في شمال القارة الأوروبية، هناك دائماً ثلج كثير. يمكننا أن نتخيل أن رجلاً وحيداً يقيم هناك، لا يسعى الى الوصف بقدر ما يحاول أن يؤهل جسده لما ينتظره من المعجزات البيضاء. تحت الثلج هناك حياة متخيلة صار ذلك الرجل يرعى تفاصيلها. هي تجربة في فن العيش، ربما يعلّمنا الانصات إليها شيئاً عن فكرة الخلق وهي تعيد إنتاج نفسها. "غدك وراءك"، يقول نقّار الخشب. الطائر يبتسم. في الخامسة مساءً يبدأ عمله. مساء الأمس ومساء الغد هما مساء واحد. الساعة تعمل بأصابع متوترة غير أنها لا تندفع إلى الأمام. تمسك الساعة بعقاربها لتدور في الفراغ الميت. وضع علي بابا الصخرة على فم الكهف ونام في انتظار المعجزة: أن تنبعث المياه العذبة من جوف بئر متخيلة. يابسٌ منقارك أيها الطائر، فما من نشيد. جذع الشجرة نشفت براعم أغصانه، فما من مرج في الجملة الطارئة. "مَن يقولها؟". ستقول النحلة: "انهار من عسل لا تكفي إذاً". ستقول البقرة: "أنهار من لبن لا تكفي إذاً". ستتساءل شجرة العنب بيأس: "وهل تكفي أنهار من خمر؟ تبدو الأمور كلها وكأنها صارت خارج السيطرة". نحن نرمي بحجر أياماً لم يعشها أحد. نتسلق شجرة لا تزال تقيم في قلب بذرتها المبتلّة بالأسى. نفلح في القبض على غيمة، فيما البخار لا يزال يتصاعد من فم الإبريق. أيها الصاعدون، ألا تخبروننا ما الذي يقوله الربّ عن أحوالنا؟ إيها النازلون: كفّوا عن التلويح بأكفان الموتى كما لو أن الحياة كلها صارت مشروعاً فرعونياً. في الغابة نقّار خشب وحيد، وأنا، وزلاّجة وردية تركها طفل، عالقٌ حبلها بصخرة غطّاها الثلج.
أقلّ من الصفر دائماً
أقلّ من الصفر. صفر الكتابة وصفر الحقيقة وصفر الشهوات. قالت لي الفتاة التي تتبع آثار أقدام كلبها اللاهث: "بعد الساعة الأولى ستهبط درجة الحرارة إلى مستويات لم نختبرها من قبل". ضحكتُ وأنا أفكر بالعصر الجليدي. كان هناك بشر إذاً. وكانت هناك حضارة من نوع ما. وكان هناك غذاء بلوري. أتخيّل شكل المائدة على السفوح الجرداء لا مضمونها. أفكر في ما ينقص منها لا في ما يفيض: لا بحيرة زرقاء، لا ورق أخضر، ولا نقيق ضفادع، ولا غزلان ترتجل خطوات عشّاق مهجورين. النقصان يشبع نهم الغابة إلى ما يجعلها مخبأً سرياً للأوهام الصيفية. عليك أن تتخيل ضالّتك وستجدها. شيّد مسجداً في اسطنبول، على البوسفور تماماً. فسيكون شبيهاً بآيا صوفيا، لكن من شجن أبيض، تسعد اهلّته بخيوط شمس ناعمة تبعثر مراياها على الأغصان الصامتة. ستجد مهراجا هندياً يتبعك ويناديك باسمك ثم يسحبك من يدك ليتجول بك في شوارع كلكوتا المغمورة بالناس. يتركك جالساً على الأرض في مشهد لن تنساه حيث تتسلل إليك من بين الأقدام صورٌ لعالم يقفز بخفة من طفولته إلى شيخوخته، وبالعكس مثل كرة من يقطين. سترى بائع كشري في العباسية بالقاهرة يقول: "اوعه. البنت اللي قدامك خطافة رجّاله". فتضحك. تفكر في الأقل وقد صار أسلوب عيش لملايين الكائنات السعيدة بخفائها. "لا تقرب تلك الشجرة"، قال لي الحطّاب ذات نهار صيفي. أضاف: "قد تخيفك الأفعى المقيمة في جوفها فيفزعها خوفك ويردّها إلى صفاتها الأولى". الأفعى نائمة الآن أيها الحطّاب ولن تقلق خطواتي المنزلقة أحلامها.
للزمن زلاّجته على الثلج
لا ينبعث الوقت من مكان ما. للثواني أقدام لا مرئية. ليست للصخور مرايا متقابلة، ولا الأعشاب تحمل أجراساً. ما من ذكرى وما من أحد يتذكر. ولكن لِمَ الذكرى إذا كانت القيامة قد وقعت وانفضّ الناس وعرف القادمون من الغيب مصائرهم؟ جُنّ الجميع وما عرفنا. يمرّ الذئب وديعاً مثل شاة. لن يقف في انتظار الفتاة ذات القبعة الحمراء. سوف تبقى جدّتها نائمة. مرحى. لن يحكم بينك وبين تجليات الطبيعة أحد. فما من عقد لتوقّعه، وما من وثائق لتعود إليها. الميزان ضائع والصمت يملي هدنته على الكائنات. ولكن ما يحدث هنا ليس صمتاً. ما من أحد كان قد تكلم ليصمت. كما لو أن ثقباً أبيض قد ابتلع الأصفار كلها. سأسلّم على نفسي. لديك ما تفعله هنا إذاً. للأفعال هنا معنى مختلف كما للأقوال، حيث يدرك المرء أن هناك من ينصت إليه، بل أن هناك من يتخيل هيئته ومن ينتظر لقاءه. ليس للرياح هنا سوى مهمة واحدة: أن تهب المخلوقات أصواتاً. هذا غصن وحيد نابت في الجليد ينزلق عليه صفير كمنجة. تلك الأخشاب على الجسر الصغير تئنّ تحت قدميك مثل جوقة نايات. هناك طبول خافتة ترقد في نهايات الأشجار. تغرس قدماً في سطح البحيرة وترفع قدمك الأخرى في الهواء. لا شيء أكثر. في الأقل تومض عيناك. صورة تذكارية لرجل عالق بحبل مشدود بين قمتين. في اليوم التالي سيكون للحكاية معنى الكرامة الإلهية. لا تلتفت إلى غدك. أمسُك اليوم. الدقائق لا تهرب، بل تختبئ مثل تلك الأفعى. لك رصيد عظيم من الزمن يا صديقي. مدّ يدك إلى الخزانة تخرج مزدانة بالثواني التي ترقص من حولها الفراشات. يبدو جسدي مثل عمارة زجاجية. سيتداعى ويتهشم في أي لحظة. لن أرمي أحداً بحجر. بيتي يسهر على رهافته أبيض يملأ موقده حطباً من خشب معطر. الغابة بيضاء. شجر السرو وحده يملأ الفضاء بمصابيح، ينبعث ضوؤها من مادة لا تفنى. أجراس العيد بعيدة. الأرجوحة تعلو تهبط. ذلك الطفل الذي غادرها لتوّه كبر مسرعاً. يعذّبه أن يداً خفية محت يد أمه من على الحبل وصارت تموء ساخرة من ابنة الجيران التي وعدها الطفل بنزهة فضائية. كبر الطفل. كبرت ابنة الجيران. وسدّ الثلج أبواب الحديقة. "هير هير نسيت قبعتك". كانت النادلة تلوّح بقبعة خضراء تشبه قبعتي. تحسستُ رأسي بيدي. لم تكن القبعة في مكانها. أتذكر أن محمد سيف قال لي حين اشتريتها من متجر في باريس: "ستكبر أثناء الاستعمال". وكبرت القبعة مثلما كبرتُ أنا.
قبعتي خضراء والشجر أبيض
الشجر يهبني ما تبقّى من النهار الفائض. أين اختفت ساعات الفجر والغروب؟ أخطّ على الثلج اسمي. بالعربية طبعاً. تلمع الشمس في الأثر المحفور. هناك ما يكفي من الضوء لرؤية الحقيقة. الحقيقة لا سراب لها ولا مرآة ولا ظلّ. "لن تصل إليها"، ينبعث الصوت من شقّ بين صخرتين. العشبة لا تزال خضراء وهي التي تكلمت. لم ألمسها، خشية أن أخدش كبرياءها. أعرف أني لن أصل. أمشي لكي لا أصل. حتى لو قلت للثلج: "ألف حيف وألف وسفة"، فإن الثلج لن يأخذ ما أقوله مأخذاً جدياً. الثلج هو أكثر المخلوقات عبثاً. يتصفح كتبنا ويرميها إلى النار كتاباً بعد آخر. لا يفكر أحد أن أفكاره ستذهب مثل هندوسي نبيل إلى المحرقة. الثلج يتخيّل أيضاً. أنظر إلى قدميَّ، تحتهما حياة لا تزال ممكنة. لأهذّب خطواتي إذاً من أجل حياة متخيّلة. أتذكر نقّار الخشب في الخامسة مساء. النغم يبدأ من هناك لينتشر مثل حريق. يومها أدركتُ أن قائد الفرقة الموسيقية يوزع بانتظام المهمات على أعضاء فرقته من مكان خفي في الغابة. "أكذب من أجل أن أصدق"، أخبرت صديقتي البلغارية. قالت: "يمكنني أن أصدّقك. لقد رأيتُ قندساً ذات مرة توقف عن العمل في بناء بيته فجأةً وصار يطلق أصواتاً نقية كما لو أنه كان يملأ بصوته فراغاً ما في الكون". "أيها السيد. قبعتك". أتلمس رأسي. قبعتي في مكانها. أتلفت من حولي. ما من أثر للنادلة. صوتها وحده يقع فجأةً ليذكّرني بأنني أنسى. يشقّ عليَّ النسيان. يشقيني. ولكن الثلج يعلّم النسيان. هانا صوفيا، صديقتي كتبت كتاباً، كنت أحد أبطاله، سمّته "المنسي" وقد استوحت ذلك العنوان من جملة قلتها لها في سياق حواراتنا التي استمرت سنتين. قلت لها: "أحلم في أن أكون منسياً لكي أنسى". على الثلج لا ينسى المرء قدميه ويديه وشفتيه. اما فؤاده فإنه سيظل ساهراً مثل وديعة في إمكانها أن تفزع الافعى النائمة لو أنها شعرت بالخطر. قلت لصديقتي الاسوجية: "سأقابل ربّي بشهود، هم أشبه بحرّاس المدن القديمة الليليين. الصافرة في الفم مثل حكم في مباريات لكرة القدم. قبل أن تُضرب الكرة في اتجاه الهدف، هناك نفخة هواء حذرة. "ستقع"، تقول المرأة التي تتبع آثار أقدام كلبها اللاهث فأفتح يديَّ كما لو أنني أمشي على حبل مشدود بين قارتين. "هذا الحلو ما اريده/ ودوني لهلي"، أصرخ لتنزلق رمّانتي مثل فقمة ولدت لتوّها. لم يكن الوقت مساءً. لم يكن فجراً. كنت في الدقائق الفائضة أنسج حكاية رجل خُيِّل إليه أنه يتجول في غابة ثلجية تقع بعد شارعين من القيامة . |