لا يحتاج القارئ النبيه، او المراقب الحصيف الى مهماز يذكي اهتمامه بمعالم حروب دينية تدور من حولنا وفي عالمنا العربي- الاسلامي، خفية وعلانية.
ثمة حرب دينية في العراق على اقدم الاديان: المسيحية، وثمة رديف لها في مصر: تفجير كنيسة القديسين في الاسكندرية، في الساعات الاولى من العام الميلادي الجديد. وثمة حكم بالموت على مسيحية في باكستان بموجب قانون يحرم انتقاد الاسلام (قانون التجديف) هل هناك قانون يحرم تشنيع المسلمين باديان الغير. حملة السيوف في هذه الحرب، هم انفسهم دعاة حرب من نوع آخر على المسلمين أنفسهم: حرب على الموسيقى، وعلى المسرح، على النوادي ومشاربها، وعلى النساء وعوراتهن التي لا تحصى: من شعر الرأس الى اظافر القدمين، في قاع المجتمع، او حرب على كل معالم الحياة الحديثة: الانتخابات، البرلمانات، حرية الرأي، في قمة المجتمع.
في الحرب الاولى يلهج الاصوليون بواحدة من اقدم الافكار: اهل الذمة، وفي الثانية يرفع اولاء عقيدتهم بمفهوم "حاكمية الله"، في ثوبها الباكستاني (ابو الاعلى المودودي- سيد قطب) ام في ثوبها الخميني (ولاية الفقيه). ولعل مفهوم "اهل الذمة"، في الظرف الحالي، هو امتداد لمفهوم الحاكمية.
المفارقة ان الفكر الحديث يتفق مع الاصوليين في ان الحاكم، اي حاكم، دنيوي كيفما اتينا عليه. وان امر اختياره وتنصيبه، واقالته، شأن دنيوي بالكامل. عند هذا الحد ينتهي الاتفاق. فالاصولي المسلح، لا يكتفي بنزع الشرعية القدسية عن الرؤساء والملوك، بل يعمد الى تأسيس هذه القدسية ثانية باسمه، معلنا احتكاره لها، وحقه في تملكها تملكا ابديا. فكل حاكم واي حاكم هو دنيوي باستثناء الاصولي نفسه طبعا. باختصار، انه يعلن انه الممثل الوحيد، والمطلق لهذه الشرعية، المستمدة من تأويله لنصوص الوحي، او الاحاديث المروية. وما دامت الحاكمية لله وحده، فان الشعب، او الجماعة، او الامة، ليست مصدر السلطات. ولما كان التشريع لله وحده، وكان الاصولي حاكما- الهاً، فلا برلمان للتشريع، واخيرا فان، الجماعة او الامة، التي ينطق باسمها دون تفويض (عدا الرضا الذاتي) هي جماعة المسلمين، التي شطرها الى نخبة مقدسة، حاملة للسيادة، وجموع من رعايا اقرب الى القطيع. ولا يكتفي الاصولي بشطر جماعة المسلمين على هذا النحو، مقوضا دعائم المساواة بين المسلمين، بل يواصل الشطر باقصاء غير المسلمين، اهل الذمة، مزيلا قادة المساواة القانونية والحقوقية.
وبهذا التقويض الثلاثي لمبدأ دنيوية الحاكم باطلاق، ومبدأ حكم الجماعة لنفسها، ومبدأ مساواة افراد الجماعة، تنهار اسس الدولة الحديثة.
لعل هذا ما دفع الفيلسوف الايراني شايغان الى القول: من مفهوم الجمهورية الاسلامية تناقض في التعريف.
بالوسع اطلاق توصيفات شتى على هذا النكوص الكبير، تصادم الحداثة والتقليد، كما يفضل البعض، او اشتداد النزاعات الماضوية، كما يقول بعض الاخوة المغاربة، وهي تورية للمفهوم الاول، او اللاتواؤم بين الاسلام والديمقراطية، او، او. كل التوصيفات تنتهي بنا الى تلمس افتراق تاريخي بين الدولة- الامبراطورية المقدسة، النموذج السياسي الذي ساد العالم قرابة الفيتين من جانب، والدولة القومية الحديثة من جانب آخر. فالامبراطوريات تملأ مسامات التاريخ، مثلما يمتلئ التاريخ بجثثها، لكن امثولتها وقواعدها لا تزال حية في فضاء الثقافة الفقهية.
ومآل ذلك هو العودة عن الحروب القومية، التي دشنت القرن التاسع عشر، الى الحروب الدينية التي تعود من مقابر الماضي. والارتداد عن فكرة الحاكم الدنيوي، المؤقت، الى فكرة الحاكم الالهي الدائم. من هنا تحول العسكر، حملة الراية القومية في الخمسينيات والستينيات، مثلا، الى الايديولوجيا الاصولية. فتحول النميري- السكير الى "امام"، والضابط السابق، السادات، الى رئيس "مؤمن"، وصدام القومي –الحداثي، الى قائد حملات الايمان.
وبذا تضافرت قوى الاستبداد الحداثي، مع شتى القوى المجتمعية المحافظة، التي تتمسك، بدوافع شتى، ولغايات شتى، بفكرة الدولة السلالية- المقدسة، مثلما تتمسك بثبات القيم الفقهية القديمة المسوغة لبنيانها. ان لهذا الانقطاع عن التطور الزمني، المميز لدارسي الفقه الكلاسيكي، حدوده الضيقة في المدارس الدينية، لكن خروجه من اسار مؤسسات نقل المعرفة الفقهية، الى رحاب حركات احتجاجية، بات حقيقة تفقأ العين، علما ان لهذا الخروج اسبابا بالغة التشابك، تتجاوز قدرة الفقه المؤول نفسه على الانتشار. ما يزيد الطين بلة ان ثمة اليوم ضياعا للمعنى، يعم المعمورة، ويضغط بقوة لامتناهية على الحضارات الجريحة، التي لا تسهم بشيء، غير الاستهلاك والعويل، خالقا فضاء مؤاتيا لكل هذا النكوص.
لعل عبارة "هذا النكوص" تبدو باهتة بازاء واقع التمزيق المتصل لكل النسيج الحضاري الحديث، وازاء الدم المسفوح بلا انقطاع، من افغانستان الى المغرب، ومن العراق الى مصر، واليمن، في حرب على المسلمين، وحرب على غير المسلمين. واذا كان الاولون يتوفرون على قدر من الطاقة للاعتراض، فان الاخيرين يفتقرون اليها لاسباب ديمغرافية في الاقل.
نذر الحرب الدينية في العراق ومصر تبدو بمثابة طفح قياسا الى الحرب المستعرة في افغانستان، او الدائرة في اليمن باشكال مموهة، او الظاهرة بصور اخرى في السودان، الرازحة تحت حكم عسكري- اسلامي.
في هذا المفترق، المحزن بكل المقاييس، نبدو بأمس الحاجة الى اعادة بناء "أسس" النهضة الفكرية لأواخر القرن التاسع عشر، لارجاع مفهوم الحكم والحاكمية والحاكم، اي الدولة، الى قاعدتها الأرضية باعتبارها ادارة مؤقتة لشؤون الجماعة بالرضا والاختيار والمساواة. وهذه ثورة ثقافية راهنة وعاجلة، امام المثقفين الحداثيين، والفقهاء المتنورين، سواء بسواء. |