هل دخلت بغداد في زمن الانحطاط الطويل حقاً؟ المثقفون العراقيّون يخوضون هذه الأيّام حملة احتجاج بلا هوادة، ضدّ السلطة الجديدة بكل تجلياتها: سلطة تعمل على إغراق البلاد في ظلام مقلق، في قفزة إلى الوراء لا تحمد عقباها على مستوى العالم العربي برمّته. الاعتصامات التي شغلت أخيراً الرأي العام العراقيّ، وأخذت مساحة كبيرة في وسائل الإعلام، هي خطوة أولى في المواجهة الدائرة بين مثقفي العراق ضد السلطات المحليّة في مجالس المحافظات (وخصوصاً بغداد). كلّ ذلك في ظل تواطؤ مفضوح من السلطة المركزيّة، إذ إنّ أياً من الرئاسات الثلاث (الجمهوريّة، مجلس الوزراء ومجلس النواب)، لم يعلن موقفه إزاء سلسلة القرارات التي صدرت أخيراً وتستهدف الحياة المدنيّة والحريّات العامّة في بلاد الرافدين وإعادتها إلى العصور المظلمة. صمت قادة العراق «الجديد»، ولم يعرف الرأي العام موقفهم من قرار مجلس محافظة بغداد الذي قضى بإغلاق كلّ المنتديات الاجتماعيّة والمطاعم والنوادي الليليّة. وأكثر من هذا، لم نسمع رأيهم بما حصل مع الأمين العام لاتحاد أدباء العراق الذي أُجبر على توقيع محضر يقضي بإغلاق النادي الاجتماعيّ التابع للاتحاد، بحجة أنّه شبيه بالنوادي الليلية! ولم يتدخّل أي من الرؤساء الثلاثة في كواليس معهد الفنون الجميلة، حيث المساعي جارية لرفع النُّصب والتماثيل من باحة المعهد نفسه!
عماد حجاج (الأردن)ويعبّر المثقفون العراقيّون، في الداخل والخارج على السواء، عن قلقهم مما ستؤول إليه الحياة العامة في بلدهم، على شتّى المستويات الفكريّة والإبداعيّة والاجتماعيّة، إذا استمرّت الأمور على هذا المنوال، في ظلّ تواطؤ مختلف القوى السياسيّة التي أفرزتها مرحلة ما بعد الاحتلال. ويتساءل بعضهم: هل هذا هو العراق الذي وعدنا به العالم الحرّ؟ وماذا عن الـ«ديموقراطيّات» الغربيّة التي جاءت بالأمس بهدف «تحريرنا»، كيف تغضّ نظرها اليوم، عن هذا التراجع الهائل على مستوى الحريّات والحياة الأكاديميّة والثقافيّة، قياساً إلى عهد صدّام حسين نفسه؟ هذا ما جاء يفعله الكاوبوي الأميركي إذاً، وها هو يخطط للرحيل تاركاً البلاد ممزّقة، غارقة في جحيم الهمجيّة والتطرّف... ظهرت العلامات الأولى قبل شهرين، مع إلغاء الفعاليّات الغنائيّة والموسيقيّة من «مهرجان بابل»... وتواصلت مع إغلاق قسمي المسرح والموسيقى في معهد الفنون الجميلة منذ أيام. إذ أكد بعض الطلبة أنّهم نقلوا الى أقسام أخرى لأنّ «إدارة المعهد ووراءها وزارة التربية، رأت أنّ هناك إقبالاً كبيراً على هذين القسمين، لذا قررت نقل ملفاتهم الى الأقسام الأخرى». أما رئيس قسم الموسيقى في المعهد محمد هادي، فأقرّ بأنّ «التحريم الديني يقف وراء هذا القرار». أمام تعيين محرم لكلّ عضو مجلس محافظة في واسط (وسط العراق)، ثم إجبار سيرك عالمي في البصرة على مغادرتها قبل شهرين، وصولاً الى إغلاق المنتديات الاجتماعيّة والنوادي الليليّة والتجاوز الحاصل بحقّ المثقفين العراقيين ومؤسّساتهم، فإنّ شكل المواجهة قد تغيّر اليوم ليتحوّل الى «معركة مفتوحة على الأرض مع نزول المثقفين الى الشارع ونشر مقالات في المنابر الإعلامية»، كما يرى الناقد السينمائيّ كاظم مرشد السلوم.
❞إغلاق قسمَي المسرح والموسيقى في معهد الفنون، وقريباً سحب التماثيل من باحته ❝وضمن حملة «الحريّات أولاً»، انطلقت أمس الاعتصامات في شارع المتنبي، وتتواصل اليوم في ساحة الفردوس دفاعاً عن حقوق المرأة ورفض إلزاميّة الحجاب في المدارس. وتعكس الساحة الإعلاميّة أصداء النقاشات، مع الإشارة إلى انخراط بعض الصحف العراقية، مثل «المدى» و«العالم» و«الصباح الجديد»، في هذه الحملة... مقابل غياب بعضها الآخر مثل جريدة«الصباح» شبه الرسميّة. وإذا كان لا بدّ من دليل إضافي على التصدّع الجديد لأحلام مثقفي العراق، منذ أوهام التغيير التي اعترتهم بعد سقوط صدّام حسين، فيكفي أن تشير إلى موجة الهجرة الجديدة التي بدأت. بين الذين رحلوا مجدداً: سهيل سامي نادر، طاهر عبد مسلم، حيدر سعيد، ناظم عودة ومحمد غني حكمت... فيما كان نصيب آخرين الاغتيال، من أمثال: كامل شياع وقاسم عبد الأمير عجام. أما بقية المثقفين فقد ارتضت مواجهة مصاعب الحياة وأجواء العنف والإرهاب والعلاقة الشائكة بالنخبة السياسيّة الجديدة التي تذكّر أحياناً بكوابيس النظام البائد. وإذا كانت المبادرات الفرديّة للمثقفين العراقيّين تقف وراء اعتصامات بغداد الأخيرة، فإنّ المؤسّسات والمنظمات الثقافيّة لم تكن غائبة. إذ أصدر «بيت الشعر العراقيّ» في بغداد بياناً، دعا الى مواصلة حملات الدفاع عن الحريّات... مثلما دعت جمعيّات ثقافية في هولندا الى إدانة هذه الإجراءات اللاقانونيّة لمخالفتها روح العصر. وسط هذا، تعلو التحذيرات من وجود قوائم جاهزة بأسماء كتاب وصحافيّين، في حوزة جماعات أصولية مسلحة اتخذت قرار الانتقال إلى مرحلة التصفيات المنهجيّة. ولعلّ اغتيال الناشط حامد علي بكاتم صوت، الاثنين الماضي، وسط بغداد، يندرج ضمن سلسلة استهداف النخب المستقلة والمدافعة عن قيم العراق الآخر وعن قيمة الإنسان الحرّ في هذه البلاد. |