تختلط على المتابع للثورات العربية صور التظاهرات، فالجماهير العربية الهادرة نهر متصل الحلقات، حتى الرايات المرفوعة تبدو في أحيان شبه غائمة بين الحشود البشرية التي لا يعرف المرء إلى أي بلد تنتمي. يتقدم الشباب دائما، يسابقون الركب، ويراوغون الرصاص والهراوات ويلوحون بقبضاتهم وحناجرهم في هتاف يكاد يتشابه على امتداد الخارطة العربية. كأن الثورة في تونس اخترعت للعرب قاموسهم الجديد، فوحدت أصواتهم في ساحات المدن. انهم يرفعون اللافتات ذاتها، حتى ولو اختلفت بعض الموتيفات، وهم يرددون النداء الأخير نفسه " الشعب يريد اسقاط النظام" . يخطّون على أيديهم وظهورهم وأوراقهم كلمة " أرحل" ويصبغون وجوههم بعلم بلادهم. شيفرات التحدي التي تناقلتها الحناجر في المدن العربية هي أوضح دليل على وحدة الثقافة في هذه البقعة من العالم، وحتى أكراد العراق، رددوا الشعارات نفسها وهم يثورون على حكومتهم.
لابد لتلك التظاهرات ان تستخدم الوسائل المتشابهة، ليس فقط في نداءات التحشيد والدعوة إلى الخروج، بل في أسلوب نقل عدوى التظاهر، فهناك دائما من يرفع تلفونه الجوال وهو يصور، ومن خلفه مصور يصوره، وهكذا تتكاثر الصور ويغدو التصوير ثقافة تلازم فعل الاحتجاج. انه القيمة الجديدة في حياة العرب، القيمة المضافة التي يدركون من خلالها كيف يُصنع التاريخ من الوثيقة الفورية، وكيف بمقدور هذا التاريخ أن يتحول مستقبلا منظورا. بلاغة التوثيق، وبلاغة المعلومة التي يتناقلها الناس، حلت بدل إطناب الكلام وتورياته واستعاراته التي تفاخر بها العرب في ما ضيهم وحاضرهم القريب. وبسبب تعدد مصادر الصور والمعلومات اليوم، يستطيع الناظر والمتابع أن يحرك عينيه وذهنه معا، ويستخدم آلاف الحجيرات المعطلة ولسنوات طويلة في عقله، كي يخرج برأي وحقيقية ووجهة نظر تُختبر كل ساعة، بل كل دقيقة.
لأول مرة تتوحد سحن العرب في مصهر عجزت عنه كل شعارات الأمس، مثلما يتوحد حكامهم في ردود فعلهم وطباعهم. يزيد او ينقص القمع بين نظام ونظام، ولكنه يتشابه في إعرابه عن نفسه، وفي مفردات الخوف والتهديد التي تتناثر في كل خطاب يتلوه زعيم.
في بحر الجماهير الهادر، يبدو الحكام على وشك الغرق، الأصوات المبحوحة والعيون الزائغة، وتدافع الكلمات. حتى الذين يحاولون إظهار تماسكهم،او يطلقون ضحكة او ابتسامة، تفضحهم عصبيتهم أو حركات نافلة تصدر عن أيديهم وأكتافهم، وتعب خلف العيون يشي بليالٍ من السهاد، أولئك الذين جعلوا الشعوب تسهد وهم ينامون على رغد.
من يصدق نفسه وهو ينظر إلى الصورة التي نقلت خطاب علي عبد الله صالح بعد ان خرج من محاولة اغتيال، لعل الكاميرا نفسها قد مارست خطاباً يسير عكس خطاب الرئيس نفسه، فقد كان علينا أن نكتشف وسائل اختبار جديدة، ونحن نبحر في آلة الزمن : الصوت نفسه والنبرة نفسها والحديث ذاته عن الدستور والديمقراطية والعزة والكرامة والمؤامرة والخيانة، حيث تعبت أيدينا ونحن نقلّب أوراق الروزنامة الثقيلة منذ دهور. ولكن الصورة، صورة الرجل تتحرك في مطرح غير ما تتحرك فيه الكلمات المنطوقة. وفق هذه الصورة يعرف الناظر ان زمنين متعاكسين في برهة واحدة يدوران أمام ناظريه وعلى خشبة مسرح فضاح: زمن الرئيس، وزمن الناس، زمن الرئيس الخارج من بحة صوته واضطراب حركة عينيه، وزمن الحشود التي تتحرك من خلف ظهره.
يتسلم الأهل في سوريا جثث أطفالهم المشوهة بعد تعرضهم إلى تعذيب وحشي في أقبية الأمن، كي يكونوا عبرة لأقرانهم، وكي تنتقم السلطة من الذين انطلقت من بين أناملهم الرقيقة شرارة الانتفاضة. خطّوا على الجدران شعارات بين الجد والمزاح، كان الأطفال يلعبون في درعا، وجسر الشغور. وكانت طل الملوحي قبلهم تمارس هذا اللعبة، لعبة الديمقراطية. طل الملوحي التي لم تتجاوز سن المراهقة، كتبت على حائط الفيس بوك كلمات اعتراض، وكم كانت ممثلة السلطة خائفة وهي تقرأ تقريرا عن الماضي الملفق لهذه الصبية، ليست الاتهامات التي جعلت منها عميلة مخابرات وصاحبة علاقات " مشبوهة" وهي لم تتجاوز سن الطفولة بعد، سوى الوجه الآخر لأكاذيب الطغاة المذعورين.
هكذا بدأ اللعب مع آلة الزمن في سوريا، الصغار والشباب والمراهقون يستقلون مركباتهم ويقلعون ببلدهم نحو عالم الشمس. بمقدور الرمز في هذه المرة أن يكثف مضمونه، من حيث هو تبدل في قانون السيطرة الأداتي، فمن يرقب عدد القتلى برصاص الأمن والشبيحة في سوريا، يدرك اننا نعيش حلم السوبرمانية الجديدة، حلم الشعوب التي تصنع المعجزات.
سمى ارك هوبزباوم القرن الثامن عشر، قرن الثورات، ولم يكن يعلم أن عليه أن يطلق لقبا جديدا على قرننا الحالي، وهو عصر الثورات العربية، العرب دون سواهم استخدموا الفيس بوك والتويتر والتلفون المحمول، ليبرهنوا على أمر بسيط وهو ان الشعوب الطرفية قادرة على ان تكون مبادرة وأن تصنع من معجزة العولمة الجديدة أسطورتها الخاصة، هويتها التي ضاعت في شعارات العزلة والاستيحاش من العالم.
مر حين من الدهر على العرب، وكل شيء بدا ساكنا، سكون أهل الكهف، كما اطلق توفيق الحكيم عليهم من تسميات. صوت أم كلثوم، والآهات التي تطاول الليالي العربية كلها، وذلك الخدر الذي يبدد الانتظار العبثي للزمن.
من الذي قلب الساعة الرملية، لتسير بهذه العجالة، بل لتنطلق مثل شهاب يخترق ظلمات الكون؟ العالم حائر، ومراكز دراساته وأرصاده السياسية واستخبارات الدول العظمى، تمزق دفاتر الأمس وتقاريرها وتوقعاتها وتصوراتها عن هذا العالم الذي كان شبابه بالأمس القريب يربّون لحاهم ويزرعون القنابل حول أجسادهم، كي ينتقموا من حضارة الزمن الجديد. استخدموا التقنيات ذاتها التي يستخدمها شباب اليوم، كي يمعنوا في الانتحار المجاني، رددوا تعازيم أهل الكهف كي يبلغوا نفق الموت الذي لا عودة منه. استطاعوا أن يجدوا للأنظمة الموغلة بالقتل مبررات استمرارها، فكانوا الوجه الآخر لقباحتها واجرامها.
لعل من لا يربط صحوة اليوم بغفلة الأمس القريب، لن يجد للثورات السلمية من مبررات حقيقية، فقد استطاعت هذه الثورات ان تنتفض على فكرة العدم التي رفعتها القاعدة شعاراً، لتستبدلها بفكرة المستقبل. المستقبل يعني ان تمد يدك إلى العالم وتبعث له تحية التوق إلى حياة جديدة مفعمة بالأمل.
قد لا تصل تلك الثورات إلى غاياتها، وقد تحتاج الى مخاضات عسيرة، ولكن يكفيها انها غيرت النفوس والأمزجة والمناخات، فلم يعد العرب مثلما كانوا، ولن تعود الأنظمة، مهما فعلت، قادرة أن تبقى كما هي.
|