لعل أهم منجز لتظاهرات الجمعة التي احتشدت من البصرة حتى الموصل مرورا ببغداد، هو إثبات هوية المتظاهرين لمن كان يساوره شك او ارتياب. كانت هوية غير خائفة في وسعها الوقوف امام اي اتهام او اي محاولة "اندساس" وتكذيب "40 وثيقة استخبارية" كانت تتحدث عنها الحكومة حتى فجر الجمعة في اطار الايحاء بأصابع بعثية في غضب الشارع.
ما حصل الجمعة كشف ان الحكومة لم تكن تخشى "البعثيين" وإنما عاشت ارتباكا تأسف له حتى المحتجون، ففرضت حظر تجوال على عاصمة يقطنها 8 ملايين، للتعامل مع مظاهرة محصورة في ساحة واحدة.
ما حصل الجمعة ورغم عنف محدود في بعض المدن، كان يثبت ان المحتجين هم الاكثر حرصا على المال العام، وقد بذلوا جهدا كبيرا في إيصاء بعضهم بعدم الغضب، ووزعوا الورود والحلوى وارتدوا الابيض، وتفننوا في رسم البوسترات الساخرة والمعترضة.الخروقات جاءت من الحكومة لا المحتجين، وهي خروقات لا يمكن ان تمر بسهولة، لأن معناها ورسالتها تتعلق بمستقبل النظام السياسي في بلادنا. كان هناك "سلوك ليبي" احيانا، تمثل بمنع التغطية المباشرة للحدث، وهو اول خرق حكومي من نوعه بهذا المستوى، لحق المواطن في الوصول الى المعلومة. ولن نسكت عن هذا."السلوك الليبي" بدا ايضا في اعتقال الزملاء، حسام السراي، وعلي عبد السادة، وهادي المهدي، وعلي السومري، وضربهم بطريقة غير لائقة امام شهود هم من شيوخ الصحافة العراقية، وكأنها رسالة لنا جميعا. ولن نسكت عن هذا.زملاؤنا الذين تعرضوا الى الضرب عصر امس في ساحة التحرير، او اولئك الذين جرى اعتقالهم، سمعوا من عناصر الامن كلمة واحدة: انتم بعثيون! كانت السلطة "حزينة" لانكشاف ان الاحتجاجات ليست بعثية. فقد امتلأت بوجوه معروفة ومميزة وكانت تطلب صيانة الحريات قبل الخبز. الحريات التي اهينت مرات ومرات طيلة الشهور الماضية. ولن نسكت عن هذا.
صديق تعرض للاعتقال، امضى الليل وهو يسمع سؤالا واحدا: لماذا تعترض على الحكومة. السلطة مبهوتة ومتفاجئة؟ الا تعلم السلطة سبب اعتراضنا؟
مشكلة السلطة لدينا انها تعيش حلم "السيطرة" على طريقة السلطان الشرقي، ولكن توقيت "شهوتها" هذه، خاطئ للغاية. انها لحظة تبخر كل الرجال الحديديين، ودخول المنطقة عصر الانفتاح السياسي. انها القيم البشرية الحديثة التي تنتشر بسرعة البرق وتقول لمشتهي التفرد: انها العولمة ايها الابله.
كلنا نخشى على الاستقرار والامن النسبي. ومعظم المحتجين في 42 مظاهرة شهدتها البلاد الجمعة وادت الى استقالة مسؤولين بارزين، وشجعت فكرة إقالة مسؤولين غيرهم.. المحتجون كانوا حريصين على الاستقرار، لكنهم يقصدون استقرار البلاد، لا استقرار المتلكئين والمخفقين، وراء طاولاتهم.
الحكومة مستغربة وتتساءل: الشعب ينطق ويعترض على قراراتنا؟ انها مصدومة وتحاول استيعاب صدمة، بعد فشل السيناريوهات المحمومة في تشويه صورة الاحتجاجات.الحكومة مصدومة لأنها بدأت تدرك ان "الخروقات" التي قامت بها في الآونة الاخيرة، لن تمر بلا اعتراض صاخب. خاصة وان الاعتراض يورطها في سماع مطالب جديدة نتيجة اخطائها في التعامل مع المحتجين.لنحصي بعض ما جرى مؤخرا. جرت مصادرة حق البرلمان في التشريع وحصره في الحكومة. ألحقت الهيئات المستقلة بالحكومة. تسرطنت المناصب والامتيازات المالية. جرى التضييق على الحريات وضربت النوادي الاجتماعية وحوربت الاقليات الدينية في حوانيتها وجرى التدخل في مأكل الناس ومشربهم. كما تأخرت كل المشاريع التي تهم المواطن، وسط انقسام وفشل سياسي مستمر.
المحتجون قالوا: لن نسكت عن هذا. وبدأوا بإعادة تعريف المشروعية التي لا تعني مجرد انتخابات، بل رقابة يومية على الاداء، ووضع قواعد جديدة ترفض كل مسؤول متلكئ يبقى في منصبه "اكثر من اللازم".الحكومة حاصلة على "المشروعية الانتخابية" ويمكن ان تحاول الحصول على "شرعية الانجاز"، وحتى ذلك الوقت عليها ان تتعلم الانصات بأدب جم للمحتجين، خاصة وان قواعد اللعبة الدولية لن تسمح بظهور نموذج ليبي او تونسي آخر. الشيء الوحيد المشروع حكوميا هو الاستمرار في تقديم التنازلات التي يطلبها الجمهور، وقد حصلت تنازلات ملحوظة رغم توافقات الطبقة السياسية. وهذا هو المنطق الديمقراطي، الذي يعتبر التنازل "فروسية" للحاكم. اما تكرار ضرب المتظاهرين، وتخويف الصحافة بالاعتقال والمنع، فهو امر لن يزيد الطين الا بلة. ولن نسكت عن هذا. |