الصين تفتخر بابنة العراق وتتسلح بها للفت أنظار العالم إلى ثورتها الثقافية
غوانزوا (الصين):
قد تكون الصين «غولا» اقتصاديا يحسب له ألف حساب الآن، وليس لها أي نية بالتوقف لالتقاط الأنفاس، بعد أن أعلنت نيتها لتحقيق نمو يقدر بـ7 في المائة خلال الـ5 سنوات القادمة، لكن المثير أنها أيضا وضعت لنفسها أهدافا ثقافية وفنية لتجميل نفسها. أما كيف حققت ذلك، فكان بافتتاحها الأسبوع الماضي دار الأوبرا في غوانزوا، التي صممتها المعمارية زها حديد، في حفل كبير حضرته نخبة من المثقفين والساسة وأحيته فرقة إكرام خان للرقص المعاصر. كان واضحا في غوانزوا، بوابة الصين الجنوبية، أن الصين تعتز بتوجهها الثقافي هذا، وتريد أن تعلنه على الملأ، ولم يكن هناك أفضل من اختيارها زها لكي تجذب إليها الأنظار من جهة، وتبدع لها دار أوبرا متميزة بكل المقاييس من جهة ثانية. فزها، التي لم توفق في بناء دار الأوبرا في عاصمة وايلز، كارديف، منذ أكثر من 10 سنوات، حققت حلما ظل يراودها منذ ذلك الحين، وبالتالي ضخت فيه كل ما في طاقتها، لتسجل حضورا قويا في غوانزوا، التي كانت حتى منتصف العشرينات من القرن الماضي، المنطقة الوحيدة المفتوحة في وجه الأجانب. لكنها، ونتيجة الطفرة التجارية التي شهدتها الصين ككل، توارت عن الأنظار وفقدت بريقها لصالح شنغهاي وبكين. لكن يبدو أنها عازمة على استرجاع مكانتها كبوابة جنوبية للصين، لا تشتهر بتقليد الموضة العالمية وطرحها في الأسواق بأسعار زهيدة فحسب، بل أيضا بإنجاز ثورة ثقافية، من خلال معمار متميز يحملها إلى مصاف المدن المهمة جنوبا. من الخارج تحمل دار الأوبرا كل بصمات زها الحديثة بنحتها على الحجر بحيث تستحيل رؤية أي زاوية حادة، إلى جانب مزجها المعتاد أجواء الداخل بالخارج في انسياب سهل وسلس يتناغم مع انسياب بحيرة بيرل، التي تقع دار أوبرا بالقرب منها. فقد كانت الفكرة، كما شرحها وين كون بو، المدير التنفيذي للمشروع: «يبدو شكلها الخارجي وكأنه استعارة مجازية لحصى رمتها مياه بحيرة بيرل لتشكل دار الأوبرا.. فقد أردنا أن تكون كيانا ديناميكيا، وكأنه تم تجميع الحصى وجرها إلى اليابسة وكأنها تشكلت بفعل عوامل الريح والماء، حتى تكون العلاقة بينها وبين البحيرة قوية». وليس غريبا كعادة كل أعمال زها، أن يكون تنفيذ دار أوبرا غوانزوا معقدا، ليس لمساحتها الكبيرة فحسب، فهي يمكن أن تحتضن 1800 شخص، مما يجعلها أكبر دار أوبرا في جنوب الصين، وثالث أكبر مسرح في الصين ككل، بعد المسرح الوطني في بكين، ومسرح «غراند» في شنغهاي، لكن لأسلوبها غير الكلاسيكي الذي يحتاج إلى الكثير من الصبر والعمل الذي لم يتعود عليه البناؤون في الصين، علما بأن التنفيذ كان صينيا بحتا. وزاد في تعقيدها البناء بحجر الغرانيت، الذي يصعب نحته من الزوايا، مع تعليمات زها الواضحة وهي أن يكون المظهر الخارجي ناعما. أما من الداخل، فتظهر أشكال هندسية تتكرر على الجدران لتعكس حدة أشكال النوافذ المثلثة، التي تسمح بدخول شلال من الضوء، إلى جانب منحوتات على السقف في داخل قاعة العرض. الوصول إلى دار الأوبرا من فندق «غراند حياة» الذي بني في السنوات الأخيرة ليلبي الطفرة التجارية والاقتصادية والثقافية التي تشهدها المنطقة، لا تستغرق سوى نحو 10 دقائق مشيا على الأقدام، ليجد الزائر نفسه في ساحة هايكسينشا. الساحة التي تحتضن المركز التجاري العالمي والمتحف ومكتبة ضخمة. وهي نزهة تستحق القيام بها، إن كان لشيء، فللغرف من التناقضات الصينية الكثيرة التي تختزلها الساحة. فبعد 5 دقائق فقط، تصدمك الألوان الصارخة التي يحبها الصينيون عموما، مثل الأصفر والأحمر والأخضر، بحيث تجعلك تشعر بأنك في مشهد من «ديزني لاند» يعود إلى القرن الماضي، بسذاجته وبساطته، التي تلبي الذوق الصيني، على الأقل بالنظر إلى عدد السياح الصينيين المتحمسين لالتقاط صور لكل شيء من حولهم. في هذه الحديقة من الألوان وبعد المركز التجاري العالمي، يستوقفك منظر دار الأوبرا، فتشعر فجأة بأن الزمن غير الزمن، وبأنك في القرن الواحد والعشرين أو حتى الثاني والعشرين بالنظر إلى حداثتها ولونها الرمادي وشكلها المستقبلي بالمقارنة بالمشهد السابق. كل ما فيها يحمل بصمات زها، التي لم تخفِ يوما أنها تميل إلى فكرة البنايات كمشاهد طبيعية مترامية وشاسعة تسمح ببناء هياكل وبنايات تتناغم مع هذه المساحات لكي تصبح بناء واحدا، وهذه الفكرة هي التي تم تطبيقها في غوانزوا. من النظرة الأولى تبدو وكأنها عبارة عن صخرتين ضخمتين بنوافذ مثلثة، لكن خارجها لا يقارن بداخلها، ولا حتى بالردهة الواسعة التي تم تصميمها لتكون صلة الوصل بين الداخل والخارج وتضم أيضا قاعة للتدريب. فبدخول قاعة الأوبرا نفسها، التي ستحتضن الكثير من أعمال الفنون المعاصرة، تتكشف تعقيداتها وفخامتها والدفء فيها أيضا، حتى بالنسبة لأسلوب زها، الذي لا تهتم عادة بدفء الألوان، وكأنها تخاف من أن تتهم بالضعف في عالم ظل طويلا حكرا على الرجال، وكانت المرأة الوحيدة التي تخترقه بقوة يحسب لها ألف حساب اليوم. لم يكن الداخل رماديا، ولا الإضاءة خجولة، بل على العكس، كانت هناك مسحة ذهبية تغلف الجدران والسقف، فتضفي عليها جميعا الدفء وتجعل الإضاءة تنعكس على السقف وكأنها خدع ليزر، بينما تلونت الكراسي بلون برتقالي «مطفي» مسنودة بأرجل من حديد أسود. كل ما في هذه القاعة يذكر بأن الصينيين، بغض النظر عن رؤيتهم وهدفهم، هم من منح زها هذه الفرصة الذهبية لإبداع دار أوبرا. وما يحسب لهم أيضا أنهم بعد سنوات من اكتساحهم العالم تجاريا واقتصاديا، يريدون فعلا أن يدخلوا المجال الثقافي، حتى تكون ثورتهم ثقافية واقتصادية في الوقت ذاته. وهذا ما عبر عنه زانغ يو، رئيس المجموعة الصينية للفنون والترفيه بقوله في يوم الافتتاح: «نرحب بكل المواهب ومن كل أنحاء العالم. هنا في الصين سنوفر لهم مسرحا للتعبير عن مواهبهم، لأننا بلد خلاق». ولا شك أن غوانزوا كانت أكثر شجاعة من غيرها، بإعطاء زها حديد هذه الفرصة، ذلك أن أسلوبها يخيف الكثيرين، ويجعلهم يحجمون عن تصاميمها المعقدة التي تحتاج أيضا إلى ميزانيات ضخمة. وربما يكون هذا من أهم الأسباب التي جعلت حلمها ببناء دار الأوبرا بكارديف يتعثر. والحقيقة أن زها، المقيمة في بريطانيا، وتعتبر بريطانية الجنسية، لم تنجز الكثير من الأعمال هنا، للأسف، باستثناء مدرسة في منطقة بريكستون، ومركز «ماغي» بكيركالدي، والمسبح الأوليمبي لعام 2012. لكن المؤكد أنها بالنسبة للصينيين كانت الخيار الأمثل لإنجاز دار أوبرا غوانزوا، ليس لأنها ستحتضن الكثير من الأعمال المعاصرة، وأسلوب زها حداثي بكل المقاييس، بل لأنها تبقى الخيار الأمثل بالنسبة لهم لأنها فنانة واسمها وحده كفيل بأن يجلب إليهم أنظار العالم، وهذا هو «عز الطلب». فدور الأوبرا في الصين تعتبر مصدر فخر واعتزاز وطني، وإن كانت غالبا ما تصمم من قبل أجانب، مثل الفرنسي بول أندرو، الذي صمم قاعة بكين، وكارلوس أوت من أوروغواي، الذي صمم الكثير من البنايات هناك. لكن تبقى دار أوبرا غوانزوا الأكثر لفتا للأنظار، لأن اسم زها حديد أشهر من نار على علم، وأيضا لأن تصميمها، حسبما قال وين كون بو، المدير المنفذ للمشروع، هو «الأكثر تعقيدا حتى الآن». تجدر الإشارة إلى أن هذا الأخير، وفريقه، بدأ العمل على تنفيذ العمل في مايو (أيار) 2006، وكان المطلوب منه أن ينهي العمل فيها في أواخر 2010، الأمر الذي كان تحديا كبيرا تم إنجازه حسب الوقت والميزانية المقرران، رغم تعقيداتها ومتطلباتها الكثيرة. فالشكل لم يكن الأولوية الوحيدة في العمل، بل كان لا بد أيضا من مراعاة متطلبات الصوت والإضاءة وغيرها من الأمور التي تتطلبها دار أوبرا من هذا الحجم. وما زاد من حجم التحدي أن كل الفريق المنفذ تكون من صينيين لم يتعودوا على العمل بالإسمنت من قبل، لهذا كانت العملية صعبة، زاد من صعوبتها أن زها كانت تريد أن يبدو الخارج بشكل جيد يخلو من العيوب وأي نتوءات بارزة، مع الانتباه إلى أن تشكيل حجر الغرانيت وتقطيعه من الجوانب لم يكن سهلا. ولا شك أن دار أوبرا غوانزوا لن تكون آخر أعمال زها في هذا البلد الشاسع والمتعطش للتفوق في كل المجالات، لأنه ببساطة وقع في حب ابنة العراق، ويريدها أن تقدم له المزيد من الإبداعات المعمارية في بجين وغيرها من المدن، بغض النظر عن التكاليف، ما دامت النتيجة ستكون لافتة بهذا الشكل. فدار الأوبرا هذه، مثلا، تمتد على مساحة 70 ألف متر مربع، وكلفت نحو مليار يوان صيني، أي نحو 65 مليون جنيه إسترليني، مبلغ لا يبدو أنه يشكل عائقا بالنسبة للصينيين ما داموا سيدخلون التاريخ من باب الثقافة، ومتسلحين بحديد.
عن "الشرق الاوسط" |