نقاش :
لم يعد بوسع المزارع محمد عزيز، ان يزرع أرضه بالخضار كما فعل طوال سنوات، فنهر تانجرو المنساب قريباً من أرضه، لوثته مجاري الصرف الصحي القادمة من السليمانية، فأجبر مع عدد كبير من المزارعين الآخرين على ترك أراضيهم، أو الاكتفاء بزراعة الأعلاف لمواشيهم.
هذا المزارع البالغ 55 من عمره، يشعر بالأسف كلما وقعت عينه على أرضه التي كانت خصبةً ذات يوم، ويزرعها بشتى المحاصيل، ويشير الى انه تحول الآن الى مستهلك للخضار مثل غيره من المواطنين.
نهير تانجرو كما يطلق عليه الأهالي، نهر صغير يمر جنوب غرب مدينة السليمانية، بعد أن يتشكل من عدة مصادر مائية تنبع شمال المدينة. وقديما كان هذا النهير يستخدم لري الاراضي الزراعية الواقعة في اطراف مدينة السليمانية، خصوصا منطقة تانجرو وقراها، ومن هناك كانت السليمانية تحصل على مايسد حاجة مواطنيها من الخضراوات.
عدا المصادر المائية التي يتكون منها النهير وهو في طريقه الى بحيرة دربنديخان، تصب في فيه مياه الصرف الصحي لمدينة السليمانية، وهو ما أدى إلى تلوثه على نحو خطير.
المزارع محمد عزيز، لفت الى ان مياه النهر لم تكن نظيفة في السابق، لكنها كانت تفي بغرض الزراعة، لان جزاً كبيراً من مياه الصرف الصحي لم تكن تصب في النهير، بل في أماكن أخرى، أما بعد ان أنشاء المجرى الصندوقي في السليمانية عام 2005، أصبحت المياه الثقيلة تصب بشكل كامل في النهير، وتسبب ذلك في تلوث المنتجات الزراعية في حوض النهر، فقل عليها الطلب حتى وجد المزارعون أنفسهم في نهاية الأمر عاطلين عن العمل.
د.رزكار جرجيس مدير قسم الحماية الصحية في مديرية صحة السليمانية، أكد تلوث المنتجات الزراعية التي تسقى بمياه نهير تانجرو لأنها "مياه ثقيلة"، وما تنتجه مزارع المنطقة من خضراوات تحتاج الى معالجة طويلة بالغسل قبل أن تكون صالحة للاكل، والا فانها ستؤدي الى الاصابة بامراض مختلفة منها الاسهال والحمى وامراض اخرى.
ويوضح الدكتور رزكار ان أنواع الخضراوات التي تأخذ أوراقها شكل تعرجات كالخس والكرفس والمعدنوس، معرضة للتلوث أكثر من غيرها، فإذا تم سقيها بمياه ثقيلة، يتوجب على المستهلك غسلها لمدة نصف ساعة في الاقل باستعمال المنظفات ومواد أخرى كالملح والبرمنكنات.
ولهذا قامت مديرية صحة السليمانية، بحظر تداول خضراوات منطقة تانجرو، خصوصا في فصل الصيف، ويبرر د.رزكار ذلك في أن هناك أماكن تقدم كميات كبيرة من الخضراوات للمواطنين يومياً، كالمطاع على سبيل المثل، ولا توجد ضمانة أكيدة أنها تغسل كما يجب، لذا لجأت مديرية الصحة الى خيار المنع حفاظاً على الصحة العامة.
ولأن الحكومة لا تستطيع منع زراعة الخضراوات بشكل كامل في المنطقة، بسبب ان المزارعين يعتمدون على هذه الزراعة كمصدر رزق، ومنهم من تشبث بزراعة الخضراوات رغم المحاذير، يرى مدير الحماية الصحية، أن مياه الآبار الارتوازية، هي البديل المناسب عن مياه تانجور الثقيلة، وان الجهات الزراعية يمكن ان تقدم دعماً بهذا الاتجاه وفق خطط مدروسة.
قبل سنوات قليلة، كانت الأراضي الزراعية في منطقة تانجرو، تغطي حاجة السليمانية من الخضر، والفائض منها يورد الى المدن القريبة، ولكن بعد تلوث النهر، تبدلت الأدوار، وأصبحت السليمانية هي المستوردة، هذا ما أشار اليه المتعاملون في سوق الخضراوات والفواكه.
أحدهم وهو برهم بكر، أكد لنقاش، ان انتاج السليمانية من الخضراوات تراجع خلال خمسة اعوام بنسبة 70%، وأصبحت مدن ومناطق مثل بازيان وتكية وجمجمال وكلار الواقعة جنوب مدينة السليمانية هي من تؤمن حاجة السليمانية من الخضراوات.
إحصائيات رسمية أجرتها مديرية زراعة السليمانية مطلع العام الحالي، وقارنت فيها بين ثلاثة اعوام، توصلت الى أن الإنتاج الزراعي منخفض بدرجة كبيرة، وقد يستمر الانخفاض إذا لم يحقق التدخل الحكومي نتائج ملموسة.
وبموجب الاحصائيات، فان كمية الخضراوات والفواكه التي دخلت وخرجت من علوة السليمانية (سوق الجملة) عام 2008، بلغت 76 طناً، تم استيراد 59% منها. وفي التالي، انخفضت الكمية الى 59 طن، 76% مستوردة. وعادت الكميات لترتفع على نحو طفيف في عام 2010 لتبلغ 62 طناً ، 47% منتجة في مزارع السليمانية، بينما جاءت البقية من أماكن أخر.
شمال عثمان عبدول مدير التخطيط في مديرية زراعة السليمانية، يطرح عدة اسباب إضافة الى تلوث تانجور، أدت مجتمعةً الى تراجع الإنتاج الزراعي في السليمانية، أهمها التغيرات المناخية التي طرأت على العالم ولإقليم كردستان حصة من تلك الغيرات المناخية السلبية على الزراعة.
ويضيف عبدول سبباً آخر يتمثل بالتصميم الأساسي الجديد للسليمانية، والذي حول أجزاء من الأراضي الزراعية المحيطة بالمدينة الى أراض سكنية، الأمر الذي أدى الى توقف الكثير من المزارعين وبشكل نهائي عن مهنتهم الوحيدة التي يعرفونها.
مدير التخطيط، عبر عن تفاؤله بما يمكن ان يتحقق في سنوات مقبلة، وقال بان خططاً وضعت لزيادة الإنتاج الزراعي، خصوصا الخضراوات والفواكه، ليس في السليمانية وحدها، إنما في جميع مناطق إقليم كردستان.
وتابع عبدول: حكومة الإقليم قامت بخطوات ملموسة، للحد من التراجع الزراعي، من خلال توزيع البيوت البلاستيكية على الفلاحين، لتسهم بذلك في زيادة مرصودة للإنتاج، وأقدمت فضلاً عن ذلك على منح المزارعين قروضاً زراعية تصل مبالغ الخاصة منها بالمشاريع الكبيرة الى نحو 100 مليون دينار عراقي (مايقارب 85 الف دولار أمريكي).
عبدول يرفع من سقف تفاؤله ويؤكد أن السليمانية ستعتمد على نفسها قريبا في انتاج الخضراوات، وستكتفي ذاتيا فيما يخص الكثير من المحاصيل الزراعية الأخرى. |