|
|
(أساتذة الوهم) لعلي بدر: في العراق حيث الشعر يقاتل الحرب و الواقع |
|
|
|
|
تاريخ النشر
28/08/2011 06:00 AM
|
|
|
لم يكن الروائي العراقي علي بدر يتوقع ان يعود بالذاكرة الى أعوام خلت من حياته بمجرد تسلمه المفاجئ رسالة مضطربة من روسيا. يقف أمامها متلعثماً. كيف لا وبين كل كلمة من كلماتها تتغلغل صورة، ويقطن مشهد. انها ذكريات العام 1987 في خضم الحرب العراقية - الإيرانية حيث تدمير الصداقة بالقتل وحيث الاعدام هو النهاية الوحيدة المتوقعة. ثلاثة: الكاتب (مسترجعاً حوادث تلك الحقبة من دون ان يتخذ من نفسه محور الرواية)، وصديقاه عيسى ومنير، يجتمعون في رواية "أساتذة الوهم" (المؤسسة العربية للدراسات والنشر)، عاكسين ببعدهم الأنطولوجي الصورة الحقيقية لمجتمع أكلته التشوهات والصراعات والإيديولوجيات المتوحشة في مرحلة حكم النظام البعثي العراقي في الثمانينات. رسالة واحدة من شقيقة منير ترمي الكاتب في دوامة لامتناهية من الإحالات: مقتل منير في الحرب، واعدام عيسى بتهمة الفرار من الجيش والخيانة العظمى. يبقى بينهما ناجياً من موت جسدي، وميتاً منذ أعوام بمقصلة مرعبة من ذكريات أليمة نرديه منهاراً على قدميها رغم محاولته عبثاً مقاومتها بالنسيان والاستمرار. كانوا ثلاثة رفاق في الجيش العراقي في مواجهة الفيالق الايرانية المتقدمة. لكن الشعر بسحره الغامض هو ما يجمع نفوسهم وميولهم قبل الجيش والحرب في قالب ثلاثي البعد، ما كان ليفرّق محتواه أحد سوى الموت. صندوق مغلق من الحوادث الدرامية، يفتحه علي بدر أمام القارئ ببطء تكتيكي يتعمّده أحياناً. يبدأ بنسج السياق الروائي بطريقة العد العكسي: من حاضره المعيش الى ماضيه الفوضوي، الذي لا ينفك يطارده أياماً وسنوات. لا يناور أمام القراء، وخصوصاً البغداديين منهم، فيترك لنفسه مهمة السرد الكرونولوجي لمغامرات بطلين اثنين مختلفين بقدر ما هما متشابهان: عيسى ومنير. لا ينال منير الحيز الذي يعطيه الكاتب لعيسى. لعل ذلك يعود الى رغبة لا واعية أو ربما واعية لديه بالتميّز الكتابي عبر اعطاء دور البطولة لشخصية عيسى الديالكتيكية المتناقضة التي تجابه الحرب بالكتب، والموت بالشعر. وهو ينجح في ذلك. يعشق منير الروسية أدباً وشعراً (والدته روسية)، ويدعي أمام صديقيه اتقانها كتابة وترجمة، الأمر الذي يكتشف الكاتب بعيد مقتل منير خلوه من الصدقية. يؤمن بالميتافيزيقا وبالتنبؤات، وكان نوستراداموس مثاله الأعلى. الكتب، الأثاث، الماء، الهواء، الصمت، وكل ما يعود اليه يعبق بالرائحة الروسية. يسير في شوارع بغداد متخيلاً قدميه تحلقان به في سماء بطرسبرغ. يعيش في عالم الماوراء، ويتعمق في فكرة الموت، حتى لا يعود يدهشه شيء. يكتب عن الموت ليتفاداه، متأثراً حد الذوبان الكلي والتماهي المرضي بديوان "أناشيد" للشاعر "الاستثنائي الخارق" الدكتور في وحدة الميدان الطبي ابرهيم فاوست. يمتاز الدكتور ابرهيم بغرابته وجنونه وروحه الشيطانية الميتة وسط هذا العالم الساحر، المراوغ والمغامر. الأشباح والخفافيش والمخلوقات الشريرة تسكن منزله ونفسه، فترغمه على بيع روحه للشيطان وانما بإرادته المطلقة. هو تجسيد صارخ لصورة ميت في صورة حي، وكل ما يصدر من شعره هو من وحي موته، لا من وحي حياته. إذاً هو الذي يلهم منير مذ تعرف اليه حتى لحظة اعدامه (الطبيب)، وهو الذي ينكر فكرة الجيل، ولكنه قد يمثّل الجيل كله أيضاً، الذي عاش في زمن الحرب غريباً تماماً، كما لو كان روحاً شاردة أُلقي بها من عالم آخر؛ وهذا هو سبب خياله المظلم، الذي يدفعه نحو أخطار عدة عبثاً يحاول ان يتجنبها بالشعر. أما عيسى، فشخصية متناقضة غريبة الأطوار، تعاني فصاماً يكاد يكون مرضياً. يعيش التناقضات المرعبة من أول الرواية الى آخرها. لا يهتم بالسياسة برغم خدمته الالزامية في الجيش، واشتراكه من دون رغبة في التصدي للقوات الايرانية. يعشق الشعر حد المرض والجنون، يبني عوالم اريستوقراطية له من الكلمات، قاهراً فقره بالخيال، وقبح وجهه بجمال القصائد. يهرب من الجيش أثناء الحرب، ويبقى ثلاثة أشهر طليقاً متخفياً بطرق مختلفة، لكنه يسلّم نفسه في ما بعد، أثناء العفو العام عن الهاربين من الجيش الصادر في كانون الأول 1987، لكنه يتهم بتأسيس تجمّع سياسي محظور، ويتم اعدامه بعد اسبوع واحد من تاريخ القبض عليه. رجل المفارقات الذي ينتشي بالشعر فيما غيره ينتشي بالرغبة الجنسية. يكتب بدر: "كنا نعيش فزعاً حقيقياً، كنا نحاول ان نقفز فوق اللغة، لكننا فشلنا، نعم كلنا فشلنا، تعثرنا وسقطنا واستقر أنفنا تماماً فوق الجثة". لم يكن الشعر محاولة للوصول الى الكمال، بل رغبة مصرّة في تشويه حياته التي لم يتقبلها يوماً كما هي. انها الغربة المرعبة داخل الوطن، الغربة الحقيقية عن المجتمع الذي عاش فيه وتربى فيه ثم فيه أُعدم. كان ينظر الى العالم عبر استعارة كبيرة، فهو ليس حقيقة، بل قسوة مفرطة تعبّر عن نفسها بالصراع. ينكر حياته طالما لا تشبه حياة بودلير أو إليوت أو بافيزي، متخذاً لنفسه حياة أخرى، مختلفة، وهمية، حياة كتّاب وشعراء آخرين، مدعياً أشياء لم يصنعها في حياته، انما اتخذها لنفسه من خلال قراءة سير هؤلاء الكتّاب والشعراء الغربيين الذين ظهروا له مثل أشباح سعيدة، لا تمحو أصواتها صرخات رياح الليل، ولا لعنات رجال الدين ذوي الأرجل الدودية، ولا تغيبهم توابيت موتهم. يظهرون له في غاية الوضوح، مثل أعمدة معبد، لا خطب الحزب التي تتلوها الشفاه الشمعية الباردة تمحوهم، ولا العيون الميتة والجفون القاسية من الضباط يمكنها ان تراقبهم. فكيف يمكنه ان يكون شاعراً عالمياً وهو في بغداد؟ يقول الكاتب واصفاً حاله: "انه لا يرى سوى مدينة عفنة لا تشبه الا صدف السمك الميت، انها قفص، لا نجوم ولا غيوم ولا سلالم، مدينة بلا رجال أو نساء، انهم ليسوا بشراً، انهم حيوانات مفترسة بأذناب ومخالب، كلماتهم نوع من الهجاء، كلمات جارحة، حروف حلقية متفجرة، عربية أشبه بانفجار الحديد والبرمنغنات". فأي معنى لحياته فيها؟ يجيب الكاتب: "حياته هنا لا تعادل ان تكون قفصاً، وهو يدور على قرع الطبول، بينما هناك شخص واحد في الأعلى (بمنزلة "الأخ الأكبر" عند جورج أورويل)، ديكتاتور بلا أسنان، انه القائد". ما هو هذا القدر التافه الأحمق الذي جعله يعيش في هذا البلد؟ خطأ إلهي من نوع ما أسقطه سهواً في بغداد بدلاً من واشنطن أو لندن أو موسكو أو باريس. بلا إضافات أو ملحقات، يقرر ان يكتب بيديه وثيقة ولادة جديدة بعيدة عن المصير الكريه الذي اسمه "محلي". ينظر في المرآة، وبدلاً من ان تبرز صورته، يبرز بورتريه الشاعر الانكليزي شيلي ملونة، أو صورة اللورد بيرون بالأسود والأبيض! الكتابة عن أصدقاء قتلوا جميعاً أمر ليس سهلاً بتاتاً ولا سيما في زمن الحرب وفي بلد الكل شيء واللا شيء مثل العراق، أما ان يكون هؤلاء الأصدقاء جنوداً وشعراء في آن واحد فهنا الحلقة الأضعف. صراع الحضارات بأبعاده النفسية جميعها، يرمي بظلاله الثقيلة على الرواية، ولا سيما القتل الهمجي للشعراء إبان الحقبة الستالينية والحرب الكونية الثانية في روسيا، كذا في الحقبة البعثية أيام صدام حسين. بأسلوب سوريالي مكثف، يتخلله الكثير من الاستطراد التفصيلي المقصود الذي يطل بين الفينة والأخرى من وسط الحوادث التراجيدية الرئيسية، تنتهي الرواية. الخلاصة سوداوية مرعبة. موت وحشي. ذكريات قاتلة. وقائع متناقضة. حروب متسلسلة لا تتوقف وان انتهت المعارك العسكرية. شخوص متمردة في داخل كل منها أكثر من شخصية وهمية- حقيقية، وأكثر من رسالة في أكثر من اتجاه. رواية أقل ما يقال عنها انها تحقق الكفايات، وتعطي "أساتذة الوهم" الثلاثة حق ذكراهم، بكل جدارة. |
|
رجوع
|
|
مقالات اخرى لــ فاطمة عبد الله
|
|
|
|
|
انضموا الى قائمتنا البريدية |
| | |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|