نقاش : وفى متظاهرو ساحة التحرير بوعدهم، عندما أعادوا كرة التظاهرات يوم الجمعة الماضي رغم سلسلة الاجراءات التي اتخذتها السلطات والزعامات الدينية لمنعهم من التظاهر.
وفرضت السلطات العراقية على منسقي تظاهرة "جمعة الكرامة" والراغبين بالمشاركة فيها، حظر تجوال عطّل الحركة المرورية الطبيعية بدءاً من منتصف ليل الخميس الماضي، تم رفعه بحدود الساعة الثالثة والنصف من ظهيرة يوم الجمعة، بعد ان فرقت القوات الأمنية المتظاهرين بالقوة. وشمل الحظر إلى جانب بغداد ستة محافظات عراقية أخرى.
وقطعت الطرقات والجسور بخرسانات كونكريتية وأسلاك شائكة، وأغلقت العديد من المناطق مانعة الناس من الخروج منها، ومعيقة وصول الآلاف منهم إلى ساحة التحرير وسط العاصمة بغداد.
كما أغلقت جسري السنك والجمهورية الواصل إلى المنطقة الخضراء، حيث مقر البعثات الدبلوماسية والوزارات.
وهو ما اعتبرته رئيسة منظمة "حرية المرأة" ينار محمد، "قمعا للحريات العامة، وتراجعا عن الوعود والتعهدات التي قطعتها الحكومة باحترام حق التظاهر".
أما أمين عام "تجمع الشباب الحر"، وصاحب أول اجازة للتظاهرة صادرة من قبل السلطات، جلال الشحماني، فوصف قرار قيادة عمليات بغداد بإخلاء ساحة التظاهر عند الواحدة ظهرا، بـ"التعسفي" قائلا أن "هذا القرار يمثل ابرز صور القمع والانتهاكات والتضييق على الحريات العامة التي كفلها الدستور".
وتعهد الشحماني بمواصلة التظاهر "لحين تشكيل معارضة حقيقية داخل البرلمان تكون ممثلة حقيقية للشعب ومماثلة للآلية الديمقراطية القائمة في دول العالم المتحضر".
ولوحظ، وكما هو الحال في المظاهرات التي سبقتها، افتقاد الحشود للتنظيم والقيادة المركزية. كما غاب الخطاب الموحد وتباينت مطالب المتظاهرين بين ما هو سياسي وآخر خدمي.
ويشير الشحماني إلى أن المتظاهرين على الرغم من ذلك "أجمعوا على نبذ الطائفية ورفع العلم العراقي دونا عن الأعلام الحزبية أو الرموز الدينية".
وفضلا عن المطالب الخدمية والسياسية، رفع المتظاهرون في ساحة التحرير نعشا لفّوه بالعلم العراقي، في دلالة على القتلى الـ 16 الذين سقطوا في عموم محافظات العراق يوم الجمعة 25 شباط/ فبراير، والمسمى "يوم الغضب" العراقي.
كما شارك في التظاهرات مجموعة من الشباب من خريجي الجامعات العاطلين عن العمل، وكانوا يرتدون ثياب التخرج، ويحملون لافتات تطالب الحكومة بتوفير فرص العمل.
وتعرض المتظاهرون لعمليات تفتيش على يد السيطرات الأمنية المنتشرة عند مفارق الطرق لأكثر من ثلاث مرات متتالية قبل بلوغهم الساحة.
ونتيجة للاجراءات المشددة، قدر عدد المتظاهرين المتواجدين في ساحة التحرير في الرابع من آذار (مارس) بنحو ألفين متظاهر، فيما بلغ خمسة آلاف في الجمعة السابقة.
ونجح المحتجون رغم قلة عددهم، في شلّ الحركة التجارية والمرورية في عموم احياء العاصمة ومنطقة التظاهر تحديدا التي تمثل قلب العاصمة بغداد، بعد ان أجبروا السلطات للجمعة الثانية على التوالي، على فرض حظر التجوال يشمل المركبات والدراجات بمختلف انواعها.
ويعزو منسقو المظاهرات قلة عددهم، ليس الى الإجراءات الحكومية "القمعية" فقط، وإنما الى الفتاوى الدينية وتوجيهات والزعماء الروحيين للتيارات السياسية.
وقد سبق لقناة "العراقية" وهي التلفزيون الرسمي للدولة، أن بثت في على شاشتها مانشيتات يحث فيها مراجع دينيون في مدينة النجف الأشرف على ضرورة التهدئة، وحرم بعضهم المشاركة في التظاهرات.
وفي تصريحات إعلامية، نقل مقربون من المرجع الديني الشيعي الأعلى علي السيستاني قلقه من خروج التظاهرات عن السيطرة، وتسلل من أسماهم بـ "ذوي المآرب والأجندات الخاصة" إليها.
كما طالبت رئاسات الأوقاف الشيعي والسني والمسيحي في بيان مشترك قبل يوم "جمعة الغضب"، المشاركين في التظاهرات، بمنح الحكومة العراقية مهلة "كافية" لتلمس أثر المصادقة على قانون الميزانية العامة لسنة 2011 ثم الحكم عليها، محذرة في الوقت نفسه من المندسين في التظاهرات.
أما المرجع الشيخ كاظم الحائري الذي يمتلك قاعدة عريضة من المقلدين غالبيتهم من أتباع التيار، فحرم بشكل كامل الخروج في التظاهرات "حفاظا على أرواح الناس"، مستندا في فتواه على ما يبدو الى تحذيرات السلطات من مخاطر محتملة قد يتعرض لها المتظاهرون.
وفي نفس الاتجاه انصب موقف زعماء سياسيين مثل زعيم التيار الصدري رجل الدين الشاب مقتدى الصدر، الذي تمتلك كتلته البرلمانية (40) مقعدا نيابيا، والشيخ محمد اليعقوبي الزعيم الروحي لحزب الفضيلة الاسلامي (سبعة مقاعد).
مقتدى الصدر كان قد قدم فجأة من ايران قبل انطلاق تظاهرة "جمعة الغضب"، وأعرب عن تأييدها لأنها "ردة فعل الظالم على المظلوم"، لكنه عاد وتراجع عن دعمه وأمر أتباعه بتأجيل خروجهم الى فترة ستة اشهر قادمة، لمنح الفرصة للحكومة لتحسين الوضع الخدمي وإجراء الإصلاحات المطلوبة.
ويؤكد شهود عيان من سكنة مدينة الصدر شرق بغداد التي تعتبر المعقل الرئيسي للقاعدة الجماهيرية لمقتدى الصدر، أن الجوامع والحسينيات التي يؤمها رجال دين وخطباء محسوبين على التيار الصدري حضت السكان على عدم المشاركة في التظاهرات الدائرة.
كما أفاد هؤلاء بان سيارات جابت شوارع المدينة التي يتجاوز عدد سكانها 3 ملايين نسمة، أذاعت عبر مكبرات الصوت أوامر زعيم التيار.
وكان المالكي قد حدد مهلة قدرها 100 يوم اعتبارا من 27 شباط/ فبراير الماضي لتحسين مستوى الخدمات وتحقيق مطالب المتظاهرين، معلناً أنه سيلجأ إلى إجراء تغييرات على ضوء نتائج ذلك التقييم، لكن الصدر منح الحكومة مهلة أطول على ما يبدو.
ولم تلق تصريحات رجال الدين ترحيبا لدى نشطاء التظاهرات الافتراضيين، المتذمرين من الأداء الحكومي.
ومن وجهة نظر الناشطة المدنية ينار محمد إحدى منسقي التظاهرة ورئيسة منظمة "حرية المرأة" غير الحكومية، فإن "رجال الدين الشيعة تحديدا والزعماء الروحيين لبعض التيارات السياسية، لعبوا دورا كبيرا في إجهاض التظاهرات، وساعدوا على تفتيت حماسة الجماهير التي كانت ترغب في المشاركة".
وذهب البعض منهم الى ابعد من ذلك عندما أشار في تعليقاته، إلى أن "إيران بعثت مقتدى الصدر لكي يحافظ على هدوء اتباعه من الفقراء ويضمن عدم مشاركتهم في تظاهرة قد تطيح بحليفها نوري المالكي"، كما يقول عمر الجميلي الناشط على صفحة "ثوار العراق" في موقع الفيسبوك.
ولا يعني ذلك خلو مظاهرة "جمعة الكرامة" كما أطلق عليها المنظمون من أصحاب العمامات، فقد حضرها عدد من رجال الدين وممثلين عن الشيخ قاسم الطائي وهو من المراجع الشيعة المعروفين بانتقادهم المستمر للعملية السياسية القائمة في ظل الاحتلال.
وأمّ الشيخ حسين الجبوري ممثل المرجع قاسم الطائي عددا من المتظاهرين في إحدى أركان ساحة التحرير. وتلا بعد انتهاء صلاة الجمعة بيانا موقعا من ممثلي منظمات المجتمع المدني تضمن عددا من مطالب الحشود.
وأسفرت التظاهرات الحاصلة منذ أكثر من أسبوعين عن إقالة عدد من المسؤولين بينهم محافظي البصرة وبابل، وأمين بغداد. كما تصاعدت الأصوات داخل البرلمان العراقي، ووقع أكثر من 50 نائبا طلبا لمناقشة مجموعة من القضايا من بينها الاسراع في تعديل قانون الانتخابات وتحديد صلاحيات الوزارات ومجالس المحافظات والدعوة الى إقالة بعض المحافظين الذين فشلوا في توفير الخدمات.
وتعهد المتظاهرون في بغداد ومحافظات أخرى باستمرار الاحتجاجات حتى اتخاد الحكومة خطوات عملية، تفضي إلى توفير فرص العمل وتحسين الخدمات والقضاء على الفساد المستشري ومحاسبة المقصرين. |