ما من حزب شمولي تسلم السلطة في أيّ بقعة من بقاع الارض إلا رفع شعار ترحيل خصومه، علماً أن تصفيتهم وإبادتهم وتدجينهم أفضل بالنسبة إليه طبعاً.
مفردة المعارضة غير موجودة في معاجم الأحزاب التي ترى في ما تفكر فيه وتفعله، الحق المطلق. بل ان تلك الأحزاب لا ترى في اختلاف الرأي بين أفرادها إلا نوعاً من مؤامرة يُراد من خلالها زعزعة الثقة بمبادئها وأهدافها والانحراف عن مسيرتها الثورية. وهي ثقة تؤسس لعبودية أكثر يسراً وتسامحاً منها عبادة الله. وما التصفيات التي تشهدها مؤتمرات تلك الأحزاب (بعض تلك التصفيات يتم صورياً من طريق الانتخابات المخطط لها مسبقاً) إلا نوع من تكريس وجود فئة قيادية متحجرة عقائدياً وسلطوياً من خلال شرذمة فرق صغيرة يتم تحجيمها ومحاصرتها بطرق أمنية. ذلك الوجود المكرس صار أقرب إلى نموذج العصابة المغلقة على مصالح أفرادها منه إلى نمط الادارة المنفتحة على اقتراحات سياسية تهدف إلى تنويع المشاركة الحزبية والشعبية. لذلك فقد صار أسلوب الخطف هو المبدأ العملي الأكثر تداولاً في الدوائر العليا لتلك الأحزاب والسلطات، حيث يشمل ذلك المبدأ احتكار التاريخ من خلال إعادة كتابته، والوطن من خلال تصغيره، والفكر من خلال تعقيمه، والناس من خلال استعبادهم، والثروات من خلال الاستيلاء الكامل عليها، والمستقبل من خلال مصادرته. هكذا لا يتبقى شيء للخصوم. إن حرمان الخصوم من حقهم الطبيعي في البقاء في أوطانهم، معناه أن تلك الأحزاب الحاكمة قد استملكت الأوطان، وصارت تقرر من يحق له البقاء فيها ومن ليس له الحق في ذلك، وخصوصاً في البلدان التي يتراجع فيها مفهوم المواطنة أمام واجب الموالاة لانتماءات أخرى، حزبية، طائفية، قبلية، وعرقية، وهي انتماءات تقدّم فكرة القطيعية التماثلية على فكرة الفرد المنقطع والمختلف والمتحرر من ماضيه.
المنبوذون على الطريق
كانت الثورة الثقافية في صين ماو قد مثّلت خياراً إنسانياً صعباً وعالي التكلفة، حين طرحت مبدأ إعادة تأهيل الشرائح الاجتماعية التي كانت تمثل مجتمعاً مدنياً، قائماً ومتكاملاً، قبل استيلاء الشيوعيين الماويين على الحكم، كالمثقفين والأطباء وأساتذة الجامعة والمهندسين والشعراء والموسيقيين وحتى سياسيي اليسار ممّن لم ينضووا تحت لواء الثورة الحمراء. يومذاك كان الفكر الريفي هو المقصلة التي تدحرجت من حولها رؤوس الكثير من دعاة التمدن في سياق أخلاقي متوازن. ليو تشاو شي وهو رئيس صيني ذهب ضحية ظنّ ألصق به تهمة التفكير البورجوازي، ولم تشفع له شيوعيته، بل وموقعه القيادي. النازية والستالينية كانتا قد سبقتا الثورة الثقافية في الصين على مستوى تكريس القطيعية شعاراً لحماية الوطن ونقاء العرق أو الفكر على حد سواء. من الطبيعي في حالة من هذا النوع، أن يشحب مفهوم الوطن تدريجياً في ظل غياب كلي لأيّ نوع من أنواع الاعتراف بحق المواطنة، وهو الحق الذي ينبغي أن يقع منطقياً وقانونياً خارج كل تصنيف سياسي أو حزبي. كما يبدو، فإن الأحزاب الشمولية المعاصرة، دينية أكانت أم علمانية، قد أخذت بمبدأ النبذ القديم الذي كان سائداً في بعض الحضارات والأمم القديمة، حيت تكون هناك دائماً شريحة يُلحقها وضعها الطبقي أو موقفها السياسي أو سلوكها الاجتماعي بالهامش غير الحيوي للمجتمع والسلطة بكل أنواعها، فتكون تلك الشريحة منبوذة ومحرومة من الحقوق الطبيعية.
قالب للصديق قالب للعدو
في العالم العربي وطوال أكثر من نصف قرن، مارس الطغاة سياسة الارض المحروقة على مستوى الذاكرة التاريخية للأفراد، حيث أفرغت المفاهيم من معانيها بل أزيحت تلك المفاهيم عن مكانها الطبيعي. فمن لم يكن بعثياً، فهو ضد الوحدة العربية، ومن لم يكن شيوعياً فهو عدوّ العمّال والكادحين، ومن لم يكن "إخوانياً" أو دعووياً، فهو ضد الله. وما أطلق عليه لاحقاً فكراً تكفيرياً، كان في الحقيقة قد ساد واقعياً قبل أن تطل السلفية المتشددة، دينياً ومذهبياً، برأسها بعقود. فالتكفير الذي يستدعي من وجهة نظر الجماعات المتشددة إقامة الحد في حق من يقع عليه الحكم (القتل في حالة من هذا النوع)، كانت أنظمة وأحزاب يسارية عربية قد باشرته، متخذةً منه أسلوباً في معالجة خلافاتها مع الآخر، المختلف، حتى لو كان ذلك الآخر مستقلاً ومسالما. من الأفضل للطرفين أن لا يقيما على أرض واحدة وأن لا يضمّهما تاريخ مشترك. كانت هناك صياغة مبهمة لألم الجماعات، تتم من خلالها صناعة قوالب جاهزة تكون بمثابة أدوات لقياس الموالاة والعداء. قالب للصديق وقالب للعدو، وما من مسافة تفصل بين القالبين. وبسبب منطق الترحيل، فقد امتلأت بقاع الأرض بالمنفيين العرب، الذين مثّل وجودهم القلق صورة معاصرة لمبدأ النبذ القديم. في الطريق إلى ذلك المنفى، حيث مكان النبذ، أهدرت أحلام وأفكار وسبل عيش وملاذات آمنة ومفاهيم ومقاربات مشتركة كثيرة. إن شعاراً من نوع "إما القطيعية وإما القطيعة"، قد ترك على الطريق التي تفصل بين الوطن والمنفى ركاماً أسود من الأخطاء، تحوّل مع الزمن جداراً عازلاً لا يمكن اختراقه إلا من طريق التفجير. وهو ما حدث في وقت لاحق في الكثير من المدن العربية.
ستظل الكراسي دافئة
لقد صارت الجماهير تهتف برحيل النظام حلاً للأزمة، لا لشيء إلا لأن تلك الجماهير قد أدركت أنها كانت في طريقها إلى الرحيل لو استمر ذلك النظام في الحكم. علاقة ملتبسة تاريخياً من هذا النوع، لا بد من أن تفضي إلى القطيعة التامة. هو الشعار نفسه إذاً، لكنه يأتي هذه المرة من الضفة الأخرى. تحول السوط إلى صوت. القبضة صارت حنجرة. الفأس التي كانت تقطع، تحولت إلى غصن يابس يفقأ العين. المعنى نفسه يتكرر. التجربة العراقية كانت سابقة في هذا المجال، وإن تم التغيير هناك من طريق الغزو الأجنبي، ومن ثم الاحتلال، غير أن المعطيات على الأرض تشير إلى أن المعارضة السابقة التي صارت تحكم، إنما تمثّل شعباً آخر، ينظر إلى الوطن باعتباره غنيمة حرب، وإلى الانتصار (الوهمي طبعا) باعتباره فرصة للانتقام من خصومها. لقد حلّ شعب قادم من المنفى محلّ شعب آخر صار عليه أن يذهب إلى المنفى. المعنى كان واحداً، وإن تغير الصوت والجهة التي يُقبل منها ذلك الصوت. ذلك لأن رحيل النظام العراقي لم يكن كافياً لإشباع غريزة التمكن المطلق من الحكم، حيث تنطوي السلطة على شبهة التخلص من الخصوم. يحدث هذا كلّه في ظل غياب مفهوم الدولة المدنية التي تجمع بين مختلف الشرائح الاجتماعية، باعتبارها مصادر غنى ثقافي. كان مفهوم "المواطنة" هو الخاسر الأكبر في كل الحالات. كان هناك دائماً من يمتلك الحق في البقاء في الوطن، بسبب إمساكه بزمام السلطة. في المقابل كان هناك من لا يمتلك ذلك الحق، بسبب بعده عن السلطة، حتى لو جرى ذلك البعد نتيجة عزوف متعفف وزاهد. السلطة إذاً هي الميزان الذي يتم من خلاله تقويم حقوق أطراف تلك المعادلة البعيدة كل البعد عن أي محتوى أخلاقي. ألا يعني هذا كله، أننا نعاني فقراً عظيماً في فهم طبيعة التحولات التاريخية التي يمثّلها سقوط الأنظمة القديمة؟ فبدلا من أن تنهي تلك التحولات ذلك المنهج الذي أقام وجوده على أساس مبدأ النبذ والنفي، صارت تلك التحولات مدعاة لاستبدال المنبوذين بمنبوذين جدد. الآن يحلّ راحلون محلّ الراحلين القدامى. الكراسي لا تزال دافئة. ولا تزال هناك أياد تلوّح. |