لنقل هو حدث ثقافي، شغل الصحف الفرنسية ووسائل إعلامها في الأيام الأخيرة. ما هو؟ صدور الأعمال «الكاملة» (لغاية الآن) للكاتب التشيكي ـ الفرنسي، ميلان كونديرا في سلسلة «لابلياد». وهذه السلسلة تعتبر بمثابة ذاكرة للآداب إذا جاز التعبير، ولا يدخل عليها إلا من يعتبرون من كبار الكتاب. ومع كونديرا، تبدو الحالة مزدوجة، إذ دخل إليها (مع قلة قليلة) وهو بعد على قيد الحياة، إذ من المعروف أن «لابلياد» لا تعيد إصدار هذه الأعمال، إلا لمن استطاع أن يبقى أدبه «صامدا» على مر العصور المتعاقبة. من هنا، جاء «الاحتفاء» به كبيرا، على قدر قامته التي وسمت الرواية الحديثة في العقود الأخيرة من القرن العشرين، لتجعله واحدا من أكثر الكتاب حضورا. ما من مجلة أو صحيفة، إلا وأفردت له العديد من الصفحات، لتتناول الكاتب وأعماله، وبالطبع مناسبة صدور أعماله في هذه السلسلة. في أي حال، ليس كونديرا غريبا عن المكتبة العربية، إذ ترجمت أعماله بأسرها إلى لغتنا، حيث وجدت صدى واسعا. ومن المعروف أيضا أن كونديرا، لا يعطي الأحاديث الصحافية منذ ثمانينيات القرن المنصرم، إذ يجد أن المقابلات «تخرّب» أقوال الكاتب وأفكاره، لذلك ابتعد عن كلّ الوسائل الإعلامية، معتبرا أن علينا أن نقرأ الأعمال لا أن نهتم بالقشور. من هنا، أجرت صحيفة لوموند الفرنسية، وبمناسبة صدور أعمال كونديرا في «لابلياد» حديثا «طريفا» مع الكاتب. أقول طريفا، لأن الكاتب لم يحاول، عن الأسئلة المطروحة عليه، أن يكتب إجابات جديدة، بل استلّ «أجوبته» من بطون كتبه، «منعا لأي التباس»، أيّ مما سبق له أن تناوله في العديد من أبحاثه أو رواياته. وكان له ما أراد، إذ أفردت «لوموند» هذه الإجابات لتشكل حديثا مع الكاتب طالما انتظره القراء. في هذه الأسطر نعيد ترجمة الحوار، مضيفين عليه (الأسئلة والأجوبة الثلاثة الأخيرة) «حوارا» كانت أجرته مجلة الاكسبرس مع الكاتب، يوم صدور روايته «الجهل». حوار أصرّ يومها الكاتب أن يوجه إليه الصحافي الفرنسي ثلاثة أسئلة مكتوبة، وأن يجيب عنها كتابة، شرط أن يقال إنها إجابات مكتوبة وأن تنشر بدون أي تعديل. وكان له يومها ما أراد. وقد استجاب كونديرا للكتابة، لأن «الاكسبرس» كانت يومها الوحيدة التي دافعت عن رواياته المكتوبة مباشرة بالفرنسية، بينما وجهت له بعض الصحف انتقادات شتى، ما دفعه يومها «ولمعاقبة» القراء الفرنسيين، أن يصدر «الجهل» بترجمة اسبانية قبل أن يعيد نشرها بالفرنسية بعد عام. مقتطفات بمثابة أجوبة عن أسئلة، تتيح لنا أن نطل مجددا على مناخات هذا الكاتب الذي يعرف مكانة كبيرة.
÷ لنبدأ بسؤال سهل: لمَ تحتقر كل ما يمت إلى السيرة إلى هذه الدرجة؟ لِمَ هذا الاشمئزاز في أن تتحدث عن نفسك؟ } «على الفنان أن يجعلنا نؤمن بالجيل المقبل الذي لم يعشه»، قال فلوبير. في حين كان موباسان يمنع صورته من أن تظهر في سلسلة مخصصّة للكتّاب المشاهير: «حياة الإنسان الخاصة كما صورته لا تنتميان إلى الجمهور». هيرمان بروخ قال عن نفسه أيضا، كما عن روبير موزيل وفرانز كافكا (التالي): «ليس لنا نحن الثلاثة سيرة فعلية». بيد أن ذلك لا يعني بأن حياتهم كانت فقيرة بالأحداث، بل لم تكن منذورة لأن تصبح مميزة، عامة، بأن تصبح سيرة (...). من جهته رغب فولكنر بأن «يُلغى ككائن بشري، بأن يُزال من التاريخ وأن لا يترك فوقها أيّ اثر، لا شيء سوى كتبه المطبوعة». (لنلاحظ الكتب المطبوعة، أيّ ما من مخطوطات غير منتهية، ما من رسائل، ما من يوميات). وفق استعارة شهيرة، يهدم الروائي بيت حياته كي يعيد ـ مع القرميد ـ بناء منزل آخر، منزل الرواية. يعني هذا بأن كتّاب سيرة الروائي يهدمون ما قام به الروائي ليعيدوا بناء ما هدمه. إن عملهم، سلبي جدا من وجهة النظر الفنية، إذ لا يستطيعون إضاءة لا قيمة الرواية ولا معناها. في اللحظة التي كان فيها كافكا يلفت النظر أكثر مما يلفته جوزف ك. تمّ إعلان سيرورة موت كافكا. («فن الرواية»).
عنف الحياة الأدبية ÷ ما الذي يمكننا القيام به لكي نتجنب بأن تحجب سيرة المؤلفين عملهم الأدبي؟ } أحلم بعالم يصبح فيه الكتّاب مضطرين، قانونيا، بالاحتفاظ بسرية حياتهم كما باستعمال أسماء مستعارة. ثمة ثلاث حسنات في ذلك: الحدّ الجذري من عملية دراسة الخط، التقليل من العنف في الحياة الأدبية، انتفاء تأويل العمل الأدبي من خلال السيرة (فن الرواية). ÷ بخصوص عملية دراسة الخط، نجد أن لديك تعريفا شخصيا جدا... } عملية الخط ليست الطريقة في كتابة الرسائل واليوميات الحميمة والتعليقات العائلية (أي الكتابة لأنفسنا أو لأقربائنا)، بل أن نكتب كتبا (أي أن نجد جمهورا من القراء المجهولين). إنها لا تعني الطريقة في إبداع شكل بل في أن نفرض «أنانا» (من أنا) على الآخرين. إنها الشكل الأكثر غرابة لإرادة القدرة (فن الرواية). ÷ السبب في كرهك الشديد للمقابلات يعود إلى أنها «تكتب من جديد» (rewritees)، كما يقال حاليا. فيم الخطورة من هذه الممارسة؟ } المقابلات، الأحاديث، الخلاصات. الاقتباسات، النقل السينمائي، التلفزيوني. إعادة الكتابة كما لو أنها روح العصر. ذات يوم ستصبح كل الثقافة الماضية مكتوبة من جديد بشكل كامل وستصبح منسية بالكامل خلف «إعادة الكتابة» (REWRITING) (فن الرواية). ÷ طيلة حياتك مارست «فن الرواية». ومع ذلك في (كتاب) «الوصايا المُخانة» تقول كم أن الرواية، برأيك، هي أكثر من مجرد «نوع أدبي» بسيط. بعمق، ماذا يعني بالنسبة إليك أن تكون روائيا؟ } بالنسبة إليّ، أن أكون روائيا هو أكثر من مجرد ممارسة «نوع أدبي» من بين الأنواع الأخرى؛ إنه موقف، حكمة، موقف ينفي كل تماثل مع أي سياسة، أي إيديولوجية، أي أخلاق، أيّ شراكة؛ إنها لا تماثل واع، عنيد، ساخط، يُرى لا على أنه هروب أو استكانة بل بكونها مقاومة وتحد وثورة. («الوصايا المخانة»). ÷ هل بإمكانك أن تعطينا مثلا على ذلك؟ } انتهى بي الأمر بهــذا الحوار الغريب: «هل أنت شيوعي يا سيد كونديــرا»؟ «لا، أنا روائي». «هل أنت منشــق»؟ «كلا، أنا روائي». «هل أنت يميني أو يساري»؟ «لا هذا أو ذاك. أنا روائي». (الوصايا المُخانة). ÷ هناك عنصر واحد ينتمي إلى سيرتك، عنصر واحد. ولدت عام 1929 في برنو، التي كانت في تلك الفترة تشكل جزءا من تشيكوسلوفاكيا. ما الذي تستدعيه هذه الكلمة «تشيكوسلوفاكيا فيك اليوم؟ } لا استعمل هذه الكلمة، تشيكوسلوفاكيا، بتاتا في رواياتي، على الرغم من أن أحداثها تجري هناك بعامة. هذه الكلمة المركبة جديدة جدا (ولدت عام 1918)، كانت بدون جذور في ذلك الوقت، قبيحة، كما أنها تخون السمة المركبة والشابة للشيء غير المسمى. لو كان بإمكاننا، إلى حدّ ما، أن نؤسس دولة على كلمة متينة، نجد أنه لا يمكننا أن نؤسس رواية عليها. من هنا ولكي أشير إلى بلد شخصياتي، أستعمل دوما الكلمة القديمة «بوهيميا». من وجهة نظر الجغرافيا السياسية، فإن ذلك ليس دقيقا (لذلك يعاندني المترجمون دوما)، لكن من وجهة نظر شعرية، أجد أنها التسمية الوحيدة الممكنة. (فن الرواية). الرؤية الأوروبية ÷ لنبقى في قلب الجغرافيا وقلب الثقافة. ما هي عليه رؤيتك لأوروبا؟ } في العصر الوسيط، كانت الوحدة الأوروبية ترتكز على الدين المشترك. في عصر الأزمنة الحديثة، تركت مكانها للثقافة (الفن، الأدب، الفلسفة)، التي أصبحت تحقيقا للقيم العليا التي يجد الأوروبيون عبرها ذواتهم ويتحددون بها ويتماثلون معها. في حين، أننا اليوم، نجد أن الثقافة تخلي مكانها بدورها. لكن لمن ولمَ؟ ما هو المجال الذي ستتحقق فيه القيم العليا، الجديرة بتوحيد أوروبا؟ الاكتشافات التقنية؟ السوق؟ السياسة مع المثال الديموقراطي، مع مبدأ التسامح؟ بيد أن هذا التسامح، إن لم يكن يحمي أي إبداع غني أو أي فكر قوي، ألن يصبح عندها فارغا وعديم الفائدة؟ أم بالأحرى يمكن لنا أن نفهم استقالة الثقافة بمثابة نوع من خلاص علينا أن نسترسل فيه بغبطة؟ لا أعرف شيئا من ذلك كله. أعتقد فقط بأن الثقافة أخلت مكانها. وهكذا تبتعد صورة الهوية الأوروبية في الماضي. الأوروبي: هو من يشعر بالحنين إلى أوروبا. (فن الرواية). ÷ في هذه الطبعة من سلسلة «لابلياد»، نجد قاموسك الشخصي. أي ما تسميه كلماتك – المفتاح، كلماتك ـ المشكلات، كلماتك ـ الحب. ومن بين هذه الكلمات نجد «infantocratie». ما معنى ذلك؟ } (يكتب موزيل في «رجل بدو صفات»): «يتقدم سائق الدراجة النارية في الشارع الفارغ، ذراعه وساقه على شكل 0، ويعود ليصعد المنظور بضجة عاصفة؛ كان وجهه يعكس صرامة طفل يعطي لصراخه عظيم الأهمية». صرامة طفل، ووجه العصر التقني. الـ infantocratie هي مثال الطفولة المفروضة على الإنسانية. (فن الرواية). ÷ في فصل الحرف «I « نجد كلمة مهمة جدا في عالمك: «Ironie» (السخرية). تقول إن السخرية هي ما «يكشف عن نقاب العالم على أنه إبهام»... } من هو على خطأ ومن هو على صواب؟ هل كانت إيما بوفاري لا تحتمل؟ هل كانت شجاعة أم مؤثرة؟ وفيرتير؟ هل كان حساسا أم نبيلا؟ أم عاطفيا عنيفا، عاشقا لنفسه؟ كلما قرأنا الرواية بانتباه أكبر كلما أصبح الجواب مستحيلا، إذ أن الرواية – في تعريفها – هي فن السخرية: «فحقيقتها» مخفيّة، غير ملفوظة وغير منطوقة. «هل تذكر، يا رازوموف، بأن النساء والأطفال والثوريين يمارسون السخرية، نفي كل الغرائز، كل إيمان، كل وفاء، كل فعل!» هذا ما يترك جوزف كونراد أحد الثوريين الروس يقوله في روايته «تحت أعين الغرب». السخرية تثير. لا لأنها تسخر أو لأنها تهاجم بل لأنها تحرمنا من اليقينيات حين تنزع الحجاب عن العالم على أنه إبهام. (فن الرواية). الكيتش ÷ ثمة كلمة محورية ثانية نجدها عندك. كلمة «كيتش». } حين كنت أكتب «خفة الكائن التي لا تحتمل» شعرت بالقلق قليلا لأني جعلت من كلمة «كيتش» أحد الكلمات – المفاتيح في الرواية. في الواقع، ومؤخرا أيضا، كانت هذه الكلمة شبه مجهولة في فرنسا، أو بالأحرى معروفة عبر معنى فقير جدا. في الترجمة الفرنسية لبحث هيرمان بروخ الشهير، نجد أن كلمة «كيتش» قد ترجمت بـ «الفن الرخيص». ثمة معنى معاكس في ذلك، لأن بروخ أظهر بأن الكيتش هو أمر آخر غير كونه عملا بسيطا ذا ميل سيء. هناك الموقف «الكيتش»، تصرف «الكيتش». حاجة الكيتش للإنسان الكيتش: إنها الحاجة لأن ينظر المرء إلى نفسه في مرآة الكذب التي تجمل ولكي يتعرف إلى نفسه برضا يثير العاطفة. (فن الرواية). ÷ «الجهل» هي روايتك الثالثة التي تكتبها بالفرنسية. كيف تتطور علاقاتك مع هذه اللغة؟ هل ما زلت تشعر بالحنين إلى التشيكية، كما نجد عند إحدى شخصياتك في الكتاب، جوزف، الذي يثرثر مع صديقه «ن» بلغته الأم؟ } أبدا، ما من حنين. إذ، وخلافا لجوزف، أثرثر بالتشيكية كلّ يوم مع زوجتي. بيد أن العالم من حولي، ومنذ 28 سنة، هو فرنسي، يكلمني بالفرنسية وأكلمه بالفرنسية. من هنا، يمكنني أن أستنتج كل يوم الاختلاف العميق بين لغة الولادة واللغة المتعلمة. حين أتحدث التشيكية، تخرج الجمل وحدها من فمي، تخرج بدون تحكم، ملفوظة من جراء الآليات الموضوعة في دماغي منذ طفولتي. أما بالفرنسية، وعلى العكس من ذلك، ما من شيء أوتوماتيكي عندي. كل شيء واع فيها. كل شيء مُفَكَرّ فيه. موزون، مراقب. ولكنه جديد أيضا. مكتسب. مدهش. ساحر. كل كلمة، كل شكل قواعدي. هذه العلاقة الواعية جدا تسحرني. إنها ليست على نقيض من أسلوبي الأدبي، الذي كان دائما يملى عليّ عبر شغف الوضوح، البساطة، الشفافية، الدقة. ÷ «إننا غارقون جميعا في جهل، لا يعتبر على أنه غلطة ثقافية بل بمثابة معطى اساس للشرط الإنساني». نشعر، حين نقرأ روايتك، بأن المنفى يتخطى القرينة السياسية وبأنه جائزة جميع الكائنات، أي أنه معطى أساسية للوجود. كما لو أن الإنسان، وللأبد، هو منفي من الداخل. ما رأيك؟ } الهجرة هي نتيجة الانقلابات السياسية. لكن، الحق معك، إذ أنها، وفي الوقت عينه، وفي شكلها المتكتم، أي بصفتها منفى داخليا، هي «جائزة الكائنات بأسرها». الروائي ليس خادما للمؤرخين. لأنه لا يرغب في رواية التاريخ أو التعليق عليه، بل أن يكتشف السمات المجهولة للوجود البشري. إذ أن الأحداث التاريخية الكبرى بالنسبة إليه هي بمثابة «بروجكتور» يضيء فجأة هذه المظاهر الخبيئة وتزيل الأقنعة عنها. في الواقع، ما هو الحنين إذا ما وضعنا بين هلالين كل الكليشيهات العاطفية المرتبطة بهذا الموضوع؟ ألا يوجد أيضا، إلى جانب الحنين للبلد الذي غادرناه، حنين المنفى المفقود؟ ألا يوجد إلى جانب حنين بينيلوب، حنين كاليبسو؟ وإلى جانب العودة، العودة الكبيرة؟ هل يمكن له أن ينوجد بعد في هذا العالم حيث يتقدم التاريخ بخطى سريعة ليعيد كل يوم تشكيل المناظر التي كانت مناظرنا فيما مضى؟ وما هي الذاكرة؟ أسمع من كل حدب شعارات من مثل «واجب الذاكرة»، «عمل الذاكرة»، بيد أن شخصيتي روايتي اللتين تعودان إلى بلدهما بعد عشرين سنة، يصطدمان بـ «بداهة كل هذه البداهات: إن واقعا كما كان عليه حينما كان عليه، لم يعد موجودا؛ من هنا من المستحيل استرجاعه». النسيان يمحو الماضي بينما تحوله الذاكرة. إننا جميعا غارقون في جهل علينا أن نعتبره خطأ ثقافيا بل كمعطى أساسي للشرط الإنساني. ÷ هل يمكنك أن تحدثني عن تركيبة هذه الرواية؟ يبدو لي إيقاعها متسارع، إلا أن القارئ، من جهته، يقرأها بشكل أبطأ: عليه أن يبطئ سرعته بسبب كثافة السرد المسبب للدوار؟ } لقد صغت لتوك مثالي لتركيبتي الروائية. غالبا ما قلت بأن رواياتي الثلاثة الأخيرة المكتوبة بالفرنسية، تستوحي من شكل التتابع. في الواقع، يشكل التتابع درسا كبيرا للتكامل الشكلاني، فهو يصلح لكل أنواع الفنون. إذ أن مبدأه المتعدد الأصوات يفترض على كل تفصيل ـ ما أن يتم عرضه ـ في أن يتحول إلى موتيف على مرّ عملية التركيب. في رواية «الجهل»، نجد موتيفات حول الحنين، النسيان، عوليس، أرنولد شونبرغ، المرآة (إيرينا، ميلادا، الأم، غوستاف، كلهم مدهشون بالمرآة)، تي ـ شيرت عليها صورة كافكا، داخل منزل في الدانمارك (لم يتوقف جوزف عن الهوس بذلك) الموسيقى التي تتحول إلى صخب الخ... هذه الموتيفات تبقى عالقة في ذاكرة القارئ، ما أن تظهر ولغاية نهاية الرواية. لهذا السبب على الجزء الثاني من التركيب أن يظهر بشكل تلقائي أكثر جمالا من الجزء الأول، أغنى، أكثف، كما تقول. إذ كلما تقدمنا في قاعات الرواية، كلما تضاعفت أصداء الجمل التي قيلت، أصداء الثيمات التي عرضت، ولكي تتشابك بتناغم ولترن من جميع الجهات. وهذا ما يدعى، في المصطلح الموسيقي «الستريت»: أي الجزء الأخير من التتابع، الموسوم بكتابة مقتضبة بشكل خاص.
|