أتيح لي مؤخرا أن أحضر ندوة ممتعة وغنية عن الهموم الفكرية العربية في جامعة مولاي إسماعيل بالرشيدية بالمغرب الواقعة على أبواب الصحراء والواحات الخلابة. وقد حفلت بالمداخلات المتنوعة من شتى أنحاء العالم والأقطار العربية. وكان الهدف منها هو استكشاف إمكانية بلورة فكر جديد في العالم العربي بعد غربلة الفكر السابق وتمحيصه ونقده. فنحن لا نستطيع أن نعيش إلى الأبد على مائدة الفكر القديم الذي رافق المرحلة الاستعمارية وتلاها من الأربعينات وحتى التسعينات. كل الآيديولوجيا العربية السابقة أصبحت بين قوسين بفضل الانتفاضات العربية الجارية حاليا من أجل الحرية والعدالة الاجتماعية ومحاربة الفساد والأنظمة المغلقة الشمولية. لكن ينبغي الاعتراف بأن مراجعة الآيديولوجيا العربية الرثة إذا جاز التعبير ابتدأت قبل ذلك. أقصد تلك الآيديولوجيا المعروفة بكل مقولاتها وشعاراتها الديماغوجية. منذ زمن طويل ونحن ندعو للانتقال من المرحلة الآيديولوجية إلى المرحلة الابيستمولوجية: أي المعرفية والفلسفية العميقة. لقد طرحنا ذلك كشعار عريض لكل المرحلة المقبلة. نعم لقد آن الأوان لكي ينتقل العرب من عصر الصراخ والندب والعويل إلى عصر التفكير المتزن والرصين والمسؤول وإلا فإن العالم لن يأخذنا على محمل الجد أبدا. سوف يظل ينظر إلينا كأطفال من الناحية العقلية لمّا نبلغ سن الرشد بعد كما يقول كانط عن البشرية الأوروبية قبل أن تستنير وتتقدم وتتحرر من سقف القرون والوسطى ووصاية اللاهوت والكهنوت. على مدار يومين متتاليين أتيح لنا أن نتحدث عن ذلك بكل حرية بفضل الأجواء الرحبة التي وفرها لنا الإخوة المشرفون على هذه الندوة المغربية الحرة. ينبغي الاعتراف بأن الآيديولوجيا العربية القديمة سقطت بسقوط صدام والقذافي وبن لادن. وبسقوط هذه الآيديولوجيا القومجية -الأصولية الغوغائية (ولا أقول القومية - الإسلامية بالمعنى النبيل والعالي للكلمة) انفتحت أمامنا أبواب الفكر النقدي الحر على مصراعيها. إذ أقول ذلك فهذا لا يعني أن كل الأفكار العنصرية أو الشوفينية والطائفية قد زالت من العالم العربي دفعة واحدة! ينبغي أن يكون الإنسان مجنونا أو مستلبا عقليا بشكل كامل لكي يعتقد ذلك. على العكس فإنها أفلتت من عقالها في هذه الفوضى الخلاقة العارمة وأطلق لها العنان. كل ما كان مكبوتا سابقا أصبح ينفجر في وجوهنا كالبراكين. وهذا ما كنا نتوقعه أصلا ونخشاه منذ زمن طويل. ولكن أقصد بأن هناك هامشا من الحرية ينفتح أمامنا ونستطيع استغلاله لكي نفكك هذه المقولات العنصرية والطائفية بالذات. وهنا تكمن مهمة الفكر العربي الجديد المتحرر من براثن الآيديولوجيا الغوغائية التي هيمنت علينا طيلة ستين سنة: أي منذ سقوط الفكر الليبرالي العربي مع عصر النهضة (1800 - 1950) وحتى اليوم. وهي آيديولوجيا توتاليتارية لا تعترف بوجود عناصر التنوع والتعددية في العالم العربي وإنما تكبتها وتغطي عليها وكأنها غير موجودة. وبما أنها لا تعترف بها فإنها تشعر بالغبن والحرمان والتهميش الظالم. وعلى هذا النحو تستفحل المشكلات العرقية والمذهبية وتتفاقم وتنفجر كما هو حاصل حاليا. وبدلا من أن يكون التنوع نعمة يصبح نقمة. وبدلا من أن تكون التعددية غنى وثروة لبلادنا تصبح وكأنها عالة علينا. بحياتنا كلها لم نعترف بالتعددية الدينية أو المذهبية قديما فكيف يمكن أن نعترف بالتعددية السياسية والديمقراطية حديثا؟ نقول ذلك ونحن نعلم أن الأحزاب السياسية حاضرا هي المعادل الموضوعي للمذاهب الدينية سابقا. كيف يمكن أن نصبح ديمقراطيين ونحن نرفض التعددية ونخشاها ونكرهها كره النجوس؟ مستحيل. لقد حاولنا طمس المختلف بأي شكل بل وسحقه فتحول إلى مشكلة رهيبة تكاد تستعصي على الحل. وهكذا أصبحت بلداننا على شفا حرب أهلية بعد أن أصبح التعايش بين مختلف فئات الشعب وكأنه ضرب من المعجزات. بل وأصبح التقسيم وكأنه الحل الوحيد الممكن! وعليه يراهن العدو الخارجي. إلى أين وصلنا؟ من المعلوم أن أول شرط لحل المشكلة هو أن نعترف بوجودها على الأقل ونشخصها بشكل صحيح. طمس المشكلات لا يعني حلها. وهنا يكمن الفرق بين الفكر الآيديولوجي أو المؤدلج أكثر من اللزوم والفكر العلمي. لم يعد يكفي التحدث عن الاستعمار والإمبريالية لكي نقنع الآخرين بصحة كلامنا وخطاباتنا. هناك ما هو أخطر من الاستعمار والإمبريالية. هناك الرواسب القروسطية والحركات التكفيرية والأنظمة العسكرية - البوليسية التي تسحق شعوبها سحقا. ونحن بين فكي كماشة لا حول لنا ولا طول. حقا إنها لمعضلة رهيبة.
لحسن الحظ فإن الانتفاضات العربية الأخيرة تخلت عن هذه الطريقة الديماغوجية وألقت بمسؤولية الفشل على الداخل لا على الخارج. من هنا شعاراتها المفاجئة لنا والتي تختلف عن كل شعارات المرحلة السابقة. وهذا دليل على نضج سياسي ينبغي أن نعترف به لشعوبنا أو على الأقل لشبيبتنا. إنهم يقولون لنا إن المرض في الداخل والعلة في الاستبداد المحلي بالدرجة الأولى. المشكلة تكمن في أن الأنظمة الشمولية عاجزة عن الاعتراف بالمعارضة وما تمثله من ثقل شعبي في الشارع ومشروعية تاريخية. وعن هذا الرفض العقيم الخاطئ ينتج الانسداد السياسي، فالتفاقم، فالانفجار. ثم نلقي بمسؤولية فشلنا كله على كاهل الاستعمار!.. ولكن ما عدا الاستعمار الاستيطاني المتواصل في فلسطين حتى هذه اللحظة لم يعد هناك أي استعمار في العالم العربي منذ استقلال الجزائر عام 1962. فهل سنظل نلقي بمسؤولية تخلفنا وانحطاطنا على كاهل الاستعمار إلى أبد الآبدين؟ هل سنظل أسرى ذلك الخطاب القديم المتهرئ والآيديولوجيا الفارغة التي مل منها حتى أطفال المدرسة الابتدائية؟
أمام الأحقاد المندلعة في المشرق العربي خصوصا، أمام القنابل الموقوتة المتفجرة من كل حدب وصوب، لا أجد نصا أجمل من ذلك الذي كتبه المفكر الفلسطيني والعالمي الكبير إدوارد سعيد. وهو ما استشهدت به أمام ندوة الرشيدية الدولية. فقبيل موته بأسابيع قليلة نشر هذا النص في مجلة «اللوموند ديبلوماتيك». ولذا يمكن اعتباره بمثابة وصيته الأخيرة فكريا وسياسيا. إنه يمثل صرخة شبه يائسة ولكن تحريرية ضد هذا الإرهاب الفكري المفروض علينا من قبل المتطرفين في كلتا الجهتين: الغربية والعربية. إنه يمثل نقدا لاذعا للاستشراق الجديد العدواني المتمثل بالمحافظين الجدد من جهة، وللحركات المتزمتة السائدة في العالم العربي - الإسلامي من جهة أخرى. لأول مرة نلاحظ أن إدوارد سعيد لا يكتفي بإدانة الغرب واستشراقه المسيس وإنما يدين أيضا تخلف الشرق. بل ويصل به الأمر إلى حد اعتبار إغلاق باب الاجتهاد بمثابة كارثة عظمى بالنسبة لكلا العالمين العربي والإسلامي. ونحن ندفع الآن فاتورة هذا الانغلاق اللاهوتي - الفكري عدا ونقدا. انظر انفجار الأحقاد الطائفية والمذهبية كالسيل الجارف. انظر ازدهار السلفيين في مصر وغير مصر.. بل ويصل الأمر بإدوارد سعيد إلى حد التعالي على جراحاته كفلسطيني والاعتراف بالآلام التاريخية للطرف المسؤول عن جراحاته ونكبته بالذات: أي اليهودي! من يستطيع أن يفعل ذلك؟ من يتجرأ عليه في عصر نتنياهو والتطرف الإسرائيلي البشع؟ ينبغي أن تكون إدوارد سعيد لكي تستطيع التحليق عاليا إلى مثل هذا المستوى والنظر إلى البعيد، أو بعيد البعيد.. من يستطيع أن يتجاوز نفسه، أن يرتفع فوق نفسه؟ من يستطيع أن يكون أكبر من نفسه ومن عدوه في ذات الوقت؟ يقول بالحرف الواحد:
«طيلة الخمسة والثلاثين عاما الأخيرة أمضيت قسما كبيرا من حياتي في الدفاع عن الشعب الفلسطيني وحقه في الحرية وتقرير المصير. ولكني فعلت ذلك مع الأخذ كليا بعين الاعتبار لعذابات الشعب اليهودي على مدار التاريخ بدءا من الاضطهادات المعروفة وانتهاء بالمجزرة الكبرى. وبالتالي فأنا أدعو إلى التفاهم والتعايش المشترك لا إلى مواصلة الأحقاد والصراعات إلى ما لا نهاية. والحل لن يكون إلا بتبني فكر عالمي، عقلاني وإنساني. فإما النزعة الإنسانية وإما البربرية»!
هل يدرك الإسرائيليون معنى هذه اللفتة الكريمة من طرف إدوارد سعيد؟ هل يدركون ثمنها وقيمتها؟ ربما المستنيرون منهم فقط، ولكن ليس الجناح المتطرف الذي أعمته غطرسة القوة والدعم الغربي اللامشروط. لكن كلام إدوارد سعيد الذي رفعت الندوة صورته كشعار ورمز لها موجه إلينا أيضا. فإذا كان قد نصح بالتسامح حتى مع العدو الغاصب فما بالك فيما بيننا نحن بالذات؟
أقصد بذلك أنه يطالب المثقفين العرب بالتخلي عن نزعاتهم الفئوية الضيقة في هذه الظروف العصيبة والارتفاع إلى مستوى أعلى: أي إلى مستوى الفكر التنويري الإنساني الكوني الذي يحترم كرامة الإنسان أيا كان. فنحن جميعا في نهاية المطاف عيال الله أو مخلوقاته البشرية. ونحن جميعا نستحق أن تحترم كرامتنا وأن لا تداس بالأقدام. لقد انتهى عهد الاحتقار والتهميش على أساس عرقي أو طائفي في كل أنحاء العالم المتحضر. فمتى سينتهي في عالمنا العربي الإسلامي؟ متى ستحترم كل مكونات المجتمع وليس فقط العنصر الغالب والمهيمن تاريخيا؟ متى ستعامل على قدم المساواة؟ وهل يمكن أن تستقر الأمور وتتحقق الوحدة الوطنية دون الاعتراف بكل مكونات الأمة وعناصرها؟ لحسن الحظ فإن الملك المستنير محمد السادس اعترف بالمكون الأمازيغي العريق كجزء لا يتجزأ من الأمة المغربية جنبا إلى جنب مع المكون العربي. ويجمع بينهما كليهما الإسلام الحنيف. وقد جاء ذلك في مقدمة الإصلاحات الدستورية الجريئة التي أعلنها يوم 9 مارس (آذار) الماضي. هذه هي بعض القضايا الهامة التي طرحتها ندوة الرشيدية والتي يطرحها بشكل مباشر أو غير مباشر كلام إدوارد سعيد وفكره الإنساني العميق. |