تبدو روسيا اليوم في موقع كاريكاتيري. ظاهرا هي تواصل الحماسة السوفيتية القديمة في الاعتراض على الغرب (كما تفعل الصين). فكل ما يأتي من الاخير شر وإثم. لكن دور الملاك الطاهر آخر ما يناسب بوتين او رئيسه ميدفيديف، اللذان تبادلا المواقع في لعبة طريفة: خذ كرسيي واعطني كرسيك.
بعيدا عن الطرافة، سياسة روسيا مأساوية، بل مدمرة لها وللعرب. فازاء المذابح في ليبيا وسوريا، مثلا، لا تكتفي بالتزام الصمت ازاء الدم المسفوح، بل تعارض ادنى نقد وضد ادنى عطف على مطلب الحرية السياسية. لكأن الشعب السوري او الليبي قطيع خراف لا قيمة له بالروبل! ثمة من يؤول الموقف الروسي بارجاعه الى العلاقة القديمة الخاصة بحكومات هذين البلدين وغيرهما، والى المصالح الاقتصادية، والمبيعات العسكرية، الضخمة، بمعاهدة او بدونها.
اعتمادا على هذا القول، يخلص كثيرون الى ان ثمة استمرارية مصالح في المنطقة من العهد السوفييتي الى العهد الروسي. لكن ثمة حجة معاكسة. فهناك من يشعر بالفجيعة، ازاء تحول روسيا من "نصيرة" شعوب ايام مجدها السوفيتي المفترض، الى نصيرة مستبدين ايام تدهورها الاكيد في العهد الليبرالي المفترض. وفق هذه الرؤية ثمة قطيعة روسية مع الماضي. قد يفتش المرء عن علل ظرفية كثيرة، تميل الى فكرة الاستمرار والتواصل او الى فكرة الانقطاع والقطيعة.
وبودي ان اغامر بولوج حقل اخر للتفسير.
هذا الحقل هو الاحتقار المديد للديمقراطية الذي اسفرت عنه روسيا منذ زمن تأسيسها ايام لينين، وهو احتقار فكري وبنيوي، اعني انه يقف في صلب الخطاب الفكري الروسي، سيان ان كان برداء بلشفي ام بدونه، مثلما انه ماثل في صلب النظام السياسي، قبل ام بعد تفكك الاتحاد السوفيتي.
فالثورة الروسية، منذ بدئها، اعتمدت صيغة الحزب الحديدي، المركزي، شبه العسكري، وهي صيغة مناقضة تماما لحياة وعمل احزاب الاشتراكية الديمقراطية عهدذاك المتميزة بحرية النقاش والانتخابات الداخلية الخ. (اواخر القرن 19 وبداية ق 20). وقد اعترضت معظم العقول الماركسية عهدذاك، من روزا لوكسمبورغ الى بليخانوف، الى غرامشي، على فكرة وواقع "الحزب الممركز". روزا لوكسمبورغ حذرت من خضوع الطبقة للحزب، والحزب لـ "الآنسة اللجنة المركزية" (حسب تعبيرها)، وخضوع اللجنة للامين العام: مستبد جديد. اما غرامشي فقال ان الحزب اي حزب هو نتاج تنظيمه المجتمعي. في الغرب ثمة مؤسسات تعلم الافراد، الانضباط والتعاون الطوعي والديمقراطي(المصانع-الشركات-النقابات الخ)، وهو ظاهرة عادية في المجتمعات الصناعية، اما في روسيا (والكلام له) فان الافتقار الى هذه المؤسسات يستعاض عنه بمركزية التنظيم الحزبي، لا ديمقراطيته. اخيرا حذر بليخانوف (الذي رفض الصيغة المركزية للحزب) من ان روسيا بلد فلاحي (سكان المدن 15% انذاك)، وان هذه القاعدة المجتمعية (اقتصادا ومؤسسات وسياسة وثقافة) تقود لا محالة الى قيصرية (اي نظام استبدادي) حتى لو ارتدت رداء بلشفيا! وهذا ما كان.
لن ننظر الى ذلك باعتباره "الخطيئة الاولى". فثمة الخطيئة الاكبر. فبعد ثورة اكتوبر كان اول قرار للحزب البلشفي هو الغاء مجلس الدوما (النواب) باعتباره "رجعيا"، واحلال مجالس السوفيتات محله. لم يكن للبلاشفة سوى 23% من مقاعد المجلس. اما السوفيتات فكانت منظمة سياسية، وليس مؤسسة دولة، ولا تمثل كل المجتمع، رغم ادعاء العكس. وقد نعى الاشتراكيون الالمان على لينين الغاء مجلس الدوما. بل ان روزا لوكسمبورغ مثلا سخرت من قرار الغاء البرلمان بحجة رجعيته، مقترحة بديلا عقلانيا: انتخابات جديدة.
روسيا الثورة كانت روسيا فلاحية، حرفية، تفتقر الى اهم معلمين من معالم العصر الحديث: الصناعة، والديمقراطية، الشرطان الاساسيان لاي تطور مجتمعي يريد او يتخيل، او يتمنى ان يتجاوز المجتمع الرأسمالي الحديث.
لم تكتف روسيا بايهام نفسها، وهي تباشر التصنيع تحت الكرباج، وترسي دعائم نظام توتاليتاري باسم الوعد اليوتوبي، بانها هي النموذج الاوحد والوحيد لاي تقدم، بل فرضته فرضا على الجميع حيثما امكن: اوربا الشرقية، الصين، جنوب شرق آسيا، كوبا.
ولم يكن هذا النموذج بحاجة الى كثير اغراء لغواية الحركات الراديكالية القومية في العراق، وسوريا، ومصر (لفترة)، والجزائر واليمن، فقد كانت جاذبيته اكبر من ان تقاوم: وعد بالتقدم، سند دولي، مصدر للتسلح، استبداد مطلق باسم شرعية ثورية. لقد صاغ السوفييت نموذجهم للبلدان الصناعية الاوربية، لكن غوايته في العالم الثالث دفعتهم الى اصطناع نظرية "التطور اللارأسمالي"، ودفع الاحزاب الشيوعية الى القبول بها وترويجها.
وكان العالم العربي مهيأ لمثل هذا القبول والتلاقي. ففي الحقبة الاستعمارية عمد الغرب وتحديدا انكلترا وفرنسا الى الهيمنة على المنطقة. ولهذه الهيمنة ثلاثة ابعاد: اولا بناء نظام برلماني دستوري سياسيا، وثانيا، توسيع الاستثمارات الاقتصادية (النفطية وغيرها) وثالثا، زج البلدان الصغيرة، حديثة العهد في منظومة الاحلاف العسكرية والصراع العالمي.
حركات الاحتجاج اليسارية (الماركسية والقومية) ركزت، في مراحلها الاولي، وبحق، جهدها ضد العاملين الثاني والثالث (الاستثمار الاقتصادي والاحلاف العسكرية) ولم تمس البعد الاول بل اعتبرته تحصيل حاصل. ويمكن للدارس ان يلاحظ ان البرامج السياسية للاحزاب الشيوعية وحزب البعث تتمسك بالديمقراطية الدستورية، حتى نهاية الخمسينيات. بتعبير اخر كانت تعتبر الديمقراطية السياسية تحصيل حاصل . لكن هذا البعد سرعان ما تلاشى خلال ما يعرف بـ"الحقبة الثورية"، حقبة الانقلابات العسكرية، التي اسفرت عن نظم الحزب الواحد، وعن تحالف اليسار الماركسي مع اليسار القومي بعد احتراب لعقد او نحوه.
هذا التحول نحو الازدراء العربي الكامل بالديمقراطية لم يكن مصادفة، بل وليد مؤثرات ايديولوجية من روسيا السوفيتية، التي رحبت بانظمة الحزب الواحد، باعتبارها وليداً على صورتها.
ولم يكن الغرب الليبرالي بلا ذنوب. ففي حقبة الحرب الباردة (اواخر الاربعينات) كان الصراع الاساس في نظر القوة الاميركية العظمى، هو منع اليسار من الاتساع، وتطويقه بأي ثمن. مثلما ان روسيا السوفيتية، كانت تسير في اتجاه مماثل. وهكذا جرى التسابق على كسب "الحلفاء"، باي ثمن، بانقلاب او بدونه، بمؤامرة او بمؤامرة مضادة.
كان ذلك عيد الدكتاتوريات من كل شاكلة. البس الرداء الاشتراكي (مثل النميري في السودان وسيادبري في الصومال) يأتيك السوفييت بالسلاح والمال. وانزع هذا الرداء والبس العمامة (كما فعل النميري) يأتيك العم سام بالدعم والاسناد.
الخلاصة، بقدر ما يتعلق الامر بروسيا، ان انظمة الحزب الواحد، هي صورتها الخاصة، نموذجها المحبب، وحياتها ما بعد الموت. ورغم تفكيك الحزب الواحد في روسيا، الا ان مفككيه هم اصلا حماته وصانعوه. وهم يواصلون الشكل القديم برداء ديمقراطي مهلهل. لقد ادمنوا على القيصرية.
لا عجب اذن ان يسارع الروس الى ارسال مبعوث كبير الى حسني مبارك قبيل سقوطه، والى البكاء على اطلال القذافي، وذرف دموع الرأفة على نظيره السوري. ولا عجب ايضا ان نرى اليسار المصري غائبا عن الوعي (وعن الفعل)، واليسار التونسي مترددا في معارضة زين العبدين بن علي، وان يكون ممثلو اليسار السوري اكثر المصفقين حماسة في البرلمان السوري الزائف.
الرثاثة الروسية اذ تدافع عن انظمة البؤس الدامي، انما تدافع عن رثاثتها الخاصة، ولكنها تفعل ذلك في لحظة تاريخية من اليقظة في العالم العربي على خطأ فادح: التضحية بالحريات السياسية باسم التقدم الاجتماعي الذي لم يتحقق، والوعد بالتحرر، الذي بقي كلاما. لكن روسيا بوتين ما تزال تحلم بالقياصرة. وبكلمات الجواهري: نسوا لون السماء لفرط ما انحنت الرقاب! |