إذا كان الشارع العربي، بشبابه وشيوخه، برجاله ونسائه، بعماله وطلاّبه وحرفييه وموظفيه قد خرج الى الشارع ثائراً على مؤسسة الحكم، ثائراً على خوفه وتردده، باحثاً عن حريته وكرامته الاجتماعية، فإلى أي الميادين على المثقف العربي أن يتوجه؟ وعن أي حرية وكرامة يجب عليه أن يبحث؟ وعلى أي سلطة عليه أن يتمرد ويثور؟ من يقود حركة الواقع؟ وأي المعادلات تصنع تاريخ التطور الاجتماعي على أرض الواقع وترسم خصائص توجهاته؟
إذا كان بوعزيزي في تونس يقابل "بسكويت" ماري انطوانيت، البديل الرمزي لثورة الخبز والكرامة، فمن هو البديل العربي لفولتير؟ بعد طول سبات، وبعد عميق حيف، وتجرّع مؤلم لأوجاع الاخفاقات السياسية المتواصلة، وبعد معايشة قهرية لتراكم الهزائم العسكرية والسلمية الرامية الى تحقيق انتصار وهمي ما، في جبهة ما، وبعد خيبات أمل مريرة في القوى المسيّرة للحياة السياسية، وخيبة مماثلة في القوى المعارضة، استيقظت شعوب عربية عدة مذعورة وهي ترى في مرآة الواقع، وجه نظامها الاجتماعي القاسي على هذا القدر من البشاعة والقسوة.
بوعزيزي: خبز الثورة العربية الحافي
بدأت الثورة بتونس. كان أكبر مزالق النظام التونسي أنه واجه، باستهانة تامة، شعباً حسبه ميتا تماما، فلم يضع في مخيلته أدنى تصور لإمكان تمرده. كان النظام يقرأ خيبة الشعب مخابراتياً، ويراقب وجوه السياسيين المعارضين بعيون مفتوحة، متابعاً بغبطة، الخيبة العميقة، المرسومة على محيّاهم: عجزهم عن إيجاد حلول سياسية ممكنة، وتركهم السلطة تنعم بسلامها الخاص، في ظل سياسة تتسم بالإلهاء التام للمجتمع اقتصادياً وحقوقياً، وبتجريد المواطنة من مضمونها الإنساني، وقتل أي إحساس بالكرامة البشرية، وتجميد الحركة الحقيقية للتاريخ وحصرها في مظاهر التطور الشكلية، المرتبطة أساساً بقطاع السياحة والمال. وهو قطاع يشغّل عشرات الآلاف من الأيدي العاملة، ظن النظام أنها حليفة له في مواجهة رياح التغيير. لكنه قطاع فاسد، تحتكره شريحة ضيقة من المنتفعين، معبّأ بأوبئة اجتماعية قاتلة، رأت فيها السلطة احتياطياً دفاعياً مضموناً للوقوف أمام أعدائها التقليديين، الأصوليين والثوريين الاجتماعيين. لذلك لم تكن مفاجأة تونس تكمن في قوة الثورة الشعبية فحسب، بل في سوء قراءة السلطة المخابراتية للحالة الشعبية، وضعف تقديرها حدة الضغط الاجتماعي الذي يعاني منه الفرد التونسي، وسوء الربط بين حركة المعارضة السياسية المشلولة ومخزونات المجتمع الاعتراضية الملتهبة. كانت ثورة تونس فورة إجتماعية، مدنية، شعبية بكل معانى الكلمة. في مصر تكرر المشهد، ولكن في ظل تصعيد يومي منسّق للخطاب المعارض، قافزاً بخطوات تدرجية عملاقة من الفورة المطلبية الى ثورة المجتمع المدني (الحرية، الحقوق المدنية، الكرامة)، مستعيدا الأمل بالدور المصري الريادي المفقود قومياً، وتناقض هذا الدور - كحلم وطني- مع حجم المواطنة المصرية المغيبة، مما أعطى الخطاب السياسي الثوري مزيداً من البعد الإنساني والعظمة الذاتية والبريق والجاذبية. إن تراكم الخبرة المصرية البعيدة والقريبة في المقاومة، كوّن محتوى النهوض الاجتماعي المصري. واجهت القيادة الحاكمة خطوات الثورة بسلسلة متصاعدة من ردود الفعل، لم تنبع من واقع مصر الحقيقي القائم على تماسك شعارات الثورة ورياديتها، بل استقتها من أخطاء القيادة التونسية في مواجهة الحدث التونسي، فوقعت في خطأ قاتل، جعل المؤسسة العسكرية تأخذ زمام المبادرة، بعدما أدركت أن رأب الشقة بين الجماهير والسلطة لم يعد ممكناً. في ليبيا أخذت الأمور مساراً مختلفا. حدة السلطة وقسوتها ومركزتها، جعلت اللجوء الى الحسم العسكري خياراً وحيداً. أما تدخل "الناتو" فلم يكن سوى ملحق مساعد في تعجيل نضج الأزمة وفي تحسس مساراتها المستقبلية. كان رد المعارضة والسلطة نابعاً من خصائص الواقع الليبي، وليس استنساخاً كما في تجربة مصر، أو سوء تقدير كما كان في تونس. في اليمن سعت المعارضة الى فرض نموذجها السلمي على الأحداث، مستفيدة من قوة النهوض الشعبي وقدرته على الصبر، بإدراك مسبق أنها تواجه سلطة مارست الدجل والتضليل أكثر من ممارستها شؤون إدارة المجتمع. وكان طبيعياً ومتوقعاً أيضاً أن تحاول السلطة اللعب بكل ما يمكن اللعب به: القبليّة، الجيش، "القاعدة"، الدعم الأميركي، الدعم الخليجي. إلا أن المؤسسة القبليّة وجزءا من مؤسسة الجيش - تحت ولاء قبلي أو ولاء شعبي- أفسدت باتحادها الموقت خطط السلطة، التي واجهت الجميع بلغة نابعة من واقع الحياة اليمنية: القوة السافرة والتضليل المفضوح، جامعة بين النموذجين المصري والليبي. معادلة اليمن تبدو للبعض غير مفهومة. لكنها ليست غريبة على الشعب اليمني. فالمؤسسة القبلية "غير الراضية" تماماً على مؤسسة الحكم، التي جنحت الى التسلط والاحتكار العائلي، لا تريد أن تقتسم النصر مع أحد. بل تريد أن تجيّره لصالحها وحدها. وهذا الموقف مكّن السلطة من أن تلعب على هذا الوتر أيضا، فأعطاها هذا السلوك، مدعوماً بالمبادرات الخليجية والأميركية، مزيداً من الوقت لإعادة ترتيب أوراقها: الضرب بعنف في الجنوب وتعز، والكر والفر في صنعاء. في اليمن صراع بين الشارع المطالب بالتغيير وبين مؤسسة الحكم، سواء مؤسسة الحكم المنتصرة ببقاء السلطة الحالية، أو مؤسسة الحكم الناشئة من انتصار الحاضنة القبلية المتحالفة مع الجيش، التي تسعى الى ايجاد حاكم جديد منبثق من قيم المؤسسة وتقاليدها ذاتها. في البحرين كان ظنّ المعارضين أنهم سيواجهون بمرتزقة أجانب، لذلك تم تأجيل نهوضهم الى ما بعد رؤية بعض نتائج ثورتي مصر وتونس. لكن الأسرة السلطوية الإقليمية العربية فرضت حلاً نموذجياً في إشاراته السياسية والاجتماعية والطائفية: إزالة ميدان الاحتجاج بدلاً من إزالة أسباب الاستياء الاجتماعي، وإنزال قوات سعودية، وجعل المطالبة بالتغيير تدخلاً إيرانياً (خيانة وطنية وتحريضا طائفيا). بهذه الطريقة قلبت معادلات النهوض الشعبي لصالح المؤسسة. درس البحرين كان درساً للسعوديين والعمانيين ولكل من يجاورهم أيضاً. سوريا هي المثل الأكثر تعقيداً في الصراع العربي، لأسباب كثيرة معروفة، أهمها: دعمها للمقاومة الفلسطينية، ووقوفها ضد غزو العراق، ووجود أرض لها تحتلها إسرائيل. لكن تلك الأسباب لم تمنع الجماهير من البدء بحركة مطلبية، محدودة السقف، ترتبط بالحقوق المدنية الأساسية والاصلاح. لقد فشلت سلطة الحزب الواحد البعثية في تقدير حجم المعاناة الشعبية. فلجأت الى النموذج اليمني: الضرب العنيف والتسويف. لكنها أخطأت في الحساب أيضاً. لأن رمال سوريا المتحركة، مدعومة بخلفيات وخبرات دموية وثأرية، لم تزل حية لدى طرفي النزاع، قادرة على تصعيد رد الفعل المعارض الى ما هو أبعد من نهوض مطلبي يتم حسمه بالوعود أو بالشدة. اللعبة التي مارستها البحرين ضد المعارضين، مارستها القوى الأجنبية ضد السلطة السورية: اتهامها باستيراد العنف إيرانيا وتهديدها بالتدخل المباشر. ففي مجرى العاصفة يلعب الجميع لعبته الخاصة. الجزائر المترعة بالعنف الحكومي والشعبي تتململ وتنتظر دورها الانفجاري، الذي لن يكون أقل دموية من غيرها، لكنه سيكون الأكثر عبثية، في ظل تقاطب حاد، أصولي وحكومي، لا يملك أفقاً حقيقياً لبناء مجتمع مدني دستوري بديل، قبل أن تتوضح نتائج الثورة المصرية. الأردن والمغرب الملكيتان، حمتا موقتاً وجودهما، تحت غطاء الأسرة الملكية العربية. سيكون هذا الغطاء التجريبي الطابع المميز إقليمياً للصراع العربي المقبل، وربما يغدو التناقض الأساسي للمجتمع العربي كله خلال السنوات القريبة: مؤسسة حكم عائلية، قروسطية، ذات بعد إقليمي، مدعومة دولياً، مزينة بـ"ديكورات" قشرية عصرية، في مواجهة الحقوق المدنية الوطنية. إن خفوت محتوى الشعار الحقوقي المدني في الأردن والمغرب، الملكية الدستورية المقيدة، ساهم أيضاً في إضعاف حدة النهوض الاجتماعي. فلسطين المحتلة لا تعرف على مَن تنتفض وفي أيّ الميادين عليها أن تتجمع! العراق كان المنطقة الأسوأ احتجاجياً، باستثناء كردستان. لأن دعاة تنظيم الاحتجاج الشعبي، الذين اتهمهم المالكي بالبعثية، كان لكثير منهم ماض بعثي حقاً، وكان جل وجوههم الاعلامية من مؤيدي غزو العراق عسكرياً، يضاف الى ذلك تفكك مكوّنات الشخصية الوطنية. لذلك أحبطت مساعي الفئات اليسارية الضعيفة في تحويل الاحتجاج الى نهوض شعبي، على رغم أن العراقيين أحوج العرب الى ديموقراطية حقيقية والى خدمات الحد الأدنى بشرياً. السياسيون العراقيون الجدد مشغولون ببناء الأحزاب وبناء النفوذ السلطوي، تحت شعار موحد: السلطة من أجل السلطة. السودان لم يزل في منجاة من القلاقل. لأنه لم يزل يلعب لعبة الحرب والانفصال. اللبنانيون المهووسون بفنون اللعبة السياسية، تحوّل تشكيل الحكومات لديهم هدفاً مركزياً، وغدا تحقيق مصالح المجتمع هدفاً أقل من ثانوي (بعد أن تشكل الحكومة يسافر المسؤولون المجهدون لقضاء فترة نقاهة في الخارج!) في لبنان، عكس تونس الغافلة بسبب الطمأنينة الأمنية المبالغ فيها، يقوم التوتر الحاد، والحذر العدائي، باستنزاف الجهد الوطني كله. كما لو أن هدف المجتمع صناعة توازنات حكومية وليس صناعة بناء اجتماعي. أما مقياس الفشل والنجاح فلا يتم رصده من طريق الأداء الحكومي، بل يقاس بطول أعمار الحكومات وقصرها. في لبنان أضحت السلطة وطرق تشكيلها وظيفة الدولة العليا المقدسة، وأضحت المواطنة - كبنية اجتماعية تنظيمية وحقوقية ودستورية وأساس للحكم والبناء الوطني- لا أكثر من كلمة مطبوعة على جواز للسفر، يحق للجميع حمله، والسفر به الى أي بقعة في الأرض، بحرية يحسدون عليها. هذا الاستعراض المسهب لا يضيف جديداً. الوقائع يعرف الجميع تفاصيلها. لكن السؤال الإشكالي هنا هو: مَن المنتصر في هذه المعركة؟ إن المنتصر الأكبر، حتى هذه اللحظة، هو المؤسسة الاجتماعية القائمة. وهنا تكمن خطورة الحدث. إن النتيجة الحاسمة تتعلق بالبناء الاجتماعي وبمنظومة القيم الحقوقية والاجتماعية المتحكمة في مسار الواقع، بصرف النظر عن زوال هذا الرئيس أو بقائه. الى أي مدى يجري التغيير؟ وفي أي اتجاه؟ من هذا العرض نرى أن الثورة العربية تعاني من خلل جدي في تكوينها، ليس بسبب كونها جاءت على يد ثوّار الانترنيت، وهي مزحة صدّقها بعض الصحافيين والمثقفين، الذين خانتهم الثورة. وإنما بسبب كونها لا تملك صيرورة واضحة للحركة. لقد وضعت الثورة مهمة كسر هيمنة السلطات الحاكمة في أعلى الرهان، وقد تمكنت من تحقيقها أحياناً: تونس ومصر. بيد أن البنية الاجتماعية للسلطة لم تزل بعيدة عن معاول الثورة. لهذا السبب يبدو أن المنتصر في النزال، حتى هذه اللحظة، هو مؤسسة الحكم. إن الثورة العربية في واقعها الراهن تشبه عربة جيدة العزم والفاعلية، لكنها بلا طرق تمشي عليها. ثورات تراوح جغرافياً في المكان: الميادين. وتراوح اجتماعياً في سقف السطلة، من دون أن تمس جوهر البناء الاجتماعي. وهذا أكبر مواقع الخلل فيها، على رغم عظمة مثالها، الذي قد يكون إشارة ملهمة في قادم الأيام. حينما وُضع فولتير ضمن أسباب قيام الثورة الفرنسية، لم تكن هناك مبالغة في التقدير، فقد كان حقاً ركناً أساسياً للثورة. هذا ما تفتقده الثورة العربية الراهنة، وهو سبب جدي من أسباب نجاح المؤسسة في عرقلة انتصار الجماهير. لقد فهم كثيرون دور فولتير خطأ حينما فسروا مساهمته تفسيراً مبتذلاً، ظانّين أن الفكرة وحدها قادرة على خلق الثورة. لم تكن أفكار فولتير التحريضية وعياً نظرياً مجرداً. كانت نتائج التصويت في الجمعية الوطنية محسومة سلفاً لصالح تحالف النبلاء والكنيسة، لأن الطبقة الثالثة لم تكن سوى أقليّة. بيد أن عظمة الدور التنويري والتحريضي لفولتير تكمن في تحوّل أفكاره الى قوة مادية، غيّرت إرادات البشر، حينما تجاوزت المواقف حدود الفكر الى السلوك (الفعل)، فمال بعض أعضاء تحالف النبلاء والكنيسة، الى التصويت لصالح مشروع الطبقة الثالثة، الذي فتح الباب لسلسلة من التغيرات أطاحت الحكم والنبلاء وسلطة الكنيسة، أصحاب الأغلبية. إن فكر فولتير، باعتباره قوة اجتماعية، ليس كتاباً للمطالعة تفتقده المكتبة العربية، بل هو تحويل للموقف الثقافي الى فعل اجتماعي وممارسة بشرية، تستطيع تغيير معادلات الواقع.
شيزوفرينيا الثقافة العربية
في ظل عصف الثورات الشعبية بدا المثقف العربي انتهازياً كبيراً في نظر الجماهير الثائرة. هل حقاً أن هذه النظرة السلبية تعبير حقيقي عن واقع قائم؟ ربما هي ناشئة بسبب كون قطاع كبير من المثقفين تربّى على حرفة القمامة الفكرية، لا على التحريض الفكري، التنويري. فبسبب تعدد المجتمعات العربية وتنوعها وكثرتها، أضحى المثقف العربي مصاباً بالفصام الثقافي. فهو ينتقي ما يلائم حاجاته من ايديولوجيات السلطات المختلفة. ويستطيع بضمير مستريح أن يكون مركزياً وطائفياً في بغداد، وانفصالياً عرقيّاً في أربيل، وقومياً في سوريا، وميليشيوياً في بيروت، وفهلوياً في القاهرة، وإباحياً في سوسة والدار البيضاء، وسيّافاً لاهوتياً في الرياض، ومقاوماً في غزة، ومساوماً في الضفة، و"بتاع كلّو" في الدوحة: مناصراً للتطبيع والمقاومة، للحرب والسلام، للديموقرطية والأسرية، للتقدم والتخلف، ويكون متحمساً ثورياً لاستيراد الكرة الطائرة الشاطئية النسائية الى شواطئ الإمارات نهاراً، وحارساً للعفة في الديوانيات ليلاً! إذا كانت الايديولوجيا الشمولية، قومية أو دينية أو طبقية، أحادية التفكير، فإن ايديولوجيا المثقف العربي المنفلت من الأسر المباشر لتلك الأحادية هي ترقيع المواقف، لا صناعة نسيج منسجم ومتكامل من الرؤى الاجتماعية والثقافية والسياسية. مثقفو 8 آذار اللبنانيون يتحرجون من نقد جوانب اجتماعية وسياسية كثيرة تقف ضد تكامل المشروع الوطني اللبناني، ومثقفو 14 آذار يفعلون الأمر عينه في ما يتعلق بالسيادة والتحاصص على حساب المواطنة. بعض مثقفي سوريا لا يجرؤون على نقد إخفاقات التسلط الشمولي، معتقدين أن الإحتكار الحزبي أقل "خطراً" على المصالح الوطنية العليا، ممثلةً بمقاومة اسرائيل! وهم يدركون أن الشمولية لا يمكن أن توصل المجتمع الى الحرية، سواء في جبهات القتال أو في الجبهة الداخلية! المثقف السعودي الذي يريد تحرير سوريا من حكم الأسد لا يجرؤ على النزول الى الشارع لمنح المرأة السعودية رخصة قيادة سيارة، ولا يجد رابطاً بين التغيير في ليبيا والتغيير في بنية المؤسسة الصنمية التي تحكمه، والتي تجرّ الثقافة القومية كلها الى أنفاق مظلمة، كابحة ومعطلة لحركة التاريخ. إن وجود بنية إجتماعية - سياسية متحجرة، ذات نفوذ يتجاوز حدودها القطرية، تصنع بتحالفاتها العميقة محوراً استقطابياً فاعلاً، يغلق إمكان انفلات المجتمعات العربية من خناقها التكويني التاريخي. إن الصراع بين السلفية التكفيرية وبين القروسطوية المحدّثة هو الأساس الموضوعي لتناقضات الواقع الثقافي العربي الراهن. هذا التناقض كاد أن يغيّر مساراته مع نهوض حركة التحرر العربية، لكن انكفاءها وخيبتها، جعلا السيادة التامة تعود مجدداً، بقوة مضاعفة، الى معادلة التناقض النموذجية التقليدية: التنافس بين قطبين مصابين بالشلل التاريخي، مسنودين باحتلال أجنبي علني أو خفي، تلك المعادلة القاتلة التي سادت التاريخ العربي طوال قرون. إن الصراع الراهن يشترط قيام ثورة ثقافية منسجمة الخطاب، تستطيع أن تكون قوة مساندة للثورة الشعبية في سعيها الى هدم مؤسسة الحكم المتحجرة وقيمها وتخريجاتها السياسية كلها. لذلك تقع على عاتق المثقفين العرب كافةً، مسؤولية المساهمة في إنجاح الثورة المصرية. فمن دون نجاحها لن يتم كسر معادلة التناقض التاريخي المقيدة لحركة المجتمع العربي. لأن مصر هي قاطرة الثورة العربية! |