|
|
الخيال الأسطوري في شعر خزعل الماجدي |
|
|
|
|
تاريخ النشر
18/09/2011 06:00 AM
|
|
|
يتمتّع خزعل الماجدي بأضخم خيال أسطوريّ في الشعر العراقيّ، ولن أجدني مبالغاً إذا ما قلتُ: وفي الشعر العربيّ أيضاً. فهذا الخيال يهيمن على كلّ مؤلفاته في الشعر والمسرح، ويتسلل إلى جملته التنظيرية أيضاً. وكلّ مؤلفاته تتعلّق بتاريخ الحضارات وفلسفة الأديان إذ يحمل شهادتَي دكتوراه في هذين الحقلين. ومنذ ديوانه الأول: يقظة دلمون، الذي صدر ببغداد في العام 1980 بعد عام واحد من تولّي صدام حسين رئاسة الدولة ومجلس قيادة الثورة وأمانة حزب البعث، اتّجه إلى التنقيب عن الشعر في الأساطير بغية إيجاد معادل موضوعيّ لواقع يشبه الأساطير في كثير من تفاصيله، ومن ثمّ اتّجه إلى التنقيب في عالم الفلكلور الشعبيّ ليعثر على الحكمة في أفواه من سحقتهم أقدام السلطة والاستبداد. وهكذا كانت الحداثة الشعرية بالنسبة له، حداثة قطيعة مع التراث الشعريّ المكتوب باللغة العربية وبلاغتها وتزويقاتها اللفظية وصورها البلاغية التي وقفت عاجزة عن محاكاة الواقع الذي أذاب الحدود والفواصل بينه وبين الخرافة والأسطورة، إذ يعتقد بأنّ الشعر الحقيقيّ ماكث في الأساطير والسحر والرقى والتعاويذ ومجمل التراث الميثولوجيّ والتراث الشعبيّ. ولأنّ الميثولوجيا منجمّ غنيّ باللامعقول، فإنّ التطوّر اللاحق للنصّ الذي يكتبه الماجدي هو اكتشافه بأنّ الشعر مسرح، والمسرح شعر. فكان أنْ وجد في مسرح اللامعقول والمسرح التجريبيّ لدى انطوان آرتو ويوجين يونسكو وبيتر بروك وصموئيل بيكت وستانسلافسكي، مسرحاً يتماهى في الشعر. كان هؤلاء، ولاسيما انطوان آرتو، يعتقدون بأنّ الحركة الصامتة يمكن أنْ تنهض بوظيفة التعبير المسرحيّ، فالكلام في رأي آرتو لا يعتبر من: ( أدوات التعبير المسرحيّ ومن ثمّ لا مكان له في المسرح). [ مسرح الاحتجاج والتناقض- جورج ولورث- ترجمة الدكتور عبد المنعم إسماعيل- ص37]. ويعلّل آرتو نظريته المسرحية هذه بأنه: ( إذا كان الاتصال الفكريّ من خلال الكلام هو غاية ما يهدف إليه المسرح حقّاً فإنه لا يكون هناك معنى على الإطلاق لتحمّل المشقة الهائلة والتكاليف الباهضة التي يتطلبها إخراج مسرحية ما، فمن الواضح أنّ قراءة المسرحية يعدّ عملاً كافياً في هذه الحالة، إذ في إمكان الواحد منّا أنْ يفهم الكلمة المكتوبة بنفس السهولة التي تفهم بها الكلمة المنطوقة). [ ص38- المصدر السابق]. ولاشكّ في أنّ آرتو يبحث عن مسرح له القدرة على تشكيل طابعه المسرحيّ من خلال عناصره الخاصة لا من خلال الاستعانة بعناصر خارجية. وجدت هذه النظرية لها قبولاً في المسرح العراقيّ الثمانينيّ، وقدّم المُخرجان: عوني كرّومي، وصلاح القصب، مسرحيات تجريبية أثارتْ جدلاً واسعاً في الوسط المسرحيّ العراقيّ في ذلك الوقت، إذ اصطلحا عليه: مسرح الصورة. انجذب خزعل الماجدي بقوة إلى مسرح الصورة وقدرته على التعبير المثير، فكتب مسرحيتَيْن مطلع التسعينيات أخرجهما الدكتور صلاح القصب، وهما: عزلة في الكريستال - بغداد 1990 وحفلة الماس – بغداد 1991. وصار لا حقاً، ينظّر لـ " قصيدة الصورة" باعتبارها الشكل الأكثر تطوّراً، والشكل الأنسب لمسار الحداثة الشعرية. ولد خزعل الماجدي في العام 1951 بمدينة كركوك الغنية بالنفط والفقراء والنزاعات. وهي مدينة ذات نسيج اجتماعيّ إثني. وبالرغم من ذلك، فهي مدينة ذات حضور في المشهد الثقافيّ العراقيّ في ستينيات القرن الماضي. فقد تكوّنتْ فيها جماعة من أكثر الجماعات العراقية إيماناً بمفاهيم الحداثة، وهي "جماعة كركوك" ولمعتْ فيها أسماء عديدة كسركون بولص وفاضل العزاوي وصلاح فائق وجان دمو وجليل القيسيّ ومؤيد الراوي وآخرين، تركتْ أثراً كبيراً على الشعرية العراقية والأدب العراقيّ. في ذلك الجوّ الثقافيّ المحتدم في الستينيات، كان لهذا الشاعر أنْ يندمج بذلك الجوّ المثير والغنيّ ثقافياً. أراد الماجدي أنْ يبحث في الشعر عن طريقة متميّزة في إيصال رسالته، فاتجه كلياً إلى النبش في الأساطير ثقافياً وجمالياً لتخصيب خيال خلاق قادر على الإحاطة بتفريعات المأساة العراقية المديدة عبر تقلبّات التاريخ وأدواره. وظّف خلفيته الثقافية في دراسة التاريخ والحضارات القديمة والأساطير والمثيولوجيا في كتابة نصّ شعريّ موغل في المتون الأسطورية العراقية. وعلى الرغم من مآخذ النقاد على ذلك الاستعمال المفرط في استعمال الأساطير الذي غلّف نصّه الشعريّ بغموض شديد وعدم انكشاف معناه. وشيئاً فشيئاً ترك استعمال الأسطورة والتعمّق في دراسة أصولها خيالاً طاغياً على كلّ أعماله في الشعر والمسرح، حتى أنه بلغ مرحلة تكوين نصٍّ ذي مزايا أسطورية، وهو ما أطلقتُ عليه سابقاً بـ: النصّ التكويني. إن مفهوم ( النصّ التكويني) الذي اقترحته بوصفه مدخلاً لدراسة شعر خزعل الماجدي، إنما هو مفهوم خاص بشعر هذا الشاعر قد لا ينطبق على غيره من الشعراء. وهو ليس مفهوماً مفترضاً على نحو مسبق، بل هو مفهوم ساعدني على اكتشافه النصّ الشعري لخزعل نفسه. وما أعنيه في ذلك، هو أنّ صفة ( التكويني) لا تتضمن ذلك المعنى المنحدر من البنيوية التكوينية، بل من (التكوين) بمعنى: الخَـلْق)، كما في ( سفر التكوين)، فمعنى ( النصّ التكويني) هو قابليته المستمرة على تكوين، أو تخليق عناصر الموضوع، وعناصر النصّ الأسطورية. كلمة ( التكوين) تتضمن في الثقافة العربية دلالتَيْن: الأولى، دلالة قديمة مشبعة بجوّ التراث، والأسطورة، وإعجاز الخلق، فمعنى ( كوّنَ الشيءَ): ركَّبه بالتأليف بين اجزائه، ( كوّنَ اللهُ الشيءَ)، أي: أخرجه من العدم إلى الوجود، فهذه الدلالة إذن تتعلق بالكينونة، وذات علاقة بدلالة ( الخَلْق)، ومفهوم ( التكوين) عندي يقترب كثيراً من معنى (التخليق/ الاختلاق)؛ أي: اختراع عالم متحرّك وحيويّ من العدم عن طريق الفن. أما الدلالة الثانية، فهي حديثة العهد في ثقافتنا، وهي لحدّ الآن لم تدخل ضمن مواد المعجم العربي، وتشير إلى مضمون سوسيولوجي تبلور بعد سيادة الفكر البنيوي، الذي هو ردّ فعل عليه، ويرتبط بأطروحات جورج لوكاش، ولوسيان غولدمان، على نحو مباشر. وهو محاولة للخروج من مأزق معرفي في رؤية الأدب ودراسته. وميزة ( النصّ التكويني) وتمثلاته في شعر خزعل الماجدي، هي أنه يقوم على نحو شامل بتخليق/ اختلاق اللغة، والصورة المشهدية، وأنه نصّ يتكون من نصوص عدّة، نصّ يتنفس برئات عدّة، نصّ خرافيّ له أكثر من رأس وأكثر من قدم وأكثر من لسان كأنه مجموعة أعضاء لكنها تنبض بقلب واحد. وبخلاف ( النصّ المفتوح) الذي يختزل الشعر في الشكل أو التجريب الشكلي، فإنّ (النصّ التكويني) هو التوصيف الأكثر دقّة في التنظير لنصّ شعريّ قادر على تمثيل العالم وموجوداته خير تمثيل، والأهمّ من ذلك هو أنه يرسم الحدود الفاصلة بين ( الشعر)، و( أشكال التعبير الأخرى). وما لحظته في شعر خزعل، هو أنه يستجيب لحركة الأفكار التي فعلت فعلها في تطوّر البنية الجوهرية للشعر. هذا يعني أنّ تعاليم الفكر الحداثي، أو تعاليم التطور المادي للحضارة بمختلف وجوهه، قد ترك آثاراً واضحة على هذا النشاط الروحي؛ أعني كتابة الشعر. وفي هذا النوع من الشعر، تتحول الروح من طابعها الفردي، إلى طابع شمولي جمعي، تتصل عبره بـ ( الروح الجمعية للبشرية) عبر ما خلفته من موجودات وموروث شمولي. وليست ( الأسطورة) إلا وسيطاً لتمثيل ذلك (الاتصال) التواصلي مع (الروح الجمعية). في مرحلة من مراحل الثقافة العراقية الحديثة، كانت الأسطورة تمثل قناعاً للذات، وفي مرحلة متأخرة منذ بداية الثمانينيات تحولت إلى ( ذات جمعية) تبحث عن ( المعرفة) لا عن ( الهرب)، أو( النكوص) إلى العالم الباطني الأكثر ظلامية، بل إلى عالم يحمل مشعل البحث عن المعرفة الأبدية. إنّ النصّ التكوينيّ يشبه أفلام الرسوم المتحركة " 3D" التي انتعشتْ مؤخراً، والقائمة على التمثيل ثلاثيّ الأبعاد لتجسيد الخوارق التي تفوق قدرة الممثل والمخرج على التجسيد. وهكذا فإنّ اللغة الأسطورية تقوم بدور الرسوم المتحركة في الفيلم الكارتوني. إنّ اللغة الأسطورية تتيح لخزعل الماجدي أنْ يعوّض الموت في الحياة بتخليق جميع موجوداته، يركّب لها أعضاءً بشريّة، ويضخّ فيها دماً ونبضاً عبر تخليق الأساطير شعريّاً، عبر تناسق تلك المخلوقات الأسطورية العجيبة، وتتيح له كذلك تأبيد الزوال، والانتصار على الزمان المحدود الذي يوفره استعمال الاستعارة والكناية. |
|
رجوع
|
|
مقالات اخرى لــ ناظم عودة
|
|
|
|
|
انضموا الى قائمتنا البريدية |
| | |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|