قبل يومين من وفاته اتصّل يوسف الصائغ هاتفياً من دمشق، وطلب كعادته عندما كان في بغداد أن أكلمه، وأطبق الهاتف. هيأتُ نفسي لحديث طويل أسّري به عنه آلام الغربة، التي لم يجربها. فهذا العراقي، الذي جرّب كلّ ما يخطر على البال، وما لا يخطر، أبعد ما يكون عن التصور الشائع حول سهولة غربة النصارى. فهو شاعر، ورسام، وروائي، ومسرحي، وكاتب صحفي، ومدرس، ومناضل، وسجين سياسي خمس سنوات، لكنه والعراق كسمكة في الماء تموت خارجه، وقد مات في ديسمبر عام 2005 بعد شهور من مغادرة العراق. وكما القلب ينبض بالدم ينبض شعر الصائغ ونثره بطبيعة العراق وأماكنه وناسه، وتتنفس مخيلته تراث واحدة من أقدم الطوائف المسيحية في العالم. "الاعتراف الأخير لمالك بن الريب"، عنوان سيرته الذاتية، وفيها يجوس الجبال والتلال وشواطئ الأنهار، ويدلف في صوامع وأديرة منحوتة في الصخور، "حيث رهبان بلحاهم الغريبة ومسوحهم المصنوعة من نسيج خشن، ووجوههم الناحلة، وعيونهم الخاوية، وتحف بنا أشجار برية من تين وجوز وزعرور، وعلى وقع خطانا تفر حيوانات نافرة أو تروح تراقبنا بعيون يمتلئ فيها الفضول بالحذر". وعلى سفوح التلال الأثرية في نينوى، يقابل لأول مرة "الثور المجنح ملتصقاً بالتل، كأنه يحك في طرف من جسمه الحجري الرشيق، وكتمتُ في أعماقي خوفاً هو أقرب للخوف الديني الذي اعتاد أن يعتريني أمام تماثيل القديسين والإيقونات، حتى لقد خطر لي أن أصلي لهذا الثور الغريب ذي الابتسامة الطاغية أن يغفر لي أفكاري، ويجنبني لعنته القديمة".
"وفي ليلة الميلاد كان أبي يوقظني عند الثالثة ليلاً. لا فائدة من أن تعترض أمي، وتعتذر بصغر سني، والبرد والنعاس، فأنا أعشق هذه اليقظة المسحورة. أعرف أن حذاءً جديداً ينتظرني تحت السرير وأن حلة جديدة تعدني بفرح العيد، والكنيسة المسحورة، وتلك المغارة التي يقيمونها عند الزاوية، والأناشيد، وحزمة الشوك الكبيرة، التي سيشعلونها في فناء الكنيسة، أرتدي ملابسي وأنا أرتعد من السحر والبرد والانفعال". ويغطس في المزامير والشذا والألوان، والخل الممزوج بالمرارة، والأبنوس بالفضة، والأرجوان بالذهب... وأيام وأسماء كل منها هو كناية عن مأساة "أربعاء الرماد" و"أحد القيامة" و"سبت النور" و"جمعة الآلام" و"خميس الفصح". أبوه رئيس الشماسة وعازف الأرغن، وعمه كاهن الكنيسة، ومن نبرة قراءته المزامير سمع الصائغ أول الشعر، وعرف مذاقه اللاذع. رموز الصلب والمسيح والصعود إلى الجلجلة، والمجدلية التي أخذها شعراء الحداثة من الشعر الغربي، سكنت الصائغ منذ مولده. إلاّ أنها رموز ومشاعر مستنبتة بتربة العراق. عندما سمع القس في الكنيسة يقرأ كلام يسوع المسيح: "من ضربك على خدك الأيمن فحوِّل له الآخر"، خاف خوفاً شديداً، وذهب يسأل عمّته، فقالت له إن المسيح يقصد بقوله "فحوِّل له الآخر أن تضربه أنت أيضاً على خده الأيمن". و"عبثاً راحت أمي تحتج على تفسيرها، فلقد كان لعمتي مسيحها الخاص". وسيستهل الفصل الخاص بالعمة في سيرته الذاتية: "كانت لي عمة حولاء، لكنها ظلت طوال حياتها راسخة كالمئذنة، فريدة في مزاجها وسطوتها واعتدادها، مستقيمة على مبادئها التي صاغتها بحكمة وحزم". "وهي التي شجعتني على القديسين والكهنة، وأغرتني بأن أتحدى الخوف من الحرامي. ما الحرامي يا ولد فتخاف منه، رجل فقير وجائع وخائف أكثر مما أنت خائف"! وقد سمع الصائغ نصيحة العمة، وهو في السجن أربع سنوات عندما وقعت "نكسة حزيران عام 1967" فخاطب سجّانيه في قصيدته المشهورة "رياح بني مازن أيقظتني، على مَوهنٍ، فزّ روحي لها: ها أنا، واختنقتُ، وأخجلني سورُ سجني، وأوجعني موضع القلب مني، وموجعة لهفتي لا عشير لها غيرُ ريحٍ يعذبني، تعصف الريحُ، تعوي. هي اللبوة الأم تعوي، فواخجلتاهُ لصمتي، رأيتُ المواكب تزحف دوني. صرختُ، فلم يسمع الركبُ صوتي، يتيماً نذرتُ، خذوني، يهلّلْ لكم ثأر ذيبٍ، وخلّوا على دكة القدسِ قلبي". القصص التي حكتها عمته وأمه عن "الياسمين يبكي، والحمير تتزوج، وعصفورة البستان ريشها ألوان"، ستلد قصيدة "السلحفاة" التي تصور محنة العراقي الوطني في مجتمع الكراهية الطائفية والعرقية. "ذات يومْ، عبرت سُلحفاة إلى بيتنا، فاضطربنا. قالت امرأتي: أخرجوها. صاحت امرأة الجار: بل فاقتلوها. صاحت الخادمة. صاح شيخ المحلّة. كثر الصخبُ، واجتمع الناسُ، والسلحفاة البريئة تُصغي إلينا، وتبكي على نفسها وعلينا". ومن الشخصيات الفريدة في روايات الصائغ وذكرياته، يقف النصراني "صفوت ابن المختار" زميله في الصف الثاني متوسط. "كان معاون المدير ذاك الصباح قد دخل الصف واستأذن من المدرس، وراح يقرأ العقوبة التي أنزلتها المدرسة بالطالب صفوت: خصم خمس درجات من سلوكه، وفصله من المدرسة لمدة يومين. قرأ المعاون العقوبة والطلبة يبتسمون، ومدرس الإنجليزية يتطلع إلى صفوت باحتقار، وقبل أن يغادر المعاون الصف قفز صفوت فاعتلى الرحلة، وصرخ بصوت يرتعش غضباً سمعته المدرسة بأسرها: "الكفر يدوم والظلم لا يدوم". صاح المدرس بالإنجليزية: "اسكتْ". فرد عليه صفوت وهو ما يزال منتصباً فوق الرحلة، يرتعش انفعالاً: "تسكت إنت يا جرجيس... يا ابن فلانة... تسكت... ويسقط الاستعمار". ليس بالإمكان معرفة تسلسل الصائغ بين نصف مليون مسيحي غادروا العراق منذ عام 2003، يمثلون حسب الأمم المتحدة نصف السكان المسيحيين. لكن يمكن جسّ نبض قلبه في أقلية مسيحية وطنية تبرعت بملايين الدولارات لشراء أدوية للعراق عند ما فُرض الحظر عقب حرب عام 1991. آنذاك كان مثقف من أغلبية مسلمة يدعو قائد قوات التحالف تشاورسكوف: "أكمل مسيرتك إلى بغداد". وقبيل غزو العراق عام 2003 طمأن مثقف من أغلبية مسلمة الرئيس بوش: "أصوات الصواريخ تدك بغداد ستكون أجمل موسيقى سمعتها في حياتي". آنذاك كان عالم ذرة مغترب من أسرة عراقية مسيحية يفضح عبر الصحافة الأميركية أكاذيب رامسفيلد حول أسلحة الدمار الشامل. "أنا لا أنظر من ثقب الباب إلى وطني، لكن من قلبٍ مثقوبْ. وأميّزُ بين الحب الغالب والحب المغلوبْ". وسيميز المحبون المغلوبون بين جدران الغربة والخوف صوت الصائغ "في أيّ يومٍ تعودينَ؟ من أيّما جهةٍ؟ أيّما ساعةٍ؟ ما الذي ترتدين؟ وكيف سنبدأُ؟ بالحبِ؟ أم بالتحايا؟ أتساءلُ: كيف سأعرفُ أنكِ أنتِ، وقد كُسرت في القلوب جميع المرايا". و"لأجلك أبدلتُ وجهي، وقلتُ لنفسي: سأمرُّ بهمْ، وأجئ إليكِ، فلن يعرفوني. عبرتُ. طرقتُ على البابِ. أنتِ فتحتِ، وحدّقتِ بي كالغريبِ، ولم تعرفيني".
|