|
|
غمامة سوداء فوق الموصل.. وسيارة لكل ستة مواطنين |
|
|
|
|
تاريخ النشر
06/10/2011 06:00 AM
|
|
|
نقاش :
سحابة سوداء خفيفة تعلو مدينة الموصل، تبدو واضحة للعيان، خاصة من مناطق الأطراف المرتفعة، كثيرا ما تكون محطّ تساؤل الوافدين من خارج المدينة. السحابة هذه شبه المستقرة في الأفق ليست حبلى بمطر، إنما بملوثات غازية سامة خلفتها بشكل رئيسي عوادم السيارات المزدحمة، على ما يقول خبراء. الإحصائيات التي حصلت عليها "نقاش" حول أعداد المركبات في نينوى تبدو مخيفة. إذ يصل مجموع المسجل منها رسميا إلى 327 ألفا، على اختلاف أنواعها. هذا الرقم الذي مصدره مديرية المرور، يضاف إليه سيارات استقرت في المدينة، مسجلة لحساب محافظات أخرى. حوالي 70 بالمئة من هذه المركبات تحتضنها الموصل التي يشكل سكانها 60 بالمئة من مجموع نفوس نينوى البالغين زهاء ثلاثة ملايين و250 ألفا. ترجمة هذه الأرقام بعملية حسابية بسيطة، تعني أن هناك سيارة واحدة لكل ستة أشخاص في مدينة الموصل. فبعد انهيار مؤسسات الدولة في عام 2003 مرّ العراق بفوضى في كل شيء، منها الاستيراد العشوائي للسيارات المستعملة الصغيرة والكبيرة المعروفة محليا بـ "البالة"، خاصة وان أسعارها كانت في البداية، رخيصة جدا لا تتعدى ألفين دولار أمريكي. "البالة" لم تستورد جميعها عبر منفذ ربيعة الرسمي (108 كم غربي نينوى)، فتسيب الحدود سهل لمهربين عراقيين ادخال سيارات من سوريا إلى نينوى، باجتياز الساتر الترابي الفاصل بينهما، يؤكد فيصل محمود احد الذين اشتهروا بتهريب السيارات قفزا على الساتر. ويضيف لـ "نقاش": "هـُرِبتْ مئات السيارات الفارهة كـالبرادو والمارسيدس والشوفر ليه على مدى أكثر من عام، وتم تسجيلها رسميا فيما بعد". في آب (أغسطس) 2006 قررت السلطات العراقية منع دخول "البالة"، فيما قنّنت استيراد المركبات الحديثة، بحيث أصبحت المحافظة سوقا نشطة لهذا النوع من التجارة. أبو لقمان وكيل نقل السيارات المستوردة من المنفذ الحدودي إلى الموصل، يشير الى "ان ذروة هذا النشاط بلغت في عامي 2006 و2007 ، حيث أدخلت عشرات آلاف السيارات، من ربيعة والأنبار والبصرة". كما يتذكر أن الطريق الدولي في نينوى، الذي يربط بين العراق وسوريا، قلما كان يخلو من قوافل الناقلات الطويلة، حمولة الواحدة منها نحو 10 سيارات، طيلة اربع سنوات. ورغم تحديد الاستيراد بأحدث ثلاثة موديلات فقط من كل نوع سيارة، إلا أن دفق السيارات ما زال كبيرا نتيجة ارتفاع دخل الموظفين والتسهيلات التي تقدمها جهات رسمية وقطاع خاص، للمشتري، كشركتي توزيع وتصنيع السيارات، وجمعية رعاية المتقاعدين، إلى جانب التجار. فبعد ان كان البيع يقتصر على المنطقة التجارية الحرة شمالي الموصل، أتاحت هذه الجهات الشراء بالتقسيط المريح، ومن دون دفع اي مبلغ مقدما. محمد طلال شاب عشريني، يحلم باقتناء سيارة، يقول لـ "نقاش" إن "جمعية المتقاعدين ستحقق حلمي بشراء واحدة حديثة، بعد تقسيط مبلغها على 36 دفعة شهرية، سوف نسدده من راتب والدتي المتقاعدة". ويضيف، لدى خروجه من طابور طويل تشكل أمام مقر الجمعية لهذا الغرض: "إن بيع التقسيط يشهد إقبالا واسعا رغم ان الشراء نقدا، يؤدي إلى خفـض السعر بنحو ثلاثة آلاف دولار". ازدياد أعداد السيارات لم يقابله تحسن في شوارع مدينة الموصل، ولم تجر أية توسيعات في الطرق الرئيسة والفرعية، كما لم تشهد المدينة بناء جسور وأنفاق تستوعب الزيادة الحاصلة. ليس هذا فحسب، بل أن جانبا كبيرا من هذه الشوارع مغلقة لدواعي أمنية، والمتبقي منها رشقتها حد النحافة، نقاط التفتيش وتجاوز المواطنين و التكسرات والتخسفات المزمنة، ليصح عليها وصف عنق الزجاجة. ومما يزيد الطين بلة، أن الموصل ثاني أكبر المدن العراقية بعد العاصمة بغداد من حيث عدد السكان، لا يُعمل فيها بالإشارات الضوئية المرورية مطلقا "لاعتبارات أمنية"، على ما أكد مدير مرور محافظة نينوى. ويقول العميد نشوان عبدالله الخزرجي في لقاء مع "نقاش" إن "شرطة المرور تتولى الآن تنظيم السير في تقاطعات المدينة الـ (43)"، مضيفا أن العمل بنظام الإشارات الضوئية "يستحيل من الناحية العملية، فأرتال القوات الأمنية والمسؤولين لا تنقطع جيئة وذهابا، غير عابئة بالنظام المروري". كما أوضح إبراهيم حلبوص مدير قسم هندسة المرور في بلدية الموصل، "أن كوادره أصلحت بعضا من الإشارات المعطلة، ومع ذلك لا يتم الالتزام بها من قبل شرطيي المرور". لكنه يقول بصراحة: "لا نستطيع ايضا ضمان استمرارية عملها، لعدم توفر الطاقة الكهربائية اللازمة لإدامة تشغيلها". الواضح ان سائقي المركبات معتادون على هذه الحال، اذ ان زياد الجالس خلف مقود سيارته في انتظار المرور عبر تقاطع الفيصلية، لم يكترث لانبعاث الضوء الأخضر بينما انتظر الأذن من الشرطي، معلقا على سؤالي له عن السبب بالقول: "هي مجرد ديكور لا اكثر، وإصلاحها هدر للمال". الوجه الآخر للقصة، اكثر سوداوية على الحياة، وان كانت آثاره الوخيمة لم تظهر بعد، الا وهو التلوث بسبب احتراق وقود السيارات. الدكتور صلاح الجنابي أستاذ متمرس في الجغرافيا، يرى "ان الموصل مدينة مهيأة أساسا للتلوث، لأنها منطقة تلالية، مركزها أشبه بهضبة مسطبية متدرجة هابطة باتجاه مجرى النهر". ويفسر ظاهرة السحابة الدخانية، بان مقدار الحرارة والغازات المنبعثة من دوران محرك السيارات زادت كثيرا مع تضاعف أعدادها، دون القدرة على النفاذ خارج الغلاف الغازي، لتبقى محصورة بين الكاربون الذي تطلقه السيارة وبين سطح الأرض. سقف الانقلاب الحراري أصبح متحدبا فوق مركز المدينة بتأثير التيارات الصاعدة من حرارة وسائط النقل، بينما يهبط في أطرافها لقلة المركبات هناك، مشكلا ظاهرة تسمى علميا "الفقاعة الحضرية"، يتابع الجنابي احد تدريسيي جامعة الموصل. وينبه إلى ان النظر في فضاء المدينة من منطقة طرفية مرتفعة يفضح حجم التلوث بأعلى صوره. ويجدد الجنابي دعوته، التي اطلقها قبل 5 سنوات، لطلبة كلية الطب من اجل التخصص بأمراض الصدر والرئة والسرطان لاعتقاده انها ستكون الاكثر شيوعا في المستقبل القريب. ويبدو ان دليله في متناول يده حيث يستشهد بنتائج دراسات علمية أعدها كيميائيون أكاديميون في الجامعة، كشفت "ان تركيز المواد السامة خاصة الكبريت، في جسد شرطيي المرور المتمركزين في باب الطوب، حيث مركز المدينة وأكثر المناطق زحمة بالسيارات، تزيد 20 ضعفا عن ما موجود في أجساد أقرانهم العاملين عند مداخل المدينة التي تقل فيها حركة وسائط النقل. وبمقارنة أخرى يتضح أن نسبة ترسب الرصاص، المنبعث من احتراق البنزين، على جذوع الأشجار القريبة من الشارع يفوق بعشرة أضعاف نسبته في الأشجار البعيدة عنه 10 أمتار. ربما لهذا السبب يدعو الكيميائي صباح كامل في دراسة حول تأثر الرصاص على تلوث الهواء في الموصل، إلى تكثيف زراعة الأشجار في الجزرات الوسطية وبمحاذاة الشوارع للحد من تأثيرات هذه المادة الخطرة على الصحة والبيئة. هذه الدراسة التي أعدت لمديرية البيئة واطلعت عليها "نقاش"، تبين أن "90 بالمئة من الرصاص الموجود في الهواء مصدره احتراق وقود المركبات في المدينة". وفي هذا الإطار يرصد رئيس لجنة الصحة والبيئة في مجلس المحافظة محمد الغنام، زيادة واضحة في أمراض العيون والجلد والصدر والأمراض السرطانية. ويعزو الغنام وهو طبيب عيون تلك الزيادة إلى تلوث الهواء بالغازات السامة المنبعثة من مصادر عديدة، لكن أكثرها لفتا للانتباه وسائط النقل الفائضة في المحافظة. معظم المختصون الذين قابلهم مراسل "نقاش" عند كتابة هذا التحقيق، يحذرون من خطورة الزحام المروري الذي يجبر محركات المركبات على الدوران لساعات طويلة لبلوغ هدفها، بينما لا تحتاج سوى دقائق في الظروف الطبيعية. ويدعون إلى رفع معرقلات السير، خاصة السيطرات الأمنية، ووضع خطة طويلة المدى لبناء مجسرات تغني عن التقطاعات وضبط عملية استيراد السيارات، إلى جانب التخلص من السيارات القديمة المتهالكة، ومنع ناقلات الوقود الكبيرة من الولوج إلى مركز المدينة. |
|
رجوع
|
|
مقالات اخرى لــ صالح الياس
|
|
|
|
|
انضموا الى قائمتنا البريدية |
| | |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|