظر عن نتائج معركة الأفكار والواقع ، وبصرف النظر عن الأخطاء والخيانات والجهل والهزائم ، ثمة هؤلاء الشجعان الذين يستحقون احترامنا الذين ظلوا يدافعون عن قيم الشرف والذكاء والتضامن الانساني في زمن سيء. الآن غادر الجميع أماكنهم .. وحدهم الأموات مكثوا! |
|
رجوع
|
|
مقالات اخرى لــ سهيل سامي نادر
|
|
|
|
|
انضموا الى قائمتنا البريدية |
| | |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|