حسين مردان، شاعر ومثقف وجودي عراقي بارز ومميز (1927 ـ 1972)، استطاع أن يمزج الوجودية ـ السوريالية الشعرية بالالتزام الاشتراكي الماركسي ضمن مسلسل من الالتباسات الفكرية، نجح أحياناً في القفز فوق أخاديدها المتهاوية نحو الأحاضيض الاتهامية، وفشل في أحيان أخرى... ما دفع نقاده إلى وصمه بصفات دونجوانية ـ فردية نزقة تتعامل مع النساء وكأنهن دمى جمالية استعملها مردان في قصائده ومقالاته معابر للوصول إلى جماليات تعبيرية..
دفع مردان ضريبة الإبداع في المقالة الأدبية على حساب أولويات أدبية أخرى، كالرواية مثلا أو المسرح، عاجزاً عن أن يطرق أبوابهما، ليبقى مسوراً بجدران القصائد النثرية الحديثة وبأروقة المقالة الأدبية الشعرية ـ الفكرية التوجيهية والتنويرية، تلك التي برع فيها وتميز. هكذا، يبدو كتابه الصادر عن منشورات الجمل تحت عنوان «الأزهار تورق داخل الصاعقة» في طبعته الأولى، 2010، تأكيداً لهذا التميز والفرادة في صياغة المقالة الأدبية، بوصفها فناً يستوعب عدة أساليب أدبية: الشعر والسرد والحوار والتوجيه والإرشاد والتنوير والمحادثة...
يبدو مردان جريئاً ومجدداً ومتمرداً في قصائده النثرية الموجودة في كتابه الثاني «من يفرك الصدأ؟» الصادر أيضا عن منشورات الجمل، 2010، ما يلزمنا بالاقتناع بدوره التأسيسي، مع سواه، في سبك النثر الشعري أو «النثر المركز» ـ بحسب تعبيره ـ والذي تتجلى فيه شاعرية هادرة وصاخبة ومتمردة، واجه بها زمنه بقلب لم يُملأ بعد بمستجدات زمن ما بعد الحداثة، بل إن وفاته في عام 1972 هوت بإمكانياته ومواهبه المبكرة والخارقة إلى مدارك ومهابط تلتف حولها أسئلة كثيرة متشابكة تدفعنا إلى الخوض في معترك الإجابة عنها، لتنير فهمنا واستيعابنا لمفارقات تلك المرحلة الريادية وإشكالياتها.. وتبدو محاولة علي جواد الطاهر في إعداده وتقديمه كتاب «من يفرك الصدأ؟» ناجحة نسبياً في تقديم مقالات مردان ومرويات أسفاره إلى العواصم الأوروبية والعربية. وتبدو نثريات مقالاته وقصائده دليل تميزه، وباستحقاق وجدارة، أما شعره التفعيلي الموزون والحديث، فيهبط فيه المستوى الإبداعي إلى ما تحت مستوى زملائه الرواد كأدونيس والسياب وبلند الحيدري والبياتي. ولقد تقاطعت في أعمال مردان تيارات واتجاهات حداثوية شتى، وتمخض عنها، حضور أدبي وشعري لا يمكن تجاهله أو إنكاره، أو تهميش إرهاصاته التي دخلت في فضاءات التبصر الحداثوي والتجاوز التجديدي في مرحلة التفتح والريادة في الخمسينيات والستينيات، وصولاً إلى موعد الرحيل في بدايات السبعينيات من القرن الماضي العشرين.
الأزهار في الصاعقة
لا شك في أن شاعرية مردان المتفردة تتألق في تفجراتها وأعماقها عبر مقالاته بعنوان «الأزهار تورق داخل الصاعقة» والتي تغرف تمايزها من خلال استحمام الشاعر بالمرأة العشيقة والعاشقة، بينما تتوارى وتنحجب خلف مشهدية الاستحمام الغزلي ـ السوريالي علاقة الشاعر بالمرأة الأم والأخت والرفيقة والصديقة.. وكأن التغور السوريالي المتدفق يبقى مرتبطاً بالجنس والشبقية وبأطايب اللذائذ الحسية فقط دون سواها.. لكن مقالات هذا الكتاب تكشف أيضاً عن طاقة تأملية ـ اختراقية عميقة تتضمن الضفاف التي تسبح السياسة والجماليات الأدبية والسياسية في مياهها.. ما يدفعنا إلى القول ان قدرة مردان الإبداعية المتميزة لم تكن حكراً على علاقته بالمرأة العشيقة فقط، بل ان مردان، بما امتلكه من مخزون معرفي وتنويري ونقد أدبي وجمالي واجتماعي، جعله رائداً ومجدداً ومؤسساً لفن كتابة المقالة الأدبية الحديثة والقادرة على تناول التنوع في المستويات والحقول المعرفية بأسلوبية جمالية ـ لغوية مشوقة وآسرة ومتفردة ومميزة.
من يفرك الصدأ؟
يتضمن كتابه الثاني الأنطولوجي «من يفرك الصدأ؟» مختارات اجتمعت فيها القصائد والمقالات التي صال فيها مردان وجال، والتي تشكل مرجعاً صادقاً وعادلاً لتقييم ما برع فيه مردان وتميز من جهة، وما هبط فيه مستوى الإبداع والتميز إلى حدود اعتيادية تضع النقاط على الحروف وتعطي مردان حجمه الحقيقي، بما له وما عليه، في سياق مرحلة ريادية، ينبغي النظر إليها والتأمل فيها، دون مبالغات أو تهويل، ودون إطراء ومديح يخل بكفة النقد المتوازن.
لقد كان الهدف الأول لحسين مردان أن يكون أديباً وشاعراً، وقد نجح في هذه التجربة وصار أديباً وشاعراً فعلاً، ولا يشك أحد في موهبته الأدبية التي راكم عليها مردان ثقافة وجودية معرفية مكتنزة بتجارب مرحلة الستينيات الماضية، وكان فيها مردان ركناً أساسياً في مدماك إبداعاتها الثقافية، سواء في عمارتها الوجودية ـ السوريالية الجمالية، أو في ما تهدم وتحول إلى أنقاض للعمارة السياسية...