(الصورة: اختلاط عنكبوتي عراقي)
ما الذي يحدث حينما تنسلخ السلطة السياسية من رحم الدولة، وتظل تعمل في فراغ الزمن الاجتماعي غير المحكوم بأي سوسيولوجيا سياسية متراصة؟ يُستبدَلُ حينذاك النسقُ السلطوي التراكمي العمودي المتريث الموحد، بمواكب (قطعان) هائمة على وجهها أفقياً، يفتنها وهجُ اللحظة السياسية المؤقتة المتعجلة المغتربة المغموسة برائحة البترول الآسرة، تدور في شوارع المدن المقطعة الأوصال، كأفاعٍ مستوردة بُثّت وسط ملايين المحرومين الراكضين خلف بصيص الحياة.
قبل التمعن في البنية النفسياسية لهذه القطعان والتأمل في دينامياتها الوظيفية في شوارع بغداد، لا بد من تبني بضع مقدمات افتراضية تشكل بتكاملها الجدلي الرؤية النظرية التي يرتكز إليها التحليل اللاحق:
• حين لا تنشأ السلطة السياسية على شاكلة الشعب، أي حين تتناقض الخصائص النفسية للسلطة مع مزاج الشخصية الاجتماعية السائدة في البلد، تغترب الدولة عن ذاتها وعن المجتمع، وقد تعاني الازدواج أو التشظي حد الفساد والانحلال.
• حين تستمد السلطة هيبتها من سلطة أعلى (كالبطش أو الإله أو جيش احتلال) لا من التفاف الناس الطوعي حولها وتأييدهم العقلاني لها، ينسحب المجتمع إلى أقصى تخوم الهامش، ويصبح التطور الاجتماعي محض ذكرى بعيدة.
• إذا كانت السلطة تعاني من أعراض العصاب السياسي ممثلاً بممارسة قيم الموت والعنف ومعاداة الجمال، فيما يصر المجتمع على ممارسة صحته النفسية الجمعية ممثلةً بالدفاع عن قيم حياته اليومية بكل ما تتضمنه من علاقات اجتماعية واقتصادية وجمالية ذات طابع مدني سلمي، حينذاك تتراكم نطفُ التغيير بعيداً وعميقاً في رحم المعاناة، وتصبح "القيودُ في معصمي مجتمعٍ مثقلٍ بالحديد مفاتيحَ مستقبلٍ زاهر" (حسب رؤية الجواهري الخالد).
البنية المظهرية للموكب
يمثل موكب السياسي العراقي (بنمطيه المُتأسلِم والمُتَعَلمِن) المولود سلطوياً في المنطقة الخضراء، وقت حراكه اليومي واختراقه الأرعن لشوارع بغداد المثقلة بالفوضى والنفايات والألم، بنيةً سوسيولوجية متحركة ثلاثية العناصر، تقتضي إدامتها يومياً عشرات الألوف من الدولارات المنتزعة من خزانة أكبر دولة نفطية في العالم لا يزيد معدل دخل الفرد الشهري فيها عن (139) ألف دينار عراقي (أي 118 دولار)، فيما يعاني (55 - 58)% من اجمالي الأسر فيها من الحرمان الاقتصادي والحرمان من البنى التحتية كالمياه والكهرباء والصرف الصحي (بحسب مسوحاتٍ لأحوال الأسرة العراقية أجراها الجهاز المركزي للإحصاء وتكنولوجيا المعلومات في العراق 2004، 2007م). والعناصر الثلاثة هي:
1 - العنصر السياسي: يتمثل بالسياسي المختبئ خلف الزجاج المظلل لإحدى سيارات الموكب المتشابهة، يمارس التمويه ليضلل "أعداءه" المتربصين به في أية لحظة، محدقاً بجمود وعدم اكتراث في وجوه المارة المذعورين ممن انقطعت آخر خيوط صلتهم الموضوعية والذاتية بدولتهم التي استحالت السلطة فيها إلى مواكب قطيعية. قد يشغل هذا السياسي منصباً رفيعاً في إحدى السلطات الثلاثة: التشريعية أو القضائية أو التنفيذية، وقد يكون قيادياً في أحد أحزاب السلطة أو إحدى الميليشيات التابعة لها أو القريبة منها.
2 - العنصر الأمني: يتمثل بعشرات الحراس حليقي الرؤوس من أشقاء السياسي أو أبناء عمومته أو ممن ينتسبون لميليشيا حزبه أو لشركات أمنية استوردها الاحتلال ضمن قواته أو أشرف على تأسيسها محلياً، مدججين بأسلحة أوتوماتيكية خفيفة ومتوسطة وأجهزة اتصال وتحسس ودروع واقية من الرصاص، ومتمترسين في الغالب خلف عوينات شمسية داكنة تمنحهم شعوراً لذيذاً وزائفاً بالقوة والغموض والأهمية؛ يرشقون زخات الأعيرة النارية جزافاً ويصرخون بفظاظة مهينة ويطلقون الشتائم والتهديدات نحو المارة والسيارات المدنية، وقد يستعينون بمكبرات الصوت أو مزامير السيارات ذات النغمات التحذيرية الكاسحة، في تراجيديا تفوق في غرائبية مشاهدها كلَّ خيالات منظّري مسرح اللامعقول.
3 - العنصر التكنولوجي: يتمثل بعشرات السيارات الضخمة المظللة الزجاج ذات الدفع الرباعي، تطل من نوافذها فوهاتُ البنادق المحشوة والموجهة إلى رؤوس سكان البلاد الأصليين، يقبع فيها السياسي وحراسه وهي تخترق بحركتها الاغتلامية الاستهتارية الفائقة السرعة الشوارعَ المهدمة المزدحمة الرثة، كمنشار عملاق يقطّعُ أوصال مدينة أقزام.
البنية الجوهرية للموكب
تتفاعل العناصر المظهرية السابقة الذكر ببعضها منتجةً ظاهرة سلوكية سياسية سادية يمكن تفكيكها إلى منظومة عناصر نفسية متعددة الاحتمالات لأغراض التشريح والتشخيص والتفسير، هي:
• التوحد بالمعتدي: أفرز الاحتلال الأميركي للعراق واقعاً ثنائي الأبعاد على مستوى الهوية السياسية: "سجّان وسجناء"، قد يطول أو يقصر زمنياً حسب درجة الاعتراض والاحتجاج التي يبديها العراقيون حيال أغلالهم. وقد وجدت النخبة السياسية العراقية الحاكمة الحالية بوصفها "الممثل المُنتَخَب" للشارع العراقي، أنها في الكثير من ممارساتها السلطوية تحتاج أن تتوحد لاشعورياً بسلوك المعتدي (السجان الأميركي) ما دامت لا تستطيع أن تضع حداً لساديته نحوها ونحو المجتمع المحلي عامةً، فاندفعت لإذلال بني جلدتها من العراقيين عبر ترويعهم بشبح الموت المرافق لحركة مواكبها، وكأنها (أي هذه النخبة) تأمن بذلك ماسوشياً سطوةَ الرامبو الأميركي بأن تتقمص نمطه السلوكي السادي نحو المدنيين. فموكب السياسي العراقي بهذا المعنى هو استعارة محاكاتية تسلطية عشوائية مبالغ فيها لموكب "الهمرات" الأميركية التي مارست إذلالاً مبرمجاً للعراقيين في شوارعهم وأزقتهم على نحو مخطط له بدقة منذ الأسابيع الأولى للاحتلال. فالمتوحد بالمعتدي يصبح أكثر قسوة من المعتدي نفسه ليبرر عار انتقاله من صف الضحية إلى صف الجلاد.
• ميكانزم "الهدمية": تنبع هذه الآلية النفسية من تمزق المشيمة النفسية التي تربط الفرد بمعنى آمن لعالمه أثناء طفولته. فيصبح الناسُ والأحداث والمستقبل في نظره موضوعاتٍ للاعتداء والريبة والكراهية "تتطلبُ" مواجهتَها بأدوات سلوكية من نسيجها نفسه، أي العنف والتآمر والهدم، فيفقد الأمان لديه معناه الطبيعي القائم على الثقة البشرية المتبادلة، ويتحول إلى محض اختباء وسط حراس مؤقتين وأسلحة مستأجرة في قاع سيارات غامضة تحزّ جسد مدينة تتابعت عليها كل صنوف الحرمان وحراب الاستبداد. يلخص الهدميُّ ايديولوجيته اللاشعورية بالآتي: ((أهدمُ العالم حولي ليتساوى خرابُهُ الخارجي مع خرابي الروحي. أروّعُ الناس لأخفف من رعبي الداخلي. أهدمُ أمنهم النفسي وقوانينية حياتهم لكي لا أكون المذعور الوحيد والفاقد الوحيد. أحرقُ أيامَهم باسم أعز المقدسات: "الوطنية" و"الدين" ما دام ليس لدي أي مقدسات)). فمواكب السلطة تمارس هدم كرامة المحكومين المغتربين عنها كلياً لأنها تستشعر باطنياً عراقتهم وديمومتهم في مقابل طارئيتها وانهدامها!
• التفكير الاضطهادي وأوهام الارتياب (البارانويا): ورثت السلطة الثيوقراطية الحالية عقدتي الاضطهاد والارتياب من السلطة الفاشية السابقة، إذ أفرطت كلا السلطتين – بالرغم من اختلاف منطلقاتهما الايديولوجية- في الشعور بأنها مُضطَهَدة ومُستَهدَفة من عدو غامض زئبقي وغير مشخصن تماماً ومتأهب لاغتصاب السلطة في أي وقت، "ينبغي" اتخاذ أقصى الحيطة معه، وتوقع اختبائه في أي مكان وخلف أي قناع. وإذا كانت السلطة الحالية قد واجهت فعلاً أعداءاً دمويين في صراعها لتثبيت أركانها منذ العام 2003م، فإنها بالغت في الوقت ذاته في مراكمة عقدة شك مَرَضية تجاوزت بعيداً في تضخمها ما يتطلبه الواقع من احتراس وحذر. فالغالبية العظمى من الضحايا الذين استهدفهم حراسُ هذه المواكب، من قتلى أو جرحى أو مصدومين نفسياً، هم مواطنون مدنيون لا شأن لهم بالعمل السياسي المسلح ولا يعلمون شيئاً عمن تقلّه هذه المواكب. لقد أصبح موكب السلطة ببنيته الإذلالية للمواطنين إجراءاً دفاعياً "مشروعاً" و"ضرورياً" في نظر أصحابه ما دامت عدوانيته تتناسب مع جسامة "الخطر" الكامن في ثنايا الشوارع ومجاهلها. إن عقدتي الاضطهاد والارتياب هي التمظهر الخارجي لعقدة النقص الكامنة؛ بمعنى أن العدوانية الظاهرية للموكب السياسي في الشارع العراقي هي تلهية وإنكار صريحين لرعب شعوره الكامن بالخواء!
• التماهي بالسلطة السابقة: أرسى نظام البعث السابق عبر سنوات حكمه الطويلة للعراق صورةً نمطية لمفهوم السلطة في أذهان الساسة والعامة على حد سواء. فقد ارتبط معنى السلطة في تلك الحقبة بالقوة والعسف وإرعاب الناس والتحكم بمصائرهم، فممثل السلطة الذي لا يهابه الناس ولا يتزلفون له كان يعدّ فاشلاً وربما خائناً يقتضي عقابه. ويبدو أن ساسة الحقبة الحالية، وجلّهم من معاصري عصر البعث، وإنْ كانوا معارضين له في الداخل والخارج، قد اكتسبوا السمات التسلطية ذاتها – لأسباب تتعلق بسيكولوجيا العصر السياسي الذي ساد آنذاك في العراق والشرق الأوسط عامة- أي الافتتان بالقوة غير الرشيدة، والتمجيد الضمني والصريح لقيم التعصب والقهر، مع مزدوجية السلوك الماسوشي نحو القوي والسلوك السادي نحو الضعيف في آن معاً. وهكذا أمسى الحاضر يتماهى بالماضي، أي ضحية الأمس تتقمص جلادها السابق، ما دامت السلطة السياسية في العراق ما تزال محصلةً لصراعات الأضداد الدموية لا نتاجاً لفكرة التداول والقبول بالآخر وإعلاء قيمتي الوطن والقانون فوق كل قيمة. فمواكب اليوم ليست إلا امتداد غرائبي لمواكب الأمس الروتينية، إذ أصبحت أكثر ذعراً وهستيرية ومأساوية لأن عقدة "الوقتية" أو "الطارئية" باتت تهيمن بقوة على ديناميات تكوينها وسلوكها!
• عقد النرجسية والسيكوباثية والاستعلاء: حينما يتمركز النرجسي (العاشق مَرَضياً لذاته) كلياً حول ذاته ويستبعد إنكارياً من ذهنه أي احتمال لموته، يضطر عندها لاقتراف أي شيء ليبقى حياً يوماً آخر أو ربما ساعة أخرى، خصوصاً إذا كانت هذه النرجسية في تأسيسها الابتدائي هي تكوين عكسي لكره الفرد لذاته نتيجة ميول وأفعال سيكوباثية (أي القسوة والسادية والأنانية واللامبالاة تجاه حقوق الآخرين وعدم الشعور بالذنب ومعاداة المجتمع) مارسها في وقت مبكر من حياته. وبكلمات أوضح، إن موكب السلطة بنيةٌ سيكوباثية تنرجستْ دفاعياً لتحيل ازدراءها الدفين لذاتها إلى افتتان ظاهري عصابي بها حد إصابتها بفوبيا فقدان الحياة، فالموكب يطلق كل وسائل إرعابه المبهرج للمارة المدنيين المنشغلين عنه بأمورهم، فقط ليشق لنفسه كهفاً منحوتاً من صمت داخلي سحيق يجنبه قلق مواجهته لعاره.
ولا تنفصم عقدة الاستعلاء (النظرة الدونية للآخر) في نشوئها عن ديناميات نشوء الشخصيتين النرجسية والسيكوباثية المشار إليهما قبل قليل، إذ تتداخل المفاهيم الثلاثة نشوءاً وتطوراً وصيرورة. إن ازدراء السياسي لحقوق الناس وثلم طمأنينتهم وإهانة خصوصياتهم وعدم الاكتراث لما يصيبهم على يد حراسه من أضرار نفسية ومادية، على نحو صريح ويومي وروتيني، إنما يؤشر بوضوح نزوعاً عصابياً لديه لنفخ الذات بأهمية زائفة ولممارسة لذة الحكم العمياء. فالموكب بهذا المعنى تعويض مَرَضي عن حرمان السياسي من السلطة خلال سنوات المعارضة أو الانكفاء التي سبقت حقبة الاحتلال، وهو إقرار مباشر بانتهاكه كل قيم التمدن والديمقراطية التي يبحّ صوته في التسبيح بها كل يوم أمام كاميرات القنوات الفضائية والمؤتمرات الصحفية.
* * *
إن تحليلنا هذا يفضي إلى استنتاج تلحق به توصية بشأن شخصية السياسي العراقي المولود في المنطقة الخضراء:
• استنتاج: إن سلوكه حيال الشارع العراقي: عدواني، هدمي، بارانويدي (اضطهادي – ارتيابي)، نرجسي، سيكوباثي، استعلائي، متماهي بالسلطة الاستبدادية السابقة؛ مما يقتضي بالضرورة حجراً سياسياً على نشاطه، وهو إجراء ذو هوية إصلاحية كبرى يمكن أن تتكفل به جموع المحرومين والمثقفين المتنورين إذا ما قررت التحرك ضمن الأطر المشروعة، كالانتخابات وغيرها من وسائل الاحتجاج الفاعلة.
• توصية: إن الأضرار النفسية البالغة، فضلاً عن الأضرار المادية التي خلفتها قطعان السلطة في ذاكرات العراقيين وكبريائهم أثناء مرورها العاصف في شوارعهم أثناء العهدين السابق والحالي، تحتّم مقاضاة المتسببين بتلك الأضرار قضائياً وفق القوانين العراقية السارية. وهذه دعوة واقعية لرفع دعوى جزائية باسم الشعب العراقي يتولى البرلمان العراقي – بوصفه السلطة التشريعية الممثلة للشعب حالياً - إقامتها على نفسه وعلى كل من السلطتين القضائية والتنفيذية والأحزاب الميليشياوية الحالية، وعلى نظام البعث السابق أيضاً، استجابةً لحملة شعبية واسعة لجمع التواقيع، للمطالبة باعتذار بليغ مكتوب يجري تداوله كوثيقة تأريخية تلحق بالدستور بعد أن تكتسب قوة القانون بما تتضمنه من بنود للتجريم والتعويض، في سابقة حضارية وسياسية تستهدف الارتقاء بالوضع البشري في نطاق تنظيم العلاقة بين الدولة والمجتمع.
ولا يمثل هذا الاعتذار إلا جزءاً من اعتذار شامل ومتعدد الأبعاد والمضامين يستحقه المجتمع المدني العراقي البالغ التحضر من كل الساسة البرابرة: المحليين والإقليميين والكوزموبولتيين، ممن حقنوا عروقّ حياته اليومية على مدى أكثر من أربعة عقود بسموم الحروب والفاشية والتطرف الديني والعولمة المتوحشة وما نتج عنها من خراب سوسيوسيكولوجي أسطوري، دون أن يفطنوا إلى حقيقة أنهم وإنْ كانوا قد خلّفوا بلاداً مهدمةً حد النخاع لكنها ظلت حافلةً بالوعي السياسي الشعبي الحاذق، وبالإدراك العميق للظلم، وبالتمسك الرومانسي بالهوية الوطنية حد الأمل.. حد الجمال... حد الحياة! |