|
|
جلسة في بيت الأحلام |
|
|
|
|
تاريخ النشر
14/04/2011 06:00 AM
|
|
|
لابد أن نطلق عليه بيت الأحلام، اعتقد أنها التسمية التي تليق به أكثر من أية تسمية أخرى. أتذكر أنني كلما مررت به وتوقفت عنده في تلك الأيام، عندما كانت البلاد ما تزال تُسمى الجمهورية العراقية، كلما فكرت بالأوسطة الذي بنى ذلك البيت، كان زمن الأوسطوات (قبل أن يبدأ لاحقاً زمن المعماري والمهندسين)، وكان تفننهم الفطري أقرب للخيال منه للواقع، فمن يرى البيت بتصميمه وقوته حتى اليوم سيندهش لمهارة الأوسطة سيد كاظم ابن عارف الذي بنى بيتاً فخماً من هذا الطراز لكن أنيق في نفس الوقت، كل شيء فيه جميل، شكل الأقواس، ابواب الغرف، درابزون السطح، الشبابيك الخشبية، الشرفة العريضة الواسعة المساحة التي تطل على شاطيء دجلة، كأن اليد التي وضعت لبنة على لبنة في هذا المكان المنزوي قليلاً عن شارع الرشيد مسدت عليه أو نحتت حجارته أو لبخت طابوقه بحنان، كأنها عرفت أنها لا تبني بيتاً لرجل سيقضي حياته أعزب، لن يتزوج حتى بعد بناء بيت له بهذا الحجم، بيت كبير بالأحرى يسع عائلة كبيرة، أنما تبني مكاناً يليق للأحلام، نعم، كأن الأوسطة البغدادي ذاك عرف بحسه الفطري الذي لم يعرف مدرسة، أن البيت هذا لابد أن يكون واسعاً بسعة أحلام الرجل الذي سيسكنه، لابد أن يحوي على غرف وطوابق عديدة بعدد أحلام الرجل الذي سينام ويصحا فيه، ثم وكأنه حدس أيضاً، أن البيت سيظل في مكانه هناك على شاطيء نهر دجلة، ليس شاهداً على حكومات تعاقبت لم تنجح بمحيّ البيت من ذاكرة التاريخ وحسب، بل أكثر من ذلك شاهداً لأحلام أوسطوات رحلوا، وأحلام أسطوات آخرين قادمين. كان لابد أن أفكر بذلك وأنا أجلس قبل ثلاثة أربعاءات عند شرفة البيت ذاته. في الأربعاء العذب ذلك، (أو الأربعاء الذي أصبح عذباً أولاً عند جلوسي هناك على الشرفة المطلة على نهر دجلة بعد مجيئي هارباً من سيارة مفخخة وقفت أمام المسرح الوطني)، في الجلسة تلك التي جمعتني مع هادي ماهود وبشير ماجد وعدي رشيد ومحمد الدراجي وعطية الدراجي وآخرين إنضموا لنا في نهاية الجلسة، سينمائيين عراقيين من مختلف الأعمار، بعضهم بعمري والبعض الآخر مازالوا شباب، في الجلسة الأكثر من عذبة والتي هي واحدة من جلسات نادرات عشتها في بغداد مثيلاتها للأسف لم تتعد عدد أصابع اليد، عرفت أكثر من أي وقت مضى، أن البيت هذا الذي بناه أوسطة عراقي مغمور ووضع فيه كل ما ملكته مخيلته من مهارة وإبداع لا يمكن أن يكون بغير هذا الشكل: معمل إنتاج للأحلام. عرفت البيت أولاً في بداية سنوات السبعينات عندما جئت للدراسة في جامعة بغداد، كان حديث البعض منا، خاصة أولئك القادمين من مدن غير بغداد، كان بيتاً فخماً على شاطيء دجلة وكان ملفتاً للنظر، ولحسن الحظ من أجل الدخول إليه أو معاينته بشكل جيد كان لابد من الالتفاف عليه من جهة النهر، كنا نحتال السبح في النهر أو الجلوس عن الشاطيء، ولا أتذكر أن أحدنا دخله من بابه الرئيسي من جهة شارع الرشيد، أتذكر أيضاً أن أحدنا إذا لفظ اسم صاحبه الأصلي، كان عليه أن يقول ذلك بصوت أقرب للهمس، إن لم يتحدث عن البيت دون ذكر الإسم، أتحدث هنا عن أعوام 1973 وبعدها، كانت السلطة البعثية قد أعدمت قبل 3 سنوات من ذلك التاريخ مواطنين يهود وشيعة، بحجة التجسس لإسرائيل، وكان لفط إسم يهودي في تلك الأيام يمكن أن يثير الشبهات، من غير المهم أن صاحب البيت الأصلي مات قبل سنوات طويلة، من غير المهم أن صاحب البيت الذي قضى سنواته الأخيرة هناك لا علاقة له بإسرائيل، وأنه مات في 31 باريس في آب/أغسطس 1932، قبل تأسيس إسرائيل بستة عشر عاماً، بل من غير المهم، أن الرجل هذا عراقي حتى النخاع، ليس لأن الخاتون مسز غيرترود بيل قالت عنه، "أنه أقدر رجل في مجلس الوزراء، انه صلب قليلاً وينظر الى الامور من وجهه الحقوقي الدستوري دون ان يعطي اعتبارا كافيا لاحوال العراق المتأخرة لكنه حر ونزيه الى ابعد الحدود، وهو لايتمتع بالمقدرة الحقيقية فحسب، بل له خبرة واسعة"، أو لأنه وضع الحجر الأساس للاقتصاد العراقي وأرسى نظاماً مالياً وفق معايير دقيقة، أو لأنه كما تقول سجلات مفاوضات النفط مع الانكليز هو مَنْ "أشار على المفاوض العراقي اضافة كلمة (ذهب) على جملة (اربعة شلنات) عند احتساب عوائد النفط لكي يضمن استقرار نسبة العوائد"، أو لأنه شغل منصب وزير المالية 5 مرات في فترة الحكم الملكي، كأن كل الحكومات أجمعت على كفائته ونزاهته، أو ليس لأنه مات ولم يملك شركات وحسابات مالية سرية مسجلة باسمه أو بإسم أحد أفراد عائلته، بل أكثر لأنه من سياسيين قليلين كلما تذكرهم الناس، كلما قالوا، "الله يذكره بالخير"، كما سمعت على لسان جدي عشرات المرات. من ينسى ساسون حسقيل، أول وزير مالية عراقي(27 تشرين الأول 1920 في حكومة عبدالرحمن النقيب) ، ساسون أفندي كما سماه العراقيون (البغاّدة بصورة خاصة) من مجايليه الذي لم تستطع كل الحكومات المتعاقبة من محوّ إسمه عن البيت؟ أكثر ما لفت نظري في البيت ذي الطابقين في حينه، هي القصص التي دارت حول مكتبته الشخصية الفخمة، قيل أن كتبه احتلت أغلب غرف البيت، وأنها أكبر مكتبة شخصية عرفتها بغداد، كتب بمختلف اللغات، باللغات العربية والتركية والإنكليزية والفرنسية والإيطالية والأسبانية والألمانية، كل اللغات التي أجاد القراءة والكتابة بها، للأسف ضاعت أغلب الكتب هذه بعد إستيلاء الحكومة البعثية على المكتبة عام 1970 في موجة إعدام اليهود ومعارضيها، قيل أنها أودعتها مكتبة المتحف العراقي، لكنني شخصياً لم أعثر عليها في كل زياراتي للمتحف! في ذلك الأربعاء العذب كان لابد أن أتذكر ذلك، وكيف أن البيت ظل مغلقاً سنوات طويلة، لابد أن السلطة البعثية حارت ماذا تعمل به، أو ربما فكرت أن الناس ستنسى مع مرور السنوات إسم مالكه، خاصة بعد تركه مغلقاً لسنوات. فقط في أواسط سنوات الثمانينات تحول البيت هذا إلى صالة للعرض، هناك عُرضت مسرحية دخلت وجدان الجمهور العراقي، مسرحية "ترنيمة الكرسي الهزّاز" (تأليف فاروق محمد وإخراج عوني كرومي)، ستة شهور ظلت المسرحية تُعرض في البيت، وكانت الممثلتان الشابتان إنعام البطاط وإقبال نعيم، بطلتا المسرحية تدوران وسط غرف البيت، تصعدان سلالم البيت، تطلان من الدرابزون، من بالكونة البيت، إنعام البطاط بدور المغنية الكهلة قعيدة البيت التي لم تيأس، ووصيفتها التي تواسيها وتطلب منها الهدوء، المرأتان كانتا تتنقلان وكان الجمهور يطوف معهما في البيت، البعض حمل – كما روت لي إنعام - في يده مسجلات ليسجل أغاني إنعام وهي تنادي بصوتها الحالم "لازم يجي"، على رجل الأحلام الذي انتظرته عبثاً في بلاد الخراب، الكل كان بإنتظار غودو(اه) العراقي، كأن صوت إنعام كان يطرد الغبار عن أحلام قديمة نامت في البيت هناك، كأنها في حركتها تبعث روحاً للأحلام؟ الكل سجين حلمه، المرأتان والجمهور، لكن أليس ذلك هو ديدن البيت دائماً، معمل لإنتاج الأحلام؟ واليوم؟ لسنوات طويلة ظل إسم البيت يحمل إسم "بيت منتدى المسرح"، أو "المنتدى"، صالة لعرض المسرحيات التجريبية، بعد 9 أبريل 2003 تحول البيت إلى مقر لوحدات الجيش التي تحرس العقارات والبنوك في شارع الرشيد، رغم أن المسرحيين لم يتنازلوا عنه، في عام 2010 نجح السينمائيون الشباب بإقناع وزارة الثقافة التي تملك البيت رسمياً بتحويل نصف البيت على الأقل، نصفه الجميل المطل على شاطيء نهر دجلة إلى مركز سينمائي لهم، وافقت الوزارة، فيما بقي الجزء الأمامي ثكنة لنوم الجيش. في يوم الأربعاء العذب ذلك، كان الشباب فرحين، يعملون على عادتهم بحماس، ينقلون معداتهم السينمائية إلى البيت، عمال البناء، أوسطوات جدد بدأوا بأعمال الترميم، عدي رشيد ومحمد الدراجي أخبراني بأنهما يحلمان بأن يتحول البيت كله إلى مركز سينمائي، أعرف أن وحدات الجيش تحلم بالأمر ذاته، أن يتحول البيت ذاته إلى ثكنة لها. الجيش بمواجهة أحلام شباب لا سلاح عندهم غير الكاميرا. في السنوات الأخيرة من حياته أراد ساسون أفندي أن يختم حياته بإصدار عملة عراقية وطنية، ولتحقيق ذلك أعد خطة بنظام دقيق، بالفعل وقبل أن يموت بشهور قليلة في ربيع عام 1932 نجح ساسون في مسعاه (ساعده في تحقيقها يهودي آخر هو إبراهيم الكبير مدير عام المحاسبة المالية آنذاك)، وأصبحت النقود العراقية هي المتداولة بدلا من الروبية الهندية والليرة التركية. كان ذلك أحد الأحلام الكبيرة التي إنطلقت من هذا البيت. من يجلس مع الشباب الذين جلست معهم قبل ثلاثة أربعاءات، من يسمع حديثهم، إصرارهم على تحقيق نهضة سينمائية عراقية، حلمهم بالوصول بالفلم العراقي إلى مصاف العالمية، سيقول، أنهم بحماسهم ذلك يسيرون على خطى الأوسطة الكبير، وأنهم لم يختاروا البيت هذا عبثاً، لابد لهم أن يبدأوا من هنا، أليس ذلك هو ديدين البيت هذا: معمل لإنتاج الأحلام؟
|
|
رجوع
|
|
مقالات اخرى لــ نجم والي
|
|
|
|
|
انضموا الى قائمتنا البريدية |
| | |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|