البحث عن دور فاعل للمثقف في المجتمع العراقي يمثل واحدا من اكثر الهواجس الحيوية التي دأب على التعاطي معها الباحث حيدر سعيد في سياق اشتغالاته السسيوثقافية، اذ تنخرط هواجسه في مواجهة اشكالية الكثير من التحديات التي باتت تطرح نفسها في الواقع الجديد. والتي تحولت الى نوع من الأسئلة (المفارقة) المحمولة على غواية تجاوز المنظور النمطي للتاريخ والجماعة والمقدس، باتجاه إيجاد مقاربة مغايرة للنظر في هذه المفاهيم التي بدت ناتئة في الظواهر الاجتماعية والسياسية والقانونية كالدولة والمجتمع والحداثة والمثقف والانتلجنيسيا.
ينحني الباحث حيدر سعيد على موضوعة (نهاية المثقف) بوصفها موضوعة اشكالية، اذ تفترض نوعا من المواجهة التي تستدعي هذا المثقف لممارسة دوره الاستثنائي في المواجهة الاشكالية لمفهوم النهاية الرمزية، وتبني دورا تبشيريا حيويا وتعويضيا في سياق انخراطه في التشكيلة الجديدة للمجتمع بعد سقوط الديكتاتورية، والذي ستضعه في سياق تاريخي يقترن بظروف حيازة وظيفة أخرى لتوصيف الثقافة في العصر الحديث، وظاهرة التعريف بها في سياق إجراءاتها التي أضحت ظاهرة كمؤسسات ومفاهيم في مشاغل الحداثة الغربية، والتي اصطنعت لها بالمقابل أسئلة مغايرة، لاتشبه الأسئلة القديمة التي رافقت نشوء الظواهر التاريخية التقليدية الحاضنة للوظيفة الثقافية التي (كان يؤديها الفلاسفة وعلماء الدين في الثقافة العربية الاسلامية) كما يقول حيدر سعيد.
يضع الباحث توصيفه للوظيفة الثقافية الجديدة في تعارض تاريخي، أي انها ليست (وريثة التحول الاجتماعي) التقليدي بقدر ما هي جزء من تاريخية معاصرة تشكلت ظواهرها بعد الاصطدام بالآخر الكولونيالي والاستشراقي، والتي بشرّت بقيم جديدة، وادوار جديدة، اذ وضعت هذه الظواهر الكثير من المفاهيم بما فيها الثقافة والمثقف والدولة امام تقاطع بنيوي كبير، وامام فقدان توصيفي للنسق التاريخي، اكتسبت من خلاله خصائص وسمات غير شعبية، لكنها كانت بالمقابل حاملا لطروحات وتصورات صادمة، ظلت محفزة على الايهام بان هذا المثقف هو المبشر الاخلاقي بقيم الحداثة، وليس هو التابع القديم لمنظومة المقدس والحاكمية والشائع من الفقه، أي ان نزعته التبشيرية وضعته في سياق (فصام) وظيفي مثير للجدل، لانه لم يعد المفسر او الحكواتي او الحكيم او القاضي كما كان ابن رشد مثلا (الذي تعرضت كتبه للحرق بعد تعارضه مع النسق)، وانما تعرض دوره بالكامل الى ازاحة او طرد أخرجته الى (فكرة التبشير) بقيم الحداثة والتنوير والحرية التي انتج نزعاتها التبشيرية الجديدة الآخر الكولونيالي الكافر والمحتل.
ومن هنا نجد ان هذا التوصيف الذي يستقرئ تفاصيله حيدر سعيد يمثل جزءا من رؤيته (الكليانية) كما يقول في اعادة صياغة (ظاهراتية) لمواجهات يقصدها المثقف الجديد عبر ظاهر وعيه، لرصد تبديات الملامح المتغايرة في المشهد الثقافي والسياسي والاجتماعي والديني في العراق الجديد، العراق الذي انهارت فيه المركزيات القديمة تحت عامل خارجي (الاحتلال) والذي تسبب في انهيار الدولة الشمولية، والايديولوجيا الشمولية، لتبرز اشكال غائمة لمركزيات اخرى غير مشبعة وغير واضحة المعالم، لكنها تهدد بالتشكل ضمن كتلة تاريخية أصولية او راديكالية قد تعيدنا الى انتاج اشكال اكثر تعقيدا للصراعات في مناطق حروب وتقاطعات من الصعب السيطرة على تداعياتها، والتقليل من دمويتها، خاصة وان هذه المركزيات المفترضة تهدد المصادر الحمائية الحقيقية للمعيش كالدولة والمجتمع والاحزاب والطوائف، اذ انها تسعى تحت نزعة هذا التهديد الى تذويب الدولة والجماعات والاحزاب والمثقفين في سياقها الهجين الذي يستعيد انساق التاريخ الرمزي للقوة والهيمنة عبر استعادة (المسكوت عنه) واستعادة استيهامات الغياب في العقل السياسي الاجتماعي والديني.
(نهاية المثقف) قد لا تبدو عنوانا واضحا للدخول في اشتباكات مفاهيمية مع تاريخ المحتوى الرمزي لمفهوم المثقف الحداثي، او مع لا تاريخية هذا المثقف في إطار دوره المفترض والمغاير، وهذا مايضع السؤال عند الحافة، أقصد حافة التحول، او النكوص. فهل القصد هنا هو نهاية الدور القديم لمفهوم المثقف المنخرط في السلطة والتأويل والبدء بمرحلة اخرى وتمثل أدوار اخرى؟ وهل ان سيرورة الدور الجديد للمثقف الذي تمرد على التاريخ ستنطلق من قرائن وجود هذا المثقف في ظاهرة الدولة الحديثة، وفي مشاريع الحداثة والعولمة وتموضعاتهما في المكان والزمان؟ وهل ان تماثل هذه النهاية الافتراضية هو تماثل مفهومي مع ما طرحه فوكوياما في (نهاية التاريخ) أي نهاية عصر الصراعات التقليدية بكل ما تحوزه من مفاهيم وتوصيفات، وبدء تاريخ جديد يحمل تباشير مغايرة، وقوى اكثر فاعلية وأدوارا اكثر تأهيلا للتشكل في نسق آخر؟
المثقف والمواجهة
هذه الاسئلة هي اسئلة مواجهة، اي انها ستكون استجابة للتغايرات التي ترتبط بـ(قيم التحول الاجتماعي) والتماهي مع التبشير بـ(نسق قيم أجنبية) التي ستضع المثقف العربي والعراقي بشكل خاص أمام نوع من المواجهة الاضطرارية، تلك التي يستعير لها حيدر سعيد تسمية (شيزوفرينا حضارية)، اذ تكون هذه المواجهة خاضعة الى قوانين اجتماعية، والى نمط من الرسائل المغايرة التي ترسم أدوارا غير متداولة للمثقف بدءا من (المثقف الحتمي، والمثقف الحزبي، والمثقف العضوي والمثقف الكلياني، وانتهاء بالمثقف النقدي) والتي يستخدمها حيدر سعيد في جهازه المفهومي كثيرا.
أدوار هذا المثقف وجدت في البيئة العراقية مجالا رخوا، لكنه محاصر الى حد كبير، إذ انها عاشت لصق البيئة السياسية الثورية والحزبية الصاخبة خلال الاربعينيات والخمسينيات والستينيات، لكنها عاشت عقدة الحصار بعد سلسلة من الانقلابات السياسية 1958، 1963، 1968، اذ فقدت البيئة السياسية الكثير من رخاوتها، وفقدت الاحزاب واقعها الثوري الرومانسي على الارض، وتحولت الى احزاب مطرودة ومحاصرة، مثلما واجهت قوة الدولة الانقلابية التي عملت على فرض اشكال مرعبة من السيطرة على الثقافة والمثقفين، عبر صناعة المؤسسات الحاضنة للفاعليات الثقافية، وادخال العمل الثقافي ضمن العمل التشغيلي في الدولة وموازناتها الاقتصادية، وانماط سياساتها الامنية والايديولوجية والرقابية، فضلا عن بروز ظاهرة غير مألوفة في الحياة العراقية وهي البيئة الثقافية الدينية (لحملات الايمانية)، وظاهرة الفتوى الدينية، وظاهرة التكفير الديني، ونموذج المثقف الديني، والمكتبة الدينية، والتي تحولت الى مصادر مؤثرة في مواجهة البيئة التقليدية التي كانت تعيش طقوسها الثقافة العراقية السياسية والليبرالية والحزبية باشكالها المتعددة.
فقدان هذه الادوار، خلق ايضا هامشا لولادة ادوار اخرى ذات لبوس سرية ومتعالية، لكنها اكثر تمثلا لما بدت تطرحه الاشكالات الحداثوية في مواجهة ازمة الانسان وحريته، وازمة دوره الوجودي والتبشيري وحتى العضوي، رغم ان هذا الدور (المأزوم) يرتبط بأزمة علاقته مع البيئة السياسية، وأزمة (تبعية المثقف للسياسي) كما يستعير حيدر سعيد هذا التوصيف من كتاب (الروح الحية) لفاضل العزاوي، رغم ان هذه التبعية غير دقيقة، لانها في الحقيقة تبعية قهرية لـ(السلطوي) وليس السياسي، لان اغلب المثقفين العراقيين كانوا يعملون في السياسة وفي الاحزاب السياسية، خاصة بعد انقلاب 1968 حيث تحول العديد من المثقفين من الشعراء والقصاصين والروائيين الى اصحاب ادوار سياسية كوزراء ووكلاء وزارات ومدراء عامين، وبعضهم عمل في جهات أمنية! أي ان جهاز الدولة السياسي تحول الى جهاز حاضن للعديد من المثقفين. وحدثت بالتزامن مع اشتباك هذه الادوار اوسع ظاهرة لادماج المثقف بنسق الدولة، تحت توصيف الدولة الحامية، والدولة/الأمة، والتي ينبغي للمثقف من خلالها ان يستعيد دوره التبشيري بالرسالة الخالدة، والقيم العظيمة السالفة للتاريخ ومجد بطولاتها التليدة، وهو ما عاد انتاج ظاهرة القصيدة العمودية، واعادة كتابة التاريخ، وتوسيع مديات المهرجانات القومية ذات النزعة الاستعراضية، والتي كانت تخصص لها ميزانيات ضخمة ويدعى لها الكثير من رموز الثقافة العربية ، مقابل اثارة الحديث عن محاور وشعارات ذات مرجعيات تؤسس اشتغالاتها على إبراز قيمة التاريخ والامة والمثقف الذي ينتمي الى توصيفهما.
ولادة المثقف النقدي....نهاية النسق
الباحث حيدر سعيد ينتمي الى توصيف جيل من المثقفين الذي آثروا الفعالية النقدية في مباحثهم وطروحاتهم، ورغم انخراطهم في المؤسسة الاكاديمية، الاّ انهم كانوا شفاهيين في هذه الفعالية- لم يصدر احدهم كتابا عن الظاهرة النقدية خلال مرحلة التسعينيات- اذ كان (التيار النقدي في الثقافة الغربية/ميشيل فوكو، نعوم تشومسكي، ادورد سعيد/هو المصدر النظري الاهم لهذا الجيل، وعلى الرغم ان البعض اعتبر هذا منسجما مع المناخ السياسي الذي كان سائدا في العراق في التسعينيات، ومن جهة ان جزءا مهما من خطاب التيار النقدي الغربي قد اتجه الى نقد الهيمنة الغربية) كما يقول حيدر سعيد. وهذا التوصيف جعلهم الاقرب الى صناعة ثقافة (الاحتجاج) و(التمرد) على النسق المهيمن على الدولة، وعلى المؤسسة السياسية والمؤسسة الثقافية، وعلى التوصيف السائد لمفهوم المثقف، وعلى نمطية الثقافة الخاضعة الى اشكال من (الاستبداد الشعري) او التماهي مع السرديات المتخيلة في نقد الحكايات او كتابة الروايات والتي شكل الروائي علي بدر احد مجايلي حيدر سعيد نموذجا للباحث عن نقد التاريخ المعاصر، ونقد الجماعات السياسية والثقافية، مثلما هو نقد الوثيقة التي ارتبطت بحيوات هذه الجماعات في العراق السياسي المعاصر.
لذا اجد ان حديث الباحث حيدر سعيد عن نهاية المثقف يحتاج الى قراءة معمقة وواسعة، وهو ما يرتبط باعادة فحص المفاهيم والمواقف، ومنها ما يتعلق بالتعاطي مع مفهوم مفترض لنهاية النسق، والذي هو الاكثر مدعاة لاستدعاء الجدل المثار مع موضوعة النهايات، لان المثقف العراقي كان في اغلب تمظهراته الثقافية جزءا من انساق كبرى، وهي الاحزاب، او الكتل التاريخية بما فيها (الحقب) الزمنية التي طالما انخرطت في توصيفها الاجيال الثقافية الجديدة بدءا من نهاية الاربعينيات والى 2003، وان انهيار هذه الاحزاب، والتصدع في ظاهرة الاجيال الثقافية، وكذلك النشوء المرعب لظاهرة الدولة المركزية، قد اسهم في تعريض المثقف الى عملية تغريب كبيرة، وبالتالي تهميش دوره، وربما التماهي مع اندفاعات سرية للبحث عن انساق تعويضية، خاصة وسط غياب مروع للحواضن السياسية والحواضن الجامعية والتاريخية، اذ ان الحاضنة الاثنية والطائفية هي حاضنة عصابية وليست ثقافية، واحسب في هذا السياق ان الحديث عن السيرورات التي يمكن ان تهدد مفهوم النسق سيظل تمثيلا لجانب آخر غير فاعل، اذ يضعنا امام اشكالية البحث عن ادوار افتراضية لادوار غير فاعلة في الاجتماع الثقافي، مثل المثقف المتمرد على النسق، لان هذا التمرد ظل ومازال محدودا وهامشيا، وربما يمارسه بعض ادباء المنافي الذين يعيشون مراحل التماهي الاشباعي مع ظواهر تفكك الانساق الغربية التي يعيشون في كنف مجتمعاتها. |