مايا الحاج «في إحدى ليالي الصيف الحارّة وتحديداً الجمعة 13 آب/ أغسطس في ما يُقارب الثالثة إلاّ ربعاً بعد الظهر وقعت في الحبّ»... الجملة- الافتتاحية في رواية «خالي نابليون» أضحت شعاراً حفظه الإيرانيون عن ظهر قلب منذ صدور الرواية الأشهر في سبعينات القرن الماضي.
كل ليلة أربعاء عند الساعة الثامنة في العام 1976 كانت تخفت الحركة في شوارع إيران، فالكثيرون من المواطنين كانوا يتسمرّون أمام الشاشة الصغيرة ليشاهدوا المسلسل التلفزيوني «خالي نابليون» الذي استأثر باهتمام الأمة بأسرها، ما زاد من شهرة الرواية وصاحبها أيضاً.
لا يختلف اثنان في إيران أو من المهتمين بأدبها أنّ رواية الإيراني ايرادج بزشكزاد حققت منذ صدورها عام 1973 ظاهرة ثقافية جعلت منها نموذجاً للأدب الفارسي الكلاسيكي المعاصر. صوّر الكاتب عبر أسلوبه الكوميدي الساخر حياة المجتمع الإيراني في الأربعينات من خلال رؤية نقدية مميزة جذبت إليه القرّاء في إيران على اختلاف أجيالهم ومواقعهم الثقافية. فالشخصيات أصبحت نماذج يُضرب بها المثل بين العامّة والعبارات صارت محطّ كلام الإيرانيين أنفسهم، فإن أرادوا السخرية مثلاً ممّن يُخطئ ويُسارع في رمي الملامة على غيره يقولون حتى اليوم: « يفعل كالخال نابليون»، وإن أرادوا الدلالة إلى غايات حسيّة غرائزية يقولون كما في الرواية: «نريد الذهاب إلى سان فرانسيسكو».
عندما أصدر بزشكزاد روايته كان يعمل دبلوماسياً وقد صرّح حينها أنّه استوحى موضوع الرواية وشخصياتها من حياته الخاصة. الرواية تحكي قصة حب بين الراوي- المراهق (13 سنة) وابنة عمه ليلى ضمن عرض كوميدي يسخر فيه من أسلوب الطبقة الأرستقراطية في تعاملها مع الطبقة المتوسطة المتعلمة. وبعد ترجمتها إلى الروسية والإنكليزية، صدرت الرواية أخيراً بالفرنسية عن دار «أكت سود»، ترجمة سرور كاماي. وعلى رغم النجاح الكبير للرواية داخل إيران وخارجها إلاّ أنّ الكاتب يعتقد أنّ عمله لم يكن محظوظاً. هذا لأنّه بعد إصدار «خالي نابليون» عام 1973 قام رئيس الوزراء الإيراني في عهد الشاه، أمير عباس هويدا، بالإشادة بالرواية وقيمتها خلال مقابلة تلفزيونية أُجريت معه. وكذلك أثنى عليها خلال عقد جلسة في البرلمان. وكما هو معروف، كان أمير عبّاس هويدا يُسمّى بـ «جلاّد وسائل الإعلام والنشر»، إلاّ أنّ الرواج الذي عرفته الرواية خلال فترة قياسية دفعته للاعتراف بها للتأكيد على انفتاحه الأدبي والإعلامي. هذا ما ترك ردّ فعل عكسياً على الصحف المعارضة والنقّاد في إيران الذين ارتأوا تجاهل الرواية نقدياً حتى لا تُفسّر الإشادة بها على أنّها تواطؤ مع هويدا. وبعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، تعرّض بزشكزاد لهجوم كبير من النظام الجديد الذي صادر أعماله والمسلسل التلفزيوني الذي اقتُبس عن روايته ومنعها كليّاً في إيران. أمّا الكاتب فاختار اللحاق بالمعارض شهبور بختيار والعمل كرئيس تحرير للجريدة التابعة له وبقي كذلك حتى لحظة إعدام بختيار عام 1991.
في نهاية الفترة الرئاسية لخاتمي في إيران عام 2005، سُمح لدار النشر الرسمية بإعادة طبع رواية «خالي نابليون»، شرط إخضاع بعض المقاطع والعبارات للرقابة. وبعد إصدار 10000 نسخة وصل محمود أحمدي نجاد في آب/ أغسطس 2005 إلى سدّة الرئاسة ومُنعت الرواية مجدداً.
الرواية تُباع في غزارة في روسيا وأميركا، وإنما بنُسخها المقرصنة التي لا يستفيد من أرباحها سوى أصحاب المكتبات. وعندما يُستضاف ايرادج كأستاذ زائر في جامعات أميركا من لوس انجلوس إلى نيويورك وغيرهما، يدهش بالطلاّب الأميركيين من أصول إيرانية كيف يحفظون مقاطع كاملة من الرواية التي يفوق عمرها سنوات سنّهم الصغيرة. وهذا ما يحصل أيضاً داخل إيران. فالجيل الذي وُلد بعد الثورة قرأ الرواية على رغم قرارات المنع والحظر. وشاهد المسلسل وتابعه وحفظه، علماً أنّه مُصادر. وقد يكون هذا أكثر ما يُثير الاستغراب في بلد تمرّ فيه الإعلانات التلفزيونية وحتى صفحات الوفيات تحت الرقابة المشدّدة.
أمّا أسباب منع الرواية التي لا تتناول حقبة الثورة ولا تنتقدها فلا تزال مُبهمة بالنسبة إلى الكاتب. في مقابلة أجراها مع صحيفة فرنسية أكّد بزشكزاد أنّه إبّان الثورة، وقبل انتقاله إلى منفاه الاختياري في باريس، التقى بالصدفة صهر الإمام الخميني (صديق طفولته) فأبلغه عن مدى إعجابه بروايته واستفاض في الحديث عنها، ما دفع بالكاتب إلى السؤال عن سبب المنع. وينقل بزشكزاد حرفياً كلام صهر الخميني الذي أجابه قائلاً: «حقيقةً لا أعرف أسباب منعها. ولكن كلّ ما أعرفه أنّ رجال الدين كلّهم قرأوها وأحبّوها. وكذلك بيت الإمام وأحفاده الذين لا ينفكّون عن تكرار لازمة ماش غانم المعروفة: لماذا الكذب؟ لا يُبعدنا عن القبر إلاّ أربع خطوات. الكلّ قرأها ما عدا الإمام الخميني نفسه». هذا الجواب لم يُشفِ غليل الكاتب الذي طلب من صديقه أن يسأل المرشد الأعلى عن أسباب حظر الرواية في إيران، بصفة القربى التي تجمعه به. وبعد أسابيع قليلة ترك البلاد وذهب إلى فرنسا قبل أن يصله الجواب.
يعيش ايرادج بزشكزاد اليوم في شقة صغيرة في أحد أحياء باريس. ويقول صاحب «خالي نابليون» إنّه اختار العيش في فرنسا التي لا يكثر فيها الإيرانيون بدلاً من أميركا التي يعيش فيها أكثر من مليون ونيف إيراني لأنّه بكلّ بساطة يحبّ فرنسا. ويُضيف: «في مراهقتي قرأت كلّ الأدب الفرنسي خلال القرن التاسع عشر، وقد انطبعت ذاكرتي بهذا العالم الذي أضفى بعداً إنسانياً وثقافياً وفكرياً على شخصيتي ومنحني فكراً جديداً أثرى عوالمي الداخلية. وعندما أُسأل عن جنسيتي أعلن بثقة أنني فارسي- فرنسي. هكذا يُمكنني المفاخرة بتراث الفردوسي وحافظ والخيّام تماماً كموليير وفولتير وهوغو»...
يعيش في المنفى ويعزّ عليه أن يُمنع ذكر روايته الأشهر وكأنّ شيئاً لم يكن. ويصعب عليه سحب كلّ أعماله وترجماته لأهم الأدباء الفرنسيين ومنع أبناء وطنه من قراءته. إلاّ أنّه يحاول أن يُعالج آثار المنفى والمنع والتهميش بالكتابة.... كتابة السيرة.
من نظام الشاه الذي أشاد بها إلى نظام الثورة التي منعتها، ومن نظام خاتمي الليبرالي الذي سمح بإعادة نشرها تحت شروط الرقابة إلى نظام نجاد الذي أعاد سحبها من الأسواق وجدّد مَنعها، تكون «خالي نابليون» قد عاصرت مختلف التحولات السياسية التي ذهبت بإيران من النقيض إلى النقيض. وبين الرفض والقبول تنتظر الرواية اليوم مصيرها الجديد في ظلّ عاصفة سياسية تضرب المنطقة بأسرها. أمام هذا المشهد، يُدير ايرادج بزشكزاد ظهره للأحداث ويُكمل سيرته الذاتية التي بدأها قبل سنوات ليُنهيها بعدما وصل إلى الصفحة الرقم 1000.
|