لقد شكل الاحتلال صدمة نفسية وفكرية للكثير من مثقفي العراق بنفس المستوى الذي شكّل صفعة مهينة للحضارة والمدنية الحديثة. معمّقاً قيمة الانحراف الفكري والسياسي الذي ابتدأ عقب الحربين العالميتين بوضع مصير البشرية بيد قوى فاشية محددة [انجلترا/ فرنسا] ثم [الولايات المتحدة/ روسيا] وبدء ملامح الاحباط واليأس وتيار التشاؤم في الفلسفة الغربية والأدب العالمي. وليس من الغريب أن تفرز الهيمنة الأميركية موجة ً من السخرية المدقعة والاحتجاج على صعيد الاعلام، وتفرز تياراً من الادباء المناهضين للسياسات العنصرية والنظام العالمي الجديد والعولمة وكل ما يخرج من معطفه، أمثال أدوارد سعيد وسوزان برنار وفيليب روث ومايكل مور داخل أمريكا وبيتر هاندكه وألفريدا جيلينيك ويوسف روث وغيرهم في أوربا الغربية. في هذا المجال كان الصوت العربي أقلّ حضوراً رغم كونه الضحية الأولى للسياسة الأميركية وكبش فدائها الأكبر. وهو ما ينطبق على أدباء العراق، الذي أدخل الحمام الأميركي منذ الثمانينيات عبر محارق الحروب الغبية والحصار لقهر انسانه وتمريغ أنفه في وحل الحظيرة الأمريكية وبالشكل الذي فضحته ممارسات قوات الاحتلال على الصعيد السياسي والاقتصادي أو التعامل اليومي مع المدنيين والسجناء العراقيين. وإذا كان ثمة أصوات واحتجاجات متفاوتة فقد بقيت بعيدة عن التنظيم والتبلور في موقف واضح أو خطاب ثقافي يتجاوز حدوده الضيقة ليتحول إلى تيار يستقطب الرأي العام العربي أو العالمي. ان موقف الكاتب العراقي ازاء الكارثة والاحتلال لم يكن سهلاً ولم يكن العراقي انساناً وكاتباً محسوداً في ذلك على شيء. فقد تحمل إرثاً متراكماً من تبعات الحالة العراقية السياسية والاجتماعية وانعكاساتها النفسية والفكرية. وبقى التمزق والتناقض والافتئات عنواناً رئيساً لهذه الحالة. ولم تفلح الكوارث والتجارب غير العادية في دفع الكلمة والفعل العراقي للانسجام والوحدة، مقدّماً خدمة اسثنائية للنظامين السابق واللاحق وسلطات الاحتلال على طبق واحد. فلا غرو أن تبرز حالة قطيعة أو غياب للخطاب الثقافي ازاء ما يجري في الوطن. هذه القطيعة والتغييب المفروضان من داخل العراق المحتلّ ضد الخارج عموماً والثقافي تحديداً. وفي لهاث رخيص لاستقطاب طابور تهريجي للوضع الجديد.
لقد اختلفت مواقف الأدباء ازاء كل من الدكتاتورية والسياسة الأمريكية والبريطانية من قبل كما اختلفت ازاء قوات الاحتلال والنظام الطائفي من بعد. وقد وجدت تلك المواقف طريقها إلى النص الأدبي والموقف الشخصي كل في مجاله. لكن السؤال المهم في كل ذلك يبقى: مدى انسجام ذلك الموقف مع المسؤولية التاريخية ومصلحة الوطن. ذلك ما سيتجسد في الدراسات التاريخية والدروس المستنبطة منها، أما على صعيد الجدوى الراهنية فقد استطاع الفريق المعادي تهميش المثقف والثقافة وعزلها عن المتلقي والتوصيل والفعل، وتسليط سيف الارهاب ضدّ الرأي الآخر. وفي هذا المجال استمر الثقافي ضحية الخطاب/ الوضع السياسي حاملاً كل أوزاره وأمراضه وصراعاته وآثار نزعاته التدميرية. بعبارة أخرى، ان الثقافة العراقية التي حافظت على بهائها وإشراقها حتى التسعينيات، رغم عتوّ الدكتاتورية والخطاب الايديولوجي الشوفوني، تكشفت عن انكسارات حادة بعد الاحتلال. أن أبرز ملامح هذا الانكسار هو هيمنة النزعة الذاتية ببعديها السوداوي والانتهازي لدى طبقة عريضة من الأدباء العراقيين، من المستفيدين والمتضررين من النظام السابق على حدّ سواء، ممن زادت الأوضاع الجديدة من تهميشهم. بنفس المنظور التجأت فئة من الأدباء إلى الصمت والاعتكاف، بينهم من كان في جوق الاعلام الرسمي للنظام السابق أو متضرراً منه. لقد زادت ظروف ما بعد الاحتلال والطريقة التي اتبعت في التعامل مع المثقف العراقي في تدمير الكيان الثقافي العراقي وتذييله، وهو الأمر الذي استعصى على الدكتاتورية نفسها. ويمكن تحديد السمات العامة للوضع الجديد..
1- ترسيخ واقع التقسيم والقطيعة بين أدب الداخل وأدب الخارج.
2- توزع أدباء الداخل بين منظمات وتشكيلات ثقافية متعددة غير واضحة الخطاب والأهداف والجهات الممولة والموجهة لها، منها ما يمالئ الحكم والأحزاب القائمة ومنها ما يرتبط بجهات خارجية.
3- هيمنة النزعة البلدانية والمحلية على التشكيلات الأدبية الجديدة بالاضافة إلى الطائفية والعنصرية، على صعيد الخطاب والعمل.
4- انعدام القواسم المشتركة بين الأدباء العراقيين في الخارج وفي مقدمتها انعدام الاطار الثقافي أو الاطارات الرابطة بينهم أدبياً واجتماعياً.
5- انتقال أمراض التمزق الداخلي البلدانية والطائفية إلى أدباء الخارج وانعكاسها في صور التجمعات الشللية أو المواقع الالكترونية الممثلة لأدباء هذه المدينة أو تلك الطائفة أو الموقف السياسي المحدد. ولم يكن من المتعارف قبل هذا وصف الكاتب حسب الطائفة أو البلدة أو…
6- تراجع القيمة الوطنية وثيمة الانتماء للأرض وتصدر الأغراض الشخصية والمكاسب النفعية على سلوك كثير من الأدباء وكتاباتهم. ويكتسب تشخيص النزعة السوداوية والاحباط حساسية دقيقة في تحديد مرجعيتها الوطنية العامة أو الفردية النفعية. وقد لوحظ التغير السريع في مواقف البعض ممن وقفوا ضد الاحتلال في البداية (ظاهرياً) ثم ما فتئوا تقلدوا مراكز رسمية في الوضع الجديد. والعكس صحيح كذلك، بين من حظوا بمراكز معينة في البدء ثم خسروها في التغيرات اللاحقة. وغير بعيد منه مواقف عدد غير قليل ممن زاروا البلاد عقب الاحتلال والانتخابات أكثر من مرة أو تأخروا هناك للحصول على مكسب، ثم هاجموا تلك الأوضاع بعد العودة.
يلجأ كثيرون إلى اعتبار تلك التغيرات والاصطراعات بأنها عادية، بينما تتكشف عن درجة التمزق النفسي والاجتماعي للشخصية العراقية التي كان لا يزال للأمل في حناياها بذرة. تلك البذرة وأدتها دبابات الاحتلال وحكم الزبانية، فوجد العراقي نفسه في مهبّ الريح، لا وطن يحضن أحلامه ويركن كاهله المتعب على ضفاف أنهاره وفيء بساتينه. والذين صاموا طويلاً في وجه الطغيان البعثي فطروا على بصلة المحاصصات الطائفية التي ضيّعت البلاد والعباد وحوّلوا حرمات الوطن إلى موائد بورصة مهينة. ان لم يكن اللجوء للدين، على العموم، انعكاساً نفسياً لحالة اليأس المطلق والبحث عن معادل تعويضي لفقدان الأمل والثقة بالذات والمجتمع.
ازاء هذه الصورة المتغيرة والقاتمة لجمهرة من الأدباء والمتأدبين العراقيين، حافظ فريق من الأدباء والمثقفين على مواقفهم وأفكارهم وخطابهم النصي قبل الاحتلال وبعده، ولم يدوخوا كثيراً في لغز البيضة والدجاجة، أو يضعوا أملهم في دبابات الغازي التي سبق لها أن رفعت البعث إلى منصة الحكم في الستينات بوشيعة القومية، وعادت لترفع أندادهم بعد أربعة عقود للحكم بوشيعة الدمقراطية. ان النظرة العامة للواقع العراقي في مستهل القرن الحادي والعشرين تكشف عن تردي وتراجع في مستوى الفكر والأداء، هذا التردي يطال ابن الشارع والسياسي والكاتب، ويفضح مدى التصدع الذي اعتور البنية السايكولوجية والاجتماعية للشخصية العراقية في أثر تراكمات الأحداث التي مرت على البلاد. وقد يعيد بعض المحللين هذا التصدع إلى عوامل سياسية تاريخية أو بنيوية قبلية تتجاوز المرحلة الراهنة وتتكشف في مواجهة الأزمات والأحداث الكبرى. فالميل للتمزق والخلاف والصدور عن النعرات الفردية والنفسية يكاد يكون ظاهرة عامة تكررت ازاء تأسيس الدولة في العشرينيات وفي أحداث 1941 وفي مستهل الستينيات حتى هذا اليوم. وبينما يذهب عالم الاجتماع علي الوردي إلى تشخيص النزعة الفردية والمزاجية والتناقض، أو يؤشر المفكر هادي العلوي ما يدعوه استمرار أثر (اللقاحية) وضعف أثر التمدن في بلورة الشخصية، وصف المؤرخ حنا بطاطو مظاهرالسلوك تلك بالمراهقة السياسية. فالفردية وحب الذات والتناقض والنزق والانفعال وعدم المسؤولية أو المبالغة في مظاهر اليأس أو التفاؤل وسوى ذلك انعكاسات نفسية واجتماعية لهذه المرحلة القلقة. ويحدد الدكتور يوسف عزالدين سرعة انقلاب مواقف العراقيين تجاه حدث معين. فبعض الذين تصدوا للانجليز عادوا ومالئوهم ، والذين أيدوا حركة واحد وأربعين عادوا وهاجموهم وفي يوم الثالث عشر من تموز رفع العراقيون سيارة الملك فيصل الثاني في شارع الرشيد وفي اليوم الثاني تم قتله، ونفس الأمر مع الذين أيدوا صدام وعادوا انقلبوا ضدّه. قد يزعم البعض ان الموقف من الحكومة أو الاحتلال هو شأن سياسي توكل به الحركات السياسية في محاولة التنصل من حقيقة الانتماء والعلاقة مع الوطن كتعبير أخلاقي عن موقف وطني، أو تعبير وطني عن موقف أخلاقي، هو جزء من شخصية الفرد وخطابه الثقافي وهويته القومية والوطنية، وبدون ذلك تسقط معايير الوطنية والعلاقة بالارض والأمة.
وعلى قدر تعلق الأمر بالموضوع، فأن الاحتلال لم يتحول إلى قضية أساسية أو سياسية في الأدب العراقي ما عدا حالات محدودة. ولم يتبلور خطاب أو موقف وطني واضح وثابت من واقع الاحتلال. ظهور ردود أفعال عاطفية تعبر عن احتقانات أو انفعالات أو نزعات خاصة ازاء احداث معينة ما تني أن تختفي دون أن يترتب عليها موقف ثابت للكاتب؛ انصراف الكتاب للبحث عن موضوعات محايدة أو الامعان في النبش في تاريخ زملائهم والتعريض بهم إلى حد الانتقاص والاهانة مما لا يتناسب مع الموقف الوطني أو الشعور بالمسؤولية. كما يكشف عن مشاعر الهزيمة والعجز عن اللحاق بالغير أدبياً أو وجاهياً. ولم يعن لأحد التساؤل عن القيمة الوطنية أو الاخلاقية المرجوة من انشاء مواقع الكترونية ونشر تخرصات وادعاءات تزيد من تمزيق النسيج العراقي وتشغله عن مواجهة المسؤوليات الأساسية المؤجلة التي لا يريد أحد أن يعرف عنها شيئاً، سوى لغة الادعاء والمبررات.
14- مارس- 2006
الأدب.. مفهومه وأهميته
سواء استندنا إلى مرجعية عربية (تراثية)، أو مرجعية غربية (عصرية)، في تعريف الأدب، فأن الأدب العربي اليوم يتقاطع مع كل منهما تقاطعاً حدياً، يتطلب وضع تعريف جديد يطابق بينه وبين واقعه وينسجم معه ومع عوامل الزمن الفاعلة فيه. فالأدب العربي، بكل ما ينطوي تحته من أنماط تعبيرية وفنية تعاني من تراجع في علاقتها بالمتلقي، بحيث يكاد ينتفي لها أي أثر في نشأة الأفراد والحركة الاجتماعية؛ من جهة، ومن جهة ثانية، فأنه ما من كاتب عربي يعيش من عوائد كتاباته – لا يشمل هذا العاملين في مجال الصحافة والاعلام- ، وكلا الأمرين، يقودان إلى سؤال محدد حول غائية الممارسة الأدبية وجدواها في الوسط العربي، فلا المجتمع منها مستفيد ولا منتجه. ثمة تضخم في العرض الأدبي، على صعيد عدد الكتاب المنتجين وكمية المنتوج أدى إلى ظهور كساد ثقافي / أدبي في سوق الثقافة العربية، انعكس سلباً على العملية الثقافية..
1- تدني النظرة الاجتماعية للأدب كقيمة فكرية ثقافية سامية.
2- تهميش الكاتب العربي في العملية الاجتماعية والسياسية من قبل التيارات التقليدية والنظام السائد.
3- تمادي وسائل الاعلام ودور النشر العربية في ابتزاز المؤلف وسرقة حقوقه الفكرية والأدبية.
هذا الواقع الكئيب للأدب والأديب العربي يستدعي مراجعة ودراسة للعوامل والظروف التي قادت إليه. بل أن النظرة العربية المتدنية للشعر والقصة والمسرح والموسيقى لا تكاد تنفصل عن التردي العام في جملة الوضع العربي بكل مفاصله وقطاعاته. فهل يمكن الربط بين فشل/ إفشال مشروع النهضة والتنوير في جنوب المتوسط وشرقه وبين حال الثقافة والأدب؟. ان مشكلة الثقافة عند العرب هي إشكالية بنيوية تتصل بطبيعة التكوين العربي والعقلية العربية ذات الأصول البدوية الصحراوية القائمة على الخوف والعنف والارتياب من الاختلاف والصراع وعدم الاستقرار. فعلى مدى مئات السنين عاش البدو في الصحراء ولم يعن لهم الاستقرار في المناطق المحاذية لهم. لم يتغير نمط حياتهم ولا اسلوب معيشتهم ولا معتقداتهم وأسس علاقاتهم البينية. وما علّة ذلك إلا الخوف من التغيير. ويمكن تعداد مظاهر ومخرجات عديدة لهذا الخوف في حياة العرب اليومية والعامة. وفي مقدمتها التعلق المبالغ به بالعادات والتقاليد، وكثرة التكرار والتقليد، وتجنب ممارسة الأعمال غير الصيد والكرّ. وكما ينعكس ذلك في علاقاتهم وممارساتهم يتمثل في أنماط الملبس والمأكل وتقضية أوقات الفراغ. ومن مظاهر نبذ التغيير استهجان الخروج على العادات والأعراف والطقوس ووضع أحكام اجتماعية واجرائية تصل حدّ القتل لمقترفها مما يوصف بالعيب والحرام والمروق أو البدعة لمن يأتي بأمر جديد.
إشكالية المصطلح
بدء يقتضي التنويه إلى معضلة المصطلح في الأدب العراقي من حيث افتقاده أو افتقاد الاتفاق على وحدة المصطلح وتعريفه. ولا يزال الغموض يكتنف مصطلحي [الحديث أو المعاصر]، ولا يميز بين [الشعر الحديث، الشعر الحرّ، قصيدة النثر]. من جهة أخرى لم يستطع النقاد والدارسون ترسيخ مصطلح للأدب العراقي المكتوب في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين في ظل الدكتاتورية، وجاء تسويغ مصطلح [أدب الحرب/ أدب المعركة] المستورد من ثقافات أخرى طعنة غادرة في صدر الابداع العراقي من جهة التعميم واللغط ليقدم للدكتاتورية خدمة يحلم بها، بينما ألحقت بالأدب العراقي تشوّهاً إعلاميا تجاوز الخارطة العراقية والحقبة الشوفينية إلى ما بعدها. ونفس الأمر ينطبق على حقبة ما بعد الدكتاتورية الممثلة بالاحتلال العسكري الأمريكي المباشر لبلاد الرافدين منذ [20- مارس- 2003] حتى الان. ولا أستسيغ هنا مصطلح [أدب المقاومة] الذي استعجله البعض دون روية أو دراسة وذلك لأمرين:
1- ارتباط هذا المصطلح بمرحلة تاريخية ذات خصائص ومقومات سياسية كانت فيها مفاهيم النضال والتحرر الوطني والمقاومة والاستقلال مصطلحات نبيلة متعارفة في القاموس السياسي العالمي، وقد انتهت تلك المرحلة وأدواتها وأساليبها في سبعينيات القرن الماضي، وابتدأت في العقد التالي ملامح مرحلة جديدة تمثلت بالسقوط، بدء بسقوط المعسكر الاشتراكي وجدار برلين، وضعت العالم أمام مرحلة جديدة في الرؤية والمصطلح والمنطق.
2- الصاق مصطلح [المقاومة] بجماعات مارست القتل والتخريب بحق العراقيين وبلادهم أفرغ هذا المصطلح من معناه الوطني النبيل وجعله في كفة واحدة مع مصطلح [الارهاب] وهو ما تنشده الامبريالية الأميركية ضد كلّ ما يتصدى لها ولسياساتها ومصالحها.
ويتطلب هذا الوضع الدولي والاقليمي الشائك من الثقافة العراقية الوطنية التصدي لتوليد مصطلح جديد ينسجم مع ديناميكية الظروف المستجدة، ويتجاوز سماجة المصطلح السياسي ورؤاه الضحلة. ان وقوع بلادنا تحت طائلة الاحتلال العسكري الأمريكي وتبعاته السياسية والاقتصادية وما تسبب فيه من دمار وتخريب وممارسات همجية وحشية لنشر الرعب والارهاب يمنح كل كلمة وفعل لتحرير الوطن وبنائه صفة الشرعية الكاملة، في عين الوقت الذي يسجل إدانة كاملة لممارسات العدوّ ويفضح تفاهة ادعاءاته وأكاذيبه المتواصلة.
ان السنوات التي مرت عقب سقوط الدكتاتورية أفرزت نتيجتين واضحتين في منظور الراهن:
1- ان الاحتلال الأمريكي للعراق سوف يستمرّ، وهو قادر على اصطناع المبررات التي تمدد بقاءه واستمراره، وبالشكل الذي يستطيع استنفاد غاياته التي دفعته لاقتحام المنطقة والبلاد.
2- أن القوى والتيارات السياسية النافذة، المحلية والاقليمية، ليست قادرة ولا آبهة بمصلحة البلاد وخروج المحتل، على العكس من ذلك، استغلت غطاء وجوده لتحقيق مكاسب فردية ضيقة زادت من مناسيب الأزمات التي تخترق البلاد وتستدعي العلاج والبناء والاصلاح.
وازاء خيبة أبناء الشعب عامة تجاه قوات الاحتلال والفئات السياسية والدينية والعشائرية المتدافعة معه، تتجه الأنظار إلى قطاع المثقفين من الأدباء والأكادميين، كما هو الحال، في ظروف الأزمات العصيبة، فهذه الفئة، تكاد تكون الوحيدة، في بعدها عن الأدلجة والشمولية والأغراض الضيقة، مما يقتضي الارتفاع لوعي المسؤولية التاريخية والوطنية. فما الذي قدّمه الأدباء والمثقفون العراقيون خلال ذلك، والملامح العامة لرؤاهم الأدبية والسياسية؟. إشكالية العامل الزمني
يجد دارس أدب مرحلة الاحتلال امتداد سمات وخصائص هذا الأدب إلى ما قبل [شباط 2003] قرابة عشرة أعوام، وذلك أن دعاوى الاحتلال أو تدجين العراق في الحظيرة الأميركية سبقت ذلك، وكانت حرب الخليج الثانية [17 يناير- 26 فبراير 1991] أبرز تجلياتها. ومن الناحية الفعلية، ووفق قرارات مجلس الأمن الدولي، كان العراق تحت الهيمنة الدولية والتدخل المباشر في كل شؤونه الوطنية [السياسية والعسكرية والاقتصادية]، بعد تقسيم أجواء العراق إلى ثلاثة مناطق عسكرية [المنطقة الكردية والجنوب والوسط]. وكانت الطائرات الأميركية والبريطانية المنطلقة من قاعدة (انجرلغ) التركية شمال العراق أو من القواعد العسكرية في الخليج تقوم بجولات يومية في الأجواء العراقية وتهاجم أي هدف عسكري أو مدني تشتبه في تعارضه مع قرارات الحظر الدولي، ومن ذلك قصف محاصيل الحبوب في الموصل أو الأسواق الشعبية والأحياء المدنية في الوسط والجنوب. ناهيك عن الحملات الاعلامية المتواترة لقرب ايقاع ضربة عسكرية لاجبار النظام على قبول دخول المفتشين والاذعان للشروط المهينة.
فكانت قراءة الكاتب العراقي للأوضاع السياسية واحتمالاتها مبكرة ودقيقة منذ التسعينيات، وربما نشرت وسائل الاعلام يومها بعضاً من تلك الكتابات المباشرة أو الرمزية باعتبارها مناهضة للحصار أو الأمريكان. ان مجريات الواقع اليومي وأجواء الحملات الاعلامية المسعورة من الطرفين صوّرت الاحتلال العسكري واقعاً، سوى أنه مسألة وقت. وبالتالي، فأن مراجعة هذا الأدب ودراسته، لابدّ أن تأخذ بنظر الاعتبار بداياته الحقيقية منذ مطلع التسعينيات. وقد نشرت مجلة ضفاف في عدديها [13- 15] في أبريل وسبتمبر 2003، الخاصين بالاحتلال كتابات ونصوص أدبية كان كثير منها من داخل العراق ومما كتب قبل وقوع الاحتلال. بل يمكن وصف بعض تلك الكتابات من الجرأة، ما لم يحصل له مثيل في ظل الاحتلال وما أشاعه من أجواء الارهاب والفوضى و(الدمقراطية).
تداعيات حرف السين
ان ظروف عدم الاستقرار السياسي التي طبعت العراق طيلة القرن الماضي في عهوده المحتلفة ووقوعه في نقطة تقاطع المصالح الدولية والاقليمية، رفع درجة الانذار لدى بعض المثقفين العراقيين حول صورة المستقبل المحتملة وما يعتلجها من عواصف واحتمالات. فظهرت إشارات ونصوص أدبية ذات تكهنات ودلالات غير بعيدة عما تحقق فيما بعد. ان أبرز تلك التكهنات أو التنبؤات تتمثل في قصيدة (وتريات ليلية) لمظفر النواب التي يؤكد فيها بحكم (س) المستقبلية: سنكون نحن يهود التاريخ ونضرب في الصحراء بلا مأوى!. وفي مجموعة (جيم) للشاعر أديب كمال الدين يرد في قصيدة (الطائر الأسود) ..
كان غراب الليل
يقرأ أسماء الناس في اليقظة
وغراب الفجر يداعب ألوان سماء منقرضة
وإذ احتدّ غراب الليل
احتدّ غراب الفجر
حتى سقط الريش الأسود والأبيض
فوق الناس.
بينما ترد صورة أخرى في قصيدة لوديع العبيدي من مجموعته الصادرة عام 1988 يقول فيها:
سيندفع في الريح غيم كثير
سيغزو المدينة نمل كثير
وتمتلئ السموات ذباب.
ولا شكّ أن مراجعة المدونة الأدبية في العراق سيكشف المزيد من نحو ذلك، في إطار التصدي لواقع الاحتلال والردة الظلامية.
خصوصية الحالة العراقية
مثل الاحتلال العسكري الأمريكي المباشر في العشرين من مارس 2003 ذروة سيناريو الاحداث والتطورات السياسية التي ابتدأت بوصول صدام حسين المركز الأول في الدولة والحزب والجيش [17 يوليو 1979] واعلانه الحرب الأولى [22 سبتمبر1980- 8 أوغست 1988] والحرب الثانية [2 أوغست 1990- 26 فبراير 1991] وما أعقبها من تدخل أمريكي وحصار دولي [سبتمبر 1990- ابريل2003]، لحين تسليمه البلاد للأمريكان خلال ثلاثة أسابيع [20 مارس – 9 أبريل 2003]. وقد كان لكل تلك المتغيرات السياسية والعسكرية آثارها المباشرة على الانسان والوطن العراقي وبما سجّل خطاً متصاعداً لتشظيات الحالة العراقية واستنزاف طاقاتها في مختلف الاتجاهات، حالات الموت والعوق والاعتقال والاعدام والنفي والتشرد بين البلدان.
فالاحتلال لم يطرأ على بلد كان ينعم بالاستقرار والهدوء والرفاه، بلد تنتظمه حياة سياسية وأمنية واجتماعية هادئة، فيكون ردّ فعلها وأدواتها وأساليبها منسجمة مع واقع الاستقرار والتنظيم والوضوح. لقد منح السناريو الأمريكي نفسه ما يكفي من الوقت لتهيئة الأجواء والتربة المحلية لحادث الغزو، وبالشكل الذي يشلّ معه أدوات الفعل والخطاب الوطني مسخراً لذلك ألدّ أعدائه أدوات ميدانية له: الحكم السابق وسياساته العدوانية تجاه الشعب، الحكم الجديد واستئثارهم بمصالحهم الخاصة على حساب مصالح الاهلين والوطن، الجماعات الارهابية من الاسلام الاصولي والقومي المتطرف.
لقد وقع الاحتلال والمجتمع العراقي يعيش واقع انقسامات خطيرة على صعيد العائلة والعشيرة والطائفة والعرق، على الصعيد الاجتماعي والديني والتسابق السياسي والاقتصادي، أنصار النظام وأعداء النظام، أنصار الأمريكان والمناهضون لهم، مؤيدو الحركات السياسية والدينية المحدثة ومناوئوها، عراقيو الداخل وعراقيو الشتات. وبالتالي، انعكست كل هذه الظروف والعوامل، لتصبّ في بودقة واحدة، هي شلّ الفعل العراقي وتشويش الارادة والوعي، التي أفاد منها النظام السابق من قبل وسلطات الاحتلال من بعد. وبينما كانت العلاقات بين العراقيين تتسم بالغيرة والحسد سابقاً أضيفت لها الريبة والشكوك لتتحول إلى رغبة مبطنة بايقاع الأذى والتنفيس عن عوامل نفسية دفينة. ان الغرض من هذا الاستعراض والتفصيل ليس تبرير ضعف ردّ الفعل الوطني وانما:
1- توزع الاهتمامات بين قضايا مصيرية وأساسية متعددة على مدى ربع القرن الأخير وبالشكل الذي أضعف من دور الفعل لانعدام عنصر التركيز والتعبئة الموجهة لمشكلة محددة.
2- انعدام البديل. ففي حين لم يسمح النظام السابق بوجود حركات سياسية في الداخل عمدت بريطانيا والولايات المتحدة لاستقطاب القوى السياسية العراقية الموجودة في الغرب ووضعها تحت تصرفها وحذت مثل ذلك دول الجوار مما أفقد تلك القوى مصداقية الانتماء وخدمة المصلحة الوطنية وجاءت ممارساتها غب استلام السلطة مؤكدة لذلك.
3- ظهور الخلافات والاختلافات ومظاهر الاحباط واليأس ازاء انعدام الدعم العالمي أو الاعلامي الحقيقي أو أجواء العمل المناسبة.
ان مظاهر التشتت والتشظي في المجتمع العراقي طالت الأدباء العراقيين كذلك ضمن الخنادق والتراصفات السياسية أو المادية، وبالتالي فقد انصرف فريق منهم إلى الصمت والانزواء، وآخرون للتحليق ضمن أسرابهم النافذة، بينما انتشرت ظاهرة جديرة بالملاحظة عقب الاحتلال ممثلة بالأسماء الأدبية المستعارة التي تتصدى للعهد الجديد في شقيه السياسي والديني. والفريق الأكثر حضوراً في المشهد الأدبي العراقي يبقى هو أدباء الخارج الخارجين على التقسيمات السياسية ومحاصصات النفوذ. |