|
|
جدلية الحداثة بين التنويع والتجديد في الريادة الشعرية |
|
|
|
|
تاريخ النشر
07/08/2007 06:00 AM
|
|
|
بصراوي مهضوم الوجه أسمر تلالي خدوده ريان يتلاوه الخصر ريحان شمة عوده لعلني أجد في هذه الأبيات ترجمة فعلية "لسايكولجيا" الشاعر والقاص العراقي جعفر كمال، فهو وعلى أمتداد شعره بلا استثناء، يحاول أن يجعل من الحب العنوان الأكثر إثارة وحضوراً، وهذه الخاصة يكاد ينفرد فيها، وذلك بأبتعاده عن الموال السياسي المباشر أو العقيدة اليومية المستهلكة، سيما وانه يدخل الموروث والذكريات بكل شفافية وكأنه يعايشه الآن وفي المستقبل. بداية عرفت جعفر كمال شاعرا من خلال بواكير قصائده في مطالع الثمانينيات المنشورة في الصحافة اللبنانية والفلسطينية والجزائرية الخ، ولم التق به شخصيا إلا في بداية التسعينات، عندما قدم لي مجموعته القصصية، وبما اني نزق وقاسي ولا أعرف المجاملات، ركنت المجموعة أياما عدة، وذلك بسبب تراكمات السوء من إدراك هذا النوع من الفن، إذ ان أكثر الذين يكتبون هذا النوع من الاجناس الادبية لايدركون ولايعرفون قواعده، أقصد ان البعض يكتب أي كلام فيكون برأيهم قصة عجيبة وجديدة والخ، لذا تراني ما ان اتناول مجموعة لهذا الكاتب أو ذاك حتى وركنتها جانبا. وفي إحدى ساعات الصفا القليلة، رأيت حيدر أبني يستل المجموعة ذاتها من بين الكتب المبعثرة هنا وهناك، وبما اني اعرف هوايته في تمزيق الأغلفة بمن فيها أغلفة كتبي، صحت به تعال أعطني هذا الكتاب أي مجموعة جعفر، وخذ هذا مزقه كما تشتهي، وكانت المجموعة التي وهبتها لعبث أبني لشاعر وقاص ما، وأبني حيدرطفل لاشىء لديه سوى هذه الهواية العبثية، وبينما هو دخل في ممارسة هوايته دخلت أنا في ممارسة هواية القسوة على المجموعة "الخبز حبر الكلام" التي بين يدي، بيد اني سرعان ما تراجعت بعد أن دخلت العالم القصصي المميز والمثير حقاً عند الشاعر والقاص جعفر كمال، وبلا إرادة مني أخذت أدون الملاحظات وابوبها حتى أصبحت مقالة جاهزة للنشر، ومن المفارقات ان البعض حاول جاهداً أن يثنيني عن الكتابة عن جعفر، ولعل هذا جزء من اصراري على الكتابة ونشرها، والجميع يعرف عني انني لا اهتم بالاسم كثيرا، بقدر ما يأخذني النص إلى جماليته وإغرائاته الفنية والمعرفية وبوح الجديد. وضعت المقالة وسط المجموعة وركنتها بعيداً عن عبث يد التمزيق اليومية، وفي اليوم الثاني وفي مطعم الريس سلمت المادة النقدية بيد جعفر كمال، وبعد فترة علمت من صديقنا الاديب المعروف عبد الباقي شنان ان الدراسة نشرت في جريدة "القدس العربي" الصادرة في لندن، أسوق هذه المقدمة لسبب أساسي ورئيسي، وهو أني عرفت جعفر كمال شاعراً يكتب القصيدة الفصحى وقاصا كما تبين، وهنا تكمن المفارقة عندما قدم لي مجموعة من القصائد في الشعر العامي العراقي مسحوبة على الورق، ونظراً للضروف الخاصة بي والقاسية على شخصي تأخرت في مطالعة المجموعة، سافر الشاعر الى بيروت أياما قليلة وعاد حاملا معه بعض نصوصه المنشورة في الصحافة اللبنانية، وفي إحدى الصباحات صحوت نشطاً، تناولت إحدى القصائد وكان عنوانها "أحب" قرأتها مرة.. فألحت القصيدة بقرآتها ثانية وثالثة، تشجعت حتى وجدت نفسي أقف أمام عمل جديد ذات نشوة خاصة، وإيقاع رشيق.. احب ذاك الحجي الوردة ازاهره على لساني احب بالبصره كل الناس وأولهم شعر سيابنه وسعدي نغم يضوي على شطآني احب وجه الذي ايماسيني باحلامي احب عشرة صديق اليحفظ اوزاني احب طفل الذي ربيته باحضاني احب لون البياض من الشمس يشرق على ايامي احب يوم الذي يرجعني لأوطاني احب ماي الذي يسقي فسائل نابته بربوع كيعاني احب بيت العمر بالخير باني احب لحن الهديل ايعاشر احلامي احب اكتب على النفس التي في طيها طيوب من طيب بستاني في الحقيقة وجدت في مفردة "أحب" والتي هي عنوان معرفة الروح المقدسة، هي مترادفات الخروج عن المألوف في القصيدة الشعبية في سياق أسلوبي جديد، وانسياقا وراء هذا النسيج المتقن بعناية وعذوبة فائقة وجدت ان الشاعر يحاول بنجاح يحتمل الثقة بجديده ان يلفت الاهتمام، وأن يختط طريقا خاصا به، دون ان يقلد احداً، خاصة وانه اول من أبتكر هذا النوع من الفن الشعري، وذلك بمزجه مابين العامية والفصحى بجمل شعرية ذات عناق فني وإيقاعي رشيق، وهنا تناغمت اللغة بميزان صافي من التشويه والخلل. احب اكتب على شادي اللي ضاع على الدرب ضيعوه عدواني احب وجه الصبح شادي الذي ماشاف من الناس غير آني من خلال متابعاتي لم أر شاعراً قط ينهي قفل قصيدته بنفسه "غير آني"، وكأنه شارك هو الآخر بالمأساة، لذا إذا جاز لي القول ان هذا المقطع المملوء بالأسى هو نزيف ألم واحتجاج على الآخر الفاعل القاتل وان لم يسمه، ولكنك تستطيع قراءته عبر السطور، ذلك لأن القصيدة كتبت بصدق وانسجام مع النفس، فأعطى وأعطت، ولعل المقطع للوهلة الأولى تأخذه ضمن سياقه النغمي "ضيعوه عدواني" وهنا يمكن أن نتسائل من هم أعداء الشاعر؟ الذين قتلوا فرحه، فخاطبهم بعورتهم الواضحة الفاضحة، ولذلك تجده قد أغنى الفكرة وأشبع المخيلة له "الذات" وللمتلقي حسب الذوق الفني المعرفي والانساني العام، وهنا أجاد بأكثر من كثير من الشعراء الذين يناغمون المباشرة التي تنتهي فور سماعها. كنت قد أستهللت المقدمة بقصيدة "بصراوي"، وهي قصيدة عاطفية مليئة بالشجن وبشحنات عاطفية هادئة، تحار في أختيار أي مقطع منها ذلك لصعوبة الأمساك بالكل، لأنه مجزء فجاءت الجمل الشعرية بنسق واحد وإيقاع صعوده لحني خال من الزوائد والتهويمات. ياعمري لا تحمل زعل البنيه تتمنى الوصل مفتوح إلك باب الأمل إبستان تزهي وروده خلاني هايم بالفلى وبحبه نفسي معلعله كل ظني حبي بادله آيات عشق جدوده كل الليالي توحشت ولشوكه الظلمه قست للصبح عيني ماغفت ناطر أشم خدوده في هذه القصيدة ثمة شجن شفاف يتخلل موضعة القصيدة الأغنية، وكنت في البداية قد وقفت أمام القافية، قلت لم َ الشاعر مصر على صناعة القافية، ولكن ومن خلال دراستي وجدت انه لا يعتمدها أو يبحث عنها كما يفعل بعض الشعراء، إنما أتت منساقة من النسق البلاغي في مضمون النص، وهذه ميزه يكاد ينفرد بها الشاعر جعفر كمال، وقد لا أغالي إذا قلت ان أي مقطع في كل القصائد يكون نصا متفردا بموسقته ملحقاً بها إرهاصات البناء الداخلي والخارجي، وهذه الرؤيا تكاد تكون القاسم المشترك لكل القصائد على اختلاف مواضيعها وتعدد فنونها التي تسير نحو هذا المنحى، حتى في أبيات الأبوذية والتي يعتقد البعض في الوهلة الاولى بأنها بسيطة وبالامكان ان يقدم عليها أي كان، ولكن العكس هو الصحيح، ذلك لأن نمطاً فنياً مثل هذا يحتاج الى مخيلة متقده ومقدرة على الإمساك بالمربع الفني، لأن اية كلمه دخيله، أو خارج نطاق السياق تهدم البناء كله، سيما في صعوبة العثورعلى القفلة التي هي البناء كله، ومن الملاحظ هنا ان الشاعر تحرر من الأبوذيات الكلاسيكية، وخصوصا بعد أن مازج بين العامية والفصحى: عتابك ياصديق الروح ظل بالروح معلوم وخطابك من وصلني بذجر وعلوم شملته وداد ذاك اللي تعرفه وإلك معلوم ترى آنه بعدني طينة الهور الزكيه انه يخاطب صداقة الروح لروح الآخر، والتي هي جزء من روح الشاعر، ولعل هذه من أقوى صداقات المطلق، ومن المعروف الفني في المفردة الشعرية في لون الابوذية تقفل الجملة الشعرية متكرره بمعنى مختلف "معلوم" وهنا تحاورت وتفاعلت "معلوم" فأخذت السياق الفني الجميل حتى جاءت القفلة الاخيرة في المقطع الأخير "بطينة الهور الزكية" وفي السياق ذاته تجري محاور الابوذيات الاخرى، وهنا أعتمد الموسيقى لتكون المرادف الموضوعي للضرورة الفنية، وهذه تكادُ أن تكون ملازمة ضمن سياق ومضمون القصيدة، ولا أحسب أن شاعراً أقدم على مغامرة مثل هذه وكتب له النجاح، كما هو الحال وشاعرنا جعفر كمال، كذلك في انتقالته إلى لون الزهيري، والذي تكاد ان تنطبق عليه الاحكام نفسها، فقد أبدع الشاعر في تناوله لهذا الفن وأجاد الاحكام الفنية، وقد استخدم نفس الاسلوب في التعاطي وتصاهر الشعبي والفصحى، وبما ان فن الزهيري هو الرديف للأبوذية، إلا انه هو الآخر بحاجة الى صياغات وآفاق جديدة للتعبير عن روح هذا اللون الشعري شكلا ومضمونا. بين العشاير صرت مجتوف الذراعين مرهون للمعتدي ظهري انقسم ذرعين لايم على اللي جلمته وياي ذر عين يالايم اكعد عدل واسمعني صوت الحق مااضن بيكم وفي ولا انتم اهل الحق لا هذا ينصف ولا ذاك يقول الحق خلو الصدك للصدك يالسانكم ذرعين كل المفردات الفصحى المتداولة في زهيريات الشاعر، يعطيها خصوصية التألق المختلف تماما عن السلف والمعاصرة، مع الأخذ بعين الإعتبار أن التوجه هنا يأتي الى عموم القراء وليست الى شريحة معينة، ولو تأملنا الإيقاعات التي استخدمها الشاعر لوجدناها مختلفة في الشكل، ولكنها متوحدة في المضمون والمعنى، إذ ان كل قفلة زهيرية تختلف عن سابقتها في تنوعها الفلسفي الروحي، لذا وجدناه في زمنه يقول: مجنون أصيرن إلك وانت دواي دوم أو في: مرت حكايا أمس والدير عاتبته يقفلها ب.. "يابن الشهم أنت" هذه الزهيرية الرائعة التي تمس الوجدان والعاطفة، تعيدك إلى الماضي وتأملاته، وهنا نتوقف أمام البلاغة الشعرية في استخدام الماضي في لغته وعاداته واسلوب التفكير أنذاك، وربطه ربطاً معرفياً ذكياً مع الحاضر وتطوره، وللنظر نتأمل كيف بدده وكيف انتهى: مايدري نجم تموز خلانه بشماته وراح هنا تأتي مفردة "الراح" بمعنى ذهب، ولكي نتأمل كيف استخدم الراح ننظر في هذا الجديد: يجيك اليوم ياظالم وتدك الراح بالراح اذاً في هذا الاستخدام جاء التركيب مغايرا، ففي هذه "الراح" فعل الندم على ماجنته أفعاله، حيث أن عملية التكرار كما قلنا تأتي بتشكيلات متنوعة كهذه: تهده ياولد صبحه ترى قاسم على الباب وهنا ممارسة التحريض حيث ان البطل الاسطوري ينتظره لكي يصفي معه الحساب التاريخي، ولكن هذه المرة يشارك الضحايا وليست البطل، في تشكيل جمعي، أعطت لهذه الزهيرية بعدأ تأريخياً جدياً يتفق مع السيادة القمعية: تجد كل الضحايا بشوكه ناطره عل الباب ذلك لأن الشاعر حتى وهو يتناول الموضوع السياسي لم يدخل في المباشرة الفجة إنما مارس روح السخرية المرة التي تعطي للمعنى دلالاته، وهنا أراد الشاعر من خلال هذه السخرية أخذ القارىء إلى تنويعاته الإيقاعية من خلال صياغة الجديد في القصيدة، وبهذا يكون شاعرنا قد سجل سلسلة من خيوط ليست عنكبوتية، كما انها ليست عصية على الفهم، إذا ماتمعن القارىء في كل مقطع على حده، يجد انه يجمع الجزء في الكل، وبهذا يخرج بالمطلق الفني المراد إيصاله، ولو اردنا الإسهاب في السرد بابتهاجية الشاعر، وحسه الصاخب أحيانا والشفاف في أحايين أخرى لأحتجنا إلى صفحات أكثر بكثير لما اختصرنا. وهنا لابد من الإشارة إلى أن الشاعر صاغ أفكاره بصورة دقيقة ناجحة، تحمل في ميزانها المعرفي أبعاد جديدة في التطور الفني الايقاعي، وإستحداث لون مميز وجديد في القصيدة الشعبية العراقية بشكل خاص واالعربية بشكل عام، كما هو الحال في قصيدة "وداع ليلى" والتي تجمع مابين الوجدانيات الصادقة والشفافة، وبين الحب والسخرية بآن: أمس تضحك على خوفك غنج يلوي وتمسي على صدرك عشك يهذي واليوم وي الجفى ولفه صفت تحجي وعلى الماضي تهز دوم وخطأ تحدي طب وين الأنس ياليلى والعمر يمضي وين البشرى اللي تكبر.. اودع تروي في هذه القصيدة أستخدم الشاعر مفردة " طب" ولعله أول شاعر شعبي يستخدمها، لأنها من الكلمات المحيرة، ولكن إستخدامه لها جاء مموسقا خفيفا على السمع، وبهذا أضاف مفردة جديدة وخفف من حيرتها وصعوبة نسجها في اللون الشعري الشعبي، كما في قوله: "طب وين الذكرى ياليلى الجانت تضوي" مطبقا اليها مفردة اخرى في السياق ذاته وهي: "أو ودع" وين البشرى اللي تكبر أو ودع تروي". ان هذه الاستخدامات بتنويعها أعطت للشاعر أفقا واسعا للحفاظ على وحدة الايقاع الموسيقي، ضمن موضوع واحد مختلف الخطابات، ولكن كل هذه تتوحد في النهاية، وكأنه يأخذ القارىء إلى سياحة ذهنية مركزة وذات دلالة بهيجة، وهذا ينطبق أيضا على بقية القصائد، فما بين "سارة ثانية" و "صحن المزة، و "مهما طال العمر" ثمة افتراقات واضحة في الشكل والمضمون، فهو في هذه القصائد التي يمكن ان نعدها ضمن القصائد المغناة وذلك نظرا لسهولة ايقاعها السريع وشفافية المعنى وطربية الجملة الشعرية: آنه احب أمشي اليها ورمي نفسي بين اديها حتى اثير أشواق حبها وازرع الحب بعنيها إذاً فهو في هذه القصيدة أراد مخاطبة العين قبل القلب، هي البوصلة التي يروم الوصول إليها الشاعربشكل مباشر، فإذا ما دخلها يكون قد دخل القلب، انها حقا معادلة فلسفية نادرة، وذلك بالتقاط الحالة العاطفية في المكشوف لا الملموس، وها هو هنا قد وصل إلى العمق المعرفي بكل جداره: من شفته بركن ضاوي عيونه سود البداوي ياخصره الريم يثني وياشعره الذهب ضاوي لنتأمل كلمة "ضاوي" عندما كانت الحبيبة في الركن، إذاً هو أمام المطلق في الرؤيا والتأمل، لكي يشبع نفسه من التبصر، و"ضاوي" جاءت الخاتمة للمقطع الثاني من قصيدته، وهنا عندما يعتمد الشاعر التكرارضمن سياقه الفني الذي يخدم القصيدة، لاطارئا عليها كما هو الحال عند الكثير من "الشعراء"، اما في قصيدة "سحر الحيرة والحب في تجليات العيون" وهي قصيدة طويلة ذات أبعاد ملحمية، وهنا فأنه يكسب الكلام وضوحا وسموا وجاذبية، في الوجه البلاغي للتركيب الداخلي لأنبعاثات الدفق الايحائي الفلسفي، لأن الشاعر هنا يعتمد على مشاعره دون التركيز على العقل، ولهذا يكثر المجاز في هذه القصيدة، كونها تعتمد على انتقاء الكلمة ومعناها اللغوي، أي عرفية الأصل ولنطلع على الآتي: شلون تتحمل سكوت العين محتاره ويناغيها الغرام تحلم تبوح بوصاله وتنتظر منه السلام وعيونه جنح الحمامه الطايره بلحن الهيام والمحب معلول لا يكدر يهيد ولا ينام وهنا في هذه المقاطع المنسوجة بمهارة عالية، والحالمة بايقاعياتها، نجد الشاعر ينظم أبياته في تركيب مختلف هو العاطفي المستحيل، بعد أن كان قد أخذنا إلى العاطفي المباشر والجرىء في القصيدة السابقة، ولهذا عندما يصبح الشاعر حالة شعرية متقدة تحتمل صلتها بالحقائق النفسية والاجتماعية، التي تلهمه جمالية الصورة الشعرية، تأتي معبرة عن عميق شعوره واحساسه، وكأنه يعيش أجواء الدروشة العاشقة للمقدس، وعنوان القصيدة يدلك على قدسيتها الحالمة في تجلياتها الروحية، وعندما سألت شاعرنا جعفر كمال عن تنوعاته الجديده أجاب بثقة كبيرة: "أستفدت من المباشرة القلقة والركيكة عند الآخرين، وأعتمدت قراءة جديدة متطورة، فأحلت أدواتي إلى التمرد، على "حسينيات" القصيدة الشائعة على الأساس اليومي المباشر، وحررتها من الموروث الثقيل عند البعض، وركبته تركيبا متداخل الأبعاد الثلاث وهي: الموسيقى الإيقاعية السريعة/ وشفافية وخصوبة الكلمة/ وفلسفة المعنى/.. وهذا التطور الايقاعي الاسلوبي يشكل حداثية الفني الجديد: طاف بالنثيه الجوى واكتوى قلب هوى فلهيب حارق مهجتها وعيون أغرقتها الأدمعى والولف خدران من كأس مدام وهنا أيضا أدخل الشاعر كلمات جميلة من الفصيح في أسلوبية العامية، لم تستخدم قط من قبل في الشعر الشعبي، أي أن التأكيد على العاطفي هنا يتمحور على سرية هذا الحب، الذي هو قداسة السحر الذي منحته الحبيبة للشاعر، وهو كما شابههُ بكأس مدام، أحال الشاعر إلى حالة شعرية ثائرة، لا يستطيع الامساك بها وهي تطوف بالجوى، وهنا أيضا أراد أن يعطي أبعاداً غير مألوفة في الموروث الشعبي، وذلك لما فيها من تضامين وتحولات مصدرها الروح. أما مسرحية "صحن المزه" التي ضمنها شكوى حال بعض الشعراء، بصورة ساخرة ولكنها شفافة بجملها السهلة الرقيقة والموحية في التناوب الشعري ياناس كاعد للصبح ناطر تجيني المزه لا مزه جتني ولا خمر للشعر حتى تهزه وهنا يتضامن معه شاعر آخر بذات الشكوى، وكأن سوء الخدمة أحاط كل الشعراء في المكان نفسه، فرد كل واحد منهم على الآخر بصيغته الشعرية، التي تنتاب حالته مستعرضا شكواه كما سوف نرى: معجون شعره وي الخمر ينتظر صحن المزه وجه الصبح طل وضحى وشاعرنه وحيه يكزه وهما بعد ان يستعرضا حال البار المأساوي وسوء خدماته أخذ الشاعر يتمسرح شكله الفني الساخر معبراً عن أشكاله الفنية والتي تعبر عن عدم رضائه لحالة هذا البار، فيجيب ثالثهم: إلوحدي كاعد أرتجي كاسي يغذي وريدي للصبح محموم أنتظر دينار يلمع بيدي لماذا أراد الشاعر مسرحة هذا اللون من الطرافة الشعرية؟ والتي يحق لي القول هنا انني لم اقرأ قط هذا المتناول الجديد من قبل. إذاً هو يحيلنا إلى حالة شعرية لم يتناولها الشعراء من قبل، وبهذا تكون الأسبقية الفنية في هذا اللون له وله فقط، نتواصل معه: للنادي هذا ما أجي ولا أوصل الحي البيه لا مزه عدكم لا عرك الشعري حتى يغذيه إنه راض على المطلق، بحيث انه سيقاطع حتى المكان، وهذه تعني هجران الزمكاني، لكي لا يعطي حق النقض بالعودة ثانية، ذلك لأنه ربط بين الشعر والكأس، وجعل منها تؤمين، أي ان الحس يحاور الشعور، لكي يعطي ماينوي ان يطرح في سياق الموضوع، وهو هنا يتكأ على الشعر: خو آنه أكثر مظلمه الكرسون ماحاجاني لا مزه كدامي شفت للصبح شعري يتاني إذاُ هو تحت وطأة الأنتظار والإبداع في مأزق، مالم يحسم الموضوع الذي أتى من أجله، طبعا هناك مقاطع هي الأخرى تتوافق وسخرية المتناول الذي أبدع بها الشاعر، في توليفاته الحداثوية الجديدة. وإذا ما أخذنا قصيدة "الدرب" التي أبدع فيها الشاعر بعناية فائقة التركيز، ضمن تناسق الدفعات الشعرية المتنوعة في سياق وحدة الموضوع، من خلال ثيمية الدرب والتي تنوعت بشكل لافت على المقاطع للأمساك بالمعنى الشمولي، والمعنى الفلسفي في تركيب الجملة الشعرية، ليخلق لنا التناول الإيقاعي الراقص: من وكف دربي على بابج عاتبيته ليش يادرب المحبه تطرق الباب النسيته وانت يادرب السوالف ترجع الماضي وخطيته يادرب من غيري ماتشرب نبع ومن وريدي تشرب العناب والحب وشفيته الملاحظ هنا ان الشاعر لم يستخدم الدرب بمعنى الطريق أوالمسافة، وإنما هو درب الغرام، لذا وجب على الشاعر معاتبة هذا الدرب، الذي أحال الشاعر إلى غرام جديد لا علم له به، وأوقفه حد الباب العاطفي، بمعنى انه واقف على الأثر المغلق، بينما في يادرب الأخرى يصفه بأنه "من غيره ما يشرب نبع" والسجال العاطفي هنا أصبح بين الشاعر والدرب، عندما يصفه بالهموم، وفي الدرب الرابعة يناجي فيه وحدته وهنا أعطاه الجانب المساحاتي، وفي الدرب الخامسة يوقع اللوم على الدرب "بيا ذنب حسن وجهك عاشريته" وفي الدرب السادسة أوصل الدرب الى ذروتها بعد أن ساح بنا في دروبه الوعرة لكن: يادرب طيب الهوى ماينمشي إلا على نور الامان والزمان الما حفظ تأثير وزنك مو زمان والمكان الما حوى فواح عطرك مومكان والجمال الما أوصفه الغير لونك مو جمال والمدام الما تجلى بغير خمره من شفافك أبد ما يصبح مدام والحضن من غير حضنك ماهو دافي ولاهو شافي، ولاهو بيه ريحة عوافي ان هذه المعادلة نجح بها الشاعر ايما نجاح، عندما حافظ على إيقاع قصائده بمهارة فنية عالية الدقة، وفي هذه القصيدة ناسج خيطه الشفاف، اللحن الإيقاعي بعذوبة رقيقة هادئة، أما دربه الأخير فكان ذروة الشكوى: الشعر كل الشعر اللي كتبته سقط مني وعاد موزونا إلى ذات المكان وابتديت أكتب شعر توني جديد وابتديت أسقي الشعر لحنا إلهياً عنيد ها وصلني من عيون بابليه فيها يتأوى السحر طيف وليد عاشريته في جنوني في غسق كان جليد عاشريته بين صحوي وغيابي بلا مكان، ولا زمان ورحت أكضي سنين عمري عله الدروب ومن لكيته إنتهى عشقي السعيد وهنا عاد الشاعر إلى جغرافية الحدث الأثير على نفسه، وانه في كل دروبه يحاول الامساك ولو بخيط خفي لرضا تلك الحبيبة، التي أراد أن يحافظ على سرية العلاقة بينهما، لصعوبة هذه العلاقة المحرجة، وهنا يدلنا على هذا المعنى الدقيق والخوف عليها، "حبك المكلوم وسط العين ابخوفي بنيته". أما في قصائده القصيرة مثل " شمس الضحى" و "اعلان" وغيرها.. وانت تقرأها تكاد تلمس رومانسية عالية التركيز العاطفي، والتي تعتمد على ايقاعها الراقص في الجملة الشعرية المركبة، الموغلة في تحديث جديد للقصيدة العامية، وهو في مناجاته هذه يوصلنا الى: كل القصائد إلك مرهفة اللحظات مزروع آنه الورد وانت الحقل بالذات ان السير في إيقاعات القصيدة، تعطي إشارات موحية مابين الذات والآخر، وهذا مالامسته بدقة عند جعفر في أعماله الجديدة بشكل عام، وأنا متمتعا في: مشغول وحده الفكر والنيه بالحسبات يمته يكول الوكت أوكف قطارك فات لكن شبابي الذي أسقى العمر بسمات أرخى قلوب أرخت عليه شيات جم ضبيه الك ياحسن طخت عشك موات وانت تغض النظر ولاجن حسنهن شكر ايذوب بالمسات إذاً هو يسلم بأنه ماعاد بمقدوره المضي إلى أبعد من هذه المسافات، بعد الإحساس بوصوله إلى المحطة التي ربما تكون الأخيرة، بيد انه لا يستسلم بسهولة، إنما يحاول المضي وراء حلمه. شهادة أخيرة الذي يتابع الشاعر والقاص جعفر كمال، كما في قصصه واشعاره تجده يسبح عكس التيار، ولكن بقوة دفع قوية، حتى يخط لنفسه اسلوبا لا يتشابه مع الآخرين، ولا الآخرين يستطيعون الإمساك بخيوطه الفنية الخفية، وباعتقادي لو انه يبقى مثابراً على هذا النهج، لقدم لنا أساليب تنوعية متألقة بسيطة في الشكل عميقة في المضمون، وهو كما دأب دوما على الاتيان بالجديد الناجح، في المستوى الإبداعي المعرفي في أكثر من فن، فهو وبامتياز يطرح أشكاله الفنية بعناية فائقة، فيروم جديد النص المتألق، والغير معمول به من قبله، وهو بتوضيف الكلمات الفصحى وتوليفها مع الكلمات العامية بذات الإيقاع والوزن والتركيب الفني، شكل نجاحاً مميزاً يستحق وبجدارة الوقوف عنده بأكثر من مكان، ودعوتي موجهة بشكل خاص إلى الأقلام النقدية الواعدة للأخذ بيد المبدع الذي يروم رفد الادب العربي بالجديد المتنور والنافع، ولي الحق ان اقول ان جعفر كمال اخذ الآخر المتلقي الى عالمه الجديد بانسيابية شفافة، تلامس المخيلة قبل أن تدخل الاعماق، وهذا المزيج التلاحمي والذي هو خروجا عن آلية النص التقليدي، أعطانا الجديد الذي لم نألفه عند غيره من قبل.
المقال مرسل من قبل الشاعر و القاص العراقي جعفر كمال المقيم في لندن |
|
رجوع
|
|
مقالات اخرى لــ مهدي علي الراضي
|
|
|
|
|
انضموا الى قائمتنا البريدية |
| | |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|