(الصورة : الجندي المجهول في المنطقة الخضراء من هيلكوبتر امريكي)
مرت ثمانية اعوام على نظامنا الجديد، كنت خلالها اعمل في المؤسسات الصحفية المطبوعة والمتلفزة وعلى تماس مع "الكبار" بشكل او بآخر، لكنني طيلة تلك الاعوام لم ادخل "دار الامارة" الا قبل بضعة ايام، وليتني لم ادخلها الى الابد.وليس في العراق "دار امارة" واحدة كما تعلمون، لكنني قصدت واحدة رئيسية منها، هي اشبة بـ"عقدة مواصلات السلطة"، وهي روح الحكومة.. انها الامانة العامة لمجلس الوزراء، التي تحتضن مكاتب كبار المسؤولين التنفيذيين، وداخلها تصنع اخطر القرارات، ويؤمها دبلوماسيون وزعماء ومستثمرون من مختلف بلاد الله. انها "بيت المالكي" اذا امكن ان نعبر، وفيها يشرعن ما ينفع وما يضر. في ذلك المكان الذي زرته للمرة الاولى، التقيت بضعة مسؤولين أحتفظ لهم بتقدير شخصي، فهم متعاونون تلمس لديهم "حرقة" على هذه البلاد، ولا يتصرفون بنوازع حزب او جهة، بل يحاولون الوصول الى الجميع. في المكان ايضا اشخاص لا يعرفون الا بانعدام الكفاءة والكسل والتحزب الضيق حد اللعنة. لكنه "بيت العراق" على اي حال، ويؤسفني كحال معظم اهل البلد ان اجده "مكانا بلا هيبة" ممراته اشبه بقبر، ومصاعده مخنوقة بطيئة، وملامحه تصرخ ببؤس الاموات في اكثر من ركن وزاوية، اذا استثنيت مدخله المقبول نسبيا.ذهبت الى هناك وسمعت حديث الناس عن شؤون البلاد، وتحدثت بشكل مختصر: حين نعجز عن وضع "روح الحكومة" في مبنى لائق رغم مرور 3 آلاف يوم على نظامنا الجديد، فماذا في وسعنا ان نصنع للبلاد طولا وعرضا، بعد انتهاء ألف يوم آخر؟ المواطن سواء كان صحفيا ام لم يكن، يدخل بطريقة "لاهيبة فيها" لا لمواطنته ولا لحكومته. ثم يخرج بدهشة لا دواء لها.كنت ضيفا "في آي بي" بفضل موظفة مثابرة حرصت على تسهيل اجراءات دخولي كصحفي مدعو الى حلقة نقاشية تضم زملاء آخرين. لكنك تضطر رغم ذلك الى الوقوف تحت الشمس بأمر ضابط نقطة التفتيش. تصرفات رجال الامن المتعبين، والقرارات التي تحدد عملهم وطريقة توزيع نقاط التفتيش، كلها تقول لك ان مسؤول الامن يكشف لنا "ارتباكه وبساطته"، بلا اي دلالة على اقتدار الدولة، في عقر دار الامارة.عند آخر نقطة تفتيش، يأمرونك بأن تتخلص من علبة سكائرك. طيب اين ارميها؟ يأتيك الجواب: تصرف، ضعها اينما تشاء خارج كرفان التفتيش. وبكثير من المباغتة تنازلت عن علبة الدخان وقال لي احدهم: اركنها قرب الحاجز الكونكريتي القريب! بحثت عن سلة مهملات كي ارميها فلم اجد! والمفارقة انني حين خرجت بعد بضعة ساعات، وجدت العلبة بل والولاعة ايضا في المكان نفسه.. انه مكان امين جدا بالنسبة لـ"القداحات" كما يبدو، لكنه كئيب يرثى له.في ذلك المكان سمعت من المسؤولين حزنهم بشأن كل شيء، ومخاوفهم من مآلات الامور. بعضهم يشبهنا كثيرا ويفكر مثلنا، لكنه يشعر بالعجز ازاء دوامة الظروف التي تحيطه.. وبالعجز حيال ابسط الاخطاء في "نظافة دار الامارة"، ناهيك عن كبائر المهام.وحين ابديت دهشتي من سوء الحال في قلب الحكومة، قال لي رجل نبيل: جيد انك لم تشاهد المكان العام الماضي.. لقد قمنا بترميمه مؤخرا، وقد تحسن شكله ومظهره نسبيا. رجل فاضل آخر كان يتحدث بعجز ويقول انه قد يستقيل في اي لحظة "ماذا اقول لنفسي حين اشعر ان مشكلة البلاد تبدأ بالحمام الوسخ في المبنى، والذي نعجز احيانا عن رؤيته نظيفا".لقد مرت مئات الايام وآلافها على وجود المسؤولين في هذا المبنى المركزي، لكنهم لم يفلحوا في جعله لائقا بما تحتاجه الدولة من هيبة. كم سنحتاج اذن الى كنس الخراب المحيط بالأمة وكهربائها وأمنها والجفاء بين زعمائها يا ترى؟ لم يكن المكان بيت المالكي وحده. انه بيتهم جميعا، وفي النهاية بيت الشعب وروح حكومته. لا ادري ما جدوى ان اواصل الحديث. لكنني سأسرد غدا القسما الآخر من الحكاية. عن "عربات الآلهة" التي تجر الوطن، والتي تصورتها "فخمة نظيفة" على خلاف "عربانة الشعب"، ثم اكتشفت في لحظة ان الفروق تكاد تنعدم بين الاثنين. وعن "تقاطع الصلاحيات" الذي يحتكر الدولة في افراد عاجزين. وعن منح الجنسية للآسيويين "تحت بند الخدمات الجليلة". سأتحدث عن دهشة مؤلمة ومحتارة وساذجة، تنتابنا بيأس وحيرة حين ندخل "عرين الاسد" العائم على محيط البترول.
التحديق في "عرين السلطة" افضل خيار لمحاولة فك لغز الفشل المتواصل والتلكؤ في العراق. انه ليس مجرد اخفاق نفسره ببساطة، بل بات بمثابة جبل جليد غاطس نطلع كل يوم على تفصيل مؤلم عند سفحه الاسود. قلت امس انني زرت للمرة الاولى مبنى الامانة العامة لمجلس الوزراء، بدعوة كريمة من اشخاص نمتلك معهم لغة مشتركة. وأسميت هذا المبنى "بيت المالكي" لأنه روح الحكومة يقيم فيه كبار التنفيذيين ونواب رئيس الوزراء وعدد من الوزراء انفسهم. هناك تصاغ القرارات وتكتب وتصدر الاوامر بتنفيذها. ويزوره الملياردير الاجنبي والضيف الغربي والشرقي.. وهو بيت العراق في النهاية. لكنه يعكس الصورة المحزنة لما آلت اليه امور البلاد، عبر ممراته الكئيبة ومصاعده البطيئة الخربة، والاهم من هذا، الحكايات التي تسمعها من كبار المسؤولين حول "محنتهم" في تحويله الى مكان يليق بهيبة نريد استعادتها لبلادنا. تسأل نفسك مرارا وأنت تجول بين الطوابق المتهالكة: حين نعجز عن ترميم "دار الامارة" فكيف ننجح في اغاثة البائسين على طول البلاد وعرضها؟ وفي مائة او ألف او ثلاثة آلاف يوم؟ كنت اسأل الناس هناك: لنفترض ان البصرة ظلت خربة بسبب "تقاطع الصلاحيات" بين المركز والاطراف، وأن الموصل تائهة بسبب انعدام الامن.. وان الحلة والرمادي..الخ. لكن هل يعقل ان المحاصصة وتقاطع الصلاحيات بين بغداد والمحافظات والنزاع والوضع الامني، يمنع الدولة من تثبيت هيبتها ولياقتها في قلب مبنى "دار الامارة"؟ تكتشف وأنت تدخل بطريقة مثيرة للسخرية بسبب تصرفات عناصر الامن التي تحرس المكان، وتتجول هناك، ان المشكلة اعمق وأعمق. "العقول شاردة نحو قضايا بعيدة، ولا احد يعبأ بالقضايا الاساسية" كما يقول موظف مسؤول هناك. لا احد داخل عربات الآلهة يعبأ بما يجري. رددت قبل ايام ان الوطن "عربانة رثة" تجرها "عربة الآلهة" التي يستقلها زعماء البلاد. وأن "عربة الآلهة" هذه مثل سيارة فارهة مجهزة بعناية. لكنك حين تلج "دار الامارة" تكتشف ان عربة السلطة نفسها خربانة وبلا عناية وتعاني الاهمال. اي يأس يتملك المرء اذن؟ 3 آلاف يوم مرت على نظامنا الجديد، دون ان ننجح في تأهيل المؤسسات التي تعكس "هيبة الدولة". لا يمكن ان انسى لون الستائر المعتوه الذي يظهر كخلفية وراء زعمائنا حين يعلنون اخطر القرارات.. تذكروا بيت مام جلال خلال اجتماع الخريف الماضي يوم الاتفاق على ولاية المالكي الثانية. تذكروا تلك الستارة الكئيبة التي تظهر وراء المتحدثين في البرلمان. تذكروا تذكروا، ولا تحاولوا الاطلاع على مبنى "دار الامارة" حتى لا يزيدكم يأسا من الطبقة السياسية. الدلالات الرمزية هذه ترعبني بشأن ما يمكن ان تقوم به احزابنا في المستقبل. "انفاق الاموال مقيد جدا، خياراتنا محدودة وبطيئة لترميم هذا المكان. نواجه مشكلة حتى في تنظيف الحمامات". هذا ما قاله لي مسؤول بارز كنت اعبر له عن دهشتي مما ارى في عقر دار السلطة.لا احد في البلاد حتى في "دار الامارة" يمكنه توظيف اموال النفط لاستعادة هيبة الدولة في قلب السلطة وامام المواطن وامام العالم. اي لغز هذا يا ناس؟ قلت لأحدهم: لدينا في الجريدة عاملان آسيويان من اطيب خلق الله، نجحا منذ سنة ونصف في ابقاء مكان عملنا نظيفا يلمع. لماذا لا توظفون من هذه "الطائفة" مدبري خدمة ممتازين ومجربين عالميا؟ اجاب: وزارة العمل ستطردهم فوجود العمال الاجانب غير قانوني. لكنه قال مازجا الجد بالهزل: ربما يمكن مناقشة منحهم الجنسية العراقية كي يقوموا بأعمال نعجز عنها نحن وخاصة في ادارة المباني وترميمها وتنظيفها، وفي السياحة والفندقة بشكل عام. نعم لماذا لا نقوم كالكويت، بمنح الجنسية العراقية لاولئك الذين قدموا "الخدمات الجليلة للبلاد"، ولمثل هؤلاء الاسيويين، بدل ان تلاحقهم فرق وزارة العمل لتقوم بطردهم؟ربما اكتشفنا بعد عشرين عاما ان هناك مواطنين من اصل آسيوي، تخلصوا من امراضنا وباتوا قادرين على بناء بلاد خربناها طويلا. ترى هل فعلت بنا الحروب كل هذا الخراب؟كأننا نمضي ايامنا باكتشاف تدريجي وبطيء لحجم ما فعلته الهزائم بنا. كأننا نحاول التعرف على انفسنا بشكل افضل. كأن هذه المهمة ستسغرق وقتا طويلا. هل لديك شهية لتسألني بعد هذا عما يمكن للحكومة ان تنجزه في مهلة الايام المائة؟ ألم تر "بيت المالكي"؟ |