مقدمات معروف أن النظرة إلى النص بوصفه جمالاً أو كينونة جميلة قد بدأت بشكلها الصريح وغير المهادن مع الشكلانيين الروس ومن تبعهم أو تداخل ما قالوا به مع دعواتهم من النقاد الجدد. فقد كتب رومان ياكوبسن سنة 1931: "هدف الدراسة في العلم الأدبي ليس الأدب بل الأدبية، يعني أن ذلك هو ما يجعل من عمل معين عملاً أدبياً"( ). أما النقاد الجدد فيؤكدون "على اعتبار الأثر الأدبي مستقلاً قائماً بذاته، يوصَف ويُحلَّل دون اهتمام بنوايا صاحبه أو بأي اعتبارات تاريخية أخرى"( ). ومعروف أيضاً أن صحة مسار هذا الاتجاه لم تحُل بينه وبين الخروج عن السيطرة الموضوعية الذي وقع في ظل بعض المناهج النصية. فقد اتسمت بداية النقد البنيوي بالوعي الكامل بما تريد وبالموضوعية والعلمية والانشغال بالجمال عوضاً عن الرسالة في الأدب، وكما عبر عن ذلك بارت حين قال: "ليست (اللغة) توسطاً بين (الشيء) و(مدلوله)، بل هي نسيج هذا الشيء في لحظة معنى. إن هذا النسيج (شكل) ذو (معنى)، ولا وجود للمعنى إلا بهذا الشكل، ولا وجود لهذا الشكل إلا بهذا المعنى"( )، وهكذا "تنطلق البنيوية في نقدها للأدب من المسلَّمة القائلة بأن البنية تكتفي بذاتها، ولا يتطلب إدراكها اللجوء إلى أي عنصر من العناصر الغريبة عنها أو عن طبيعتها"( ). لكن الحماس للعلمية ولنصية النص سرعان من انفلتت منها الموضوعية والاتزان على يد بارت نفسه، وأكثر منه على يد من تبعه، فكانت مقولة (موت المؤلف) المفهومة في حدود قصديتها النقدية العلمية وهي تأتي، كما هي حال البنوية عموماً، كرد فعل على المناهج التي عُنيت بالمبدع على حساب الإبداع أو النص ذاته. فقد خرج القائلون بهذه المقولة عن كل الحدود لتكون النتيجة، كما يقول أحد النقاد، أن "النظام في البنوية لا يتمّ إلا بموت المؤلف أولاً والإنسان ثانياً. وبمقتضي ذلك، فالتحول من البنيوية [لو يقع] هو تحول باتجاه المؤلف والإنسان، وما يشكلانه من علاقة معروفة بالزمن وبالتاريخ، كانت قد أغفلت في المقاربة البنيوية، مخاض التحول"( )، وقد وقع هذا التحول حين أخذ النقد الأدبي، وبحياء، يسترجع بعض ما فقده أو نُبذ من قبل، وإن كانت استعادته وهو ليس بالصورة التي كان عليها بالطبع. نقول هذا كله لنلفت الانتباه إلى أن هذا لا يعني العودة إلى هيمنة المؤلف وما هو خارج النص وإلى البحث في معنى النص وأيديولجيته على حساب نصّيته وجمالياته. بل نستطيع القول، وبالعكس، لا زال الالتفات إلى معنى النص وأيديولوجيته، في النقد العربي، يتراجع تراجعاً إيجابياً. إن مثل هذا الواقع يحفز الناقد، وبيئاته من كتب ودوريات ومهرجانات وندوات أدبية وثقافية على العودة إلى القول بالجمال والجمالية في النصوص الأدبية، بدلاً من الاكتفاء بأن يأتي ذلك ضمنياً. ** إذ تأتي ورقتنا في هذا السياق، يجب أن ننبه إلى أننا نرى في الوقت نفسه أن مبالغة أو لنقل تطرفاً قد يمارس أحياناً في تشغيل مقولة "أدبية الأدب لا معنى الأدب"، وهو التطرف الذي رأيناه في مقولات أو تنظيرات أو دعوات أخرى، مثل "موت المؤلف" و"سلطة القارئ" و"واحدية المنهج النقدي" وغيرها، بينما واقع القراءة الأدبية أو الفنية والممارسة النقدية أثبتا تاريخياً أن مثل هكذا تطرف، مهما نُظّر له، لا يصمد وسرعان ما يستجيب إلى التوازنات التي تقول بوجوب عدم الإلغاء. وهكذا نعترف بأننا إذ سنعنى في الورقة بالجمال والجمالية من خلال دراسة "جماليات الشخصية في الرواية العراقية"، فإننا لن نكون مبالغين في التعامل مع ذلك لنمسك بالجمال والجمالية والنص والنصية وننبذ المعنى وما هو خارج النص والمؤلف. بل سنكون (واقعيين)- إذا صح التعبير- في هذا فنقبل لا بما يُفرض على النص من خارجه، بل بما نرى أنه مكمّل للجمالية لا مناقض لها من ذلك، وكما سيرى القارئ في ثنايا البحث، وعليه فالمؤلف سيحضر في ورقتنا ولكن ليكون أداة للكشف عن الجمال لا ليصادره. بقي، وتعلقاً ذلك وبناءً عليه، يجب الاعتراف بأن كل ما سنقدمه ونعرضه، وقد ننظّر له بحدود تعلق الأمر بالرواية العراقية، إنما سينطلق من رؤية خاصة واجتهاد ذاتي. لكنه، في الوقت نفسه، يكتسب عندنا مشروعية تقديمه من طبيعة هذا الاجتهاد الذي نحاول أن نقنع القارئ به أولاً، ومن تجربتنا الطويلة نسبياً في التعامل النقدي والتحليلي مع الروايات العراقية والعربية عموماً ثانياً، ومن النصوص الروائية نفسها التي سنستشهد بها ثالثاُ. منطلقات دراستنا تأتي من الآتي: أولاً التسليم بأن غاية الأدب الرئيسة، ولكن ليست الوحيدة هي الجمال. ثانياً أن الشخصية، في ظل الاهتمام جمالياً باللغة وما تنطوي عليه من أسلوب وصور فنية وأساليب بلاغية أخرى، لم تحظ بالاهتمام الكافي من هذه الناحية. ثالثاً اعتقادنا بأن الكثير من لغة تقديم الشخصية أو وصفها أو كلامها إنما يأتي انعكاساً بدرجة أو بأخرى من علاقة الروائي بشخصياته المتخيلة، أو المتخيلة التي لها أصول حقيقية، أو الحقيقية في تجربته. وإذ نعنى هنا بما نعنى به تعلّقاً بجماليات الشخصية، وكما يشي عنوان الورقة صراحة، في الرواية العراقية، فإنما نفعل ذلك بوصف هذه الرواية نموذجاً للرواية العربية عموماً. والأمر نفسه يمكن أن نقوله حين نشير إلى أن روايات بعينها لروائيين عراقيين معينين، فإنْ هي إلا نماذج نرى أنها تمثل الرواية العراقية، وكتحصيل حاصل، وبدرجة معينة، الرواية العربية. ** إذا كان الجمال والجمالية، في بعض الأجناس الأدبية، مثل الشعر الغنائي بشكل خاص، يتمثلان في اللغة الشعرية وما ينبثق منها أو ينبني بها، فإن جماليات أجناس أخرى، ولا سيما الرواية، إنما تتخطى ذلك وإن انطلقت منه غالباً. في الحقيقة، "يفرز التعبير الروائي شبكة من الرؤى الجمالية المرتبطة تحديداً بطبيعة اللغة الروائية وما يتكشف عنها من أنماط خطاب، إذ اللغة بتحولها إلى خطاب في المجال الحيوي الروائي فإنها تنتقل إلى مرحلة التأليف الأدبي الذي يسعى إلى الاستئثار بشعريته الخاصة، وهذه الشعرية الخاصة هي التي تمنح الخطاب هوية تعبيرية مغايرة تجتهد في السبيل إلى تكوين أسلوبية أنموذجية يتميز بها"( ). ونزعم أن هذه الشعرية الخاصة تتخطى التعبير اللغوي إلى كل ما يخص تأليف هذا النوع من الخطاب من بناء وتقنيات وشخصيات. وعليه فإن الالتفات إلى جماليات الشخصية ليعني عندنا اقتحام أحد مكامن الجمال في هذا الجنس الأدبي. وتعلقاً بمركزية اللغة في البحث في جماليات الخطاب الأدبي، وتحديداً في أجناسه الإبداعية، قد يُقال، حين نكون معنيين بالشخصية الروائية، إن مفتاح جماليات الشخصية أن تكون جزءاً من الصورة الفنية التي تقدمها الرواية بمقوّميّها اللغة والخيال. وإذا ما سلّمنا بهذا، فإننا نرى أن اهتمام الدراسات الجمالية بالشخصية يجب أن ينصبّ أيضاً، وكما أشرنا إلى ذلك في المقدمة، الشخصية ذاتها، وعلى تقديها تقنيةً ولغةً ولكن ليس من خلال الفصل فيما بينها بل بها بوصفه كلاً. ومن هنا ستكون عنايتنا بما نرى أن ذلك كله يتمثل فيه من الشخصية نعني: رسمها وتقديمها عبر أشكال التقديم غير المباشر/ الإظهاري، وبشكل محدود المباشر/ الإخباري. ولكن قبل هذا ستكتسب لدينا علاقة المؤلف بالشخصية أهمية من حيث الخلق والذات والمجتمع واللاشعور. ولما كنّا سنتجاوز، في فحص النصوص العراقية المختارة، نصوص مرحلة الريادة التارخية، إلى النصوص التي هيأت للريادة الفنية ونصوص الريادة الفنية وما بعدها، فإننا سنكون، تعلّقاً بأشكال تقديم الشخصية، أمام التقديم غير المباشر/الإظهاري أو التمثيلي، الذي به تجاوزت الرواية الفنية العراقية هيمنة التقديم المباشر/الإخباري أو التقريري على روايات الريادة التاريخية. في الحقيقة إذا كان التقديم المباشر قد هيمن على بعض روايات الريادة مع وجود مقرون بشيء محدود من النضج للتقديم غير المباشر، كما في رواية "مجنونان"- 1939- وإلى حد ما "عدنا إلى الخان الكبير"- 1947- لصالح رشيد، و"اليد والأرض والماء"- 1948- لذي النون تأيوب، فإن التقديم الأول قد انفرد في تقديم شخصيات غالبية الأعمال الرائدة. والواقع أن الانتقال من الشكل الأول إلى الشكل الثاني من أشكال التقديم هذه مع ما استُخدمتْ فيه من تقنيات ولغة واستبطان، قد اقترنت بالانتقال من منلوغية روايات الريادة التاريخية، التي لا تكاد تخرج عنها غير رواية "مجنونان"، إلى دايلوغية (حوارية) روايات ما قبل الريادة الفنية، مثل "حياة قاسية"- 1959- لشاكر خصباك، و"الوجه الآخر"- 1960- لفؤاد التكرلي و"الأيام المضيئة"-1961- لشاكر جابر، و"الوجه الآخر"( )، والروايات الفنية بدءاً بروايتي غائب طعمة فرمان "النخلة والجيران"- 1966- و"خمسة أصوات"- 1967. والروايات الأخيرة تأتي نتيجة الانفتاح على الرواية غير التقليدية، التي ضمن أهم ما تميزت به الانتقال من المنلوغية إلى الحوارية. يقول باختين، في خضم حديثه عن ديستوفسكي: "إن الموقف الفني الجديد للمؤلف تجاه البطل في رواية ديستويفسكي المتعددة الأصوات هو موقف حواري يتجسد بجد ويحافظ عليه إلى النهاية. وهذا الموقف يؤكد استقلالية البطل وحريته الداخلية ولا إنجازيته وعدم استقراره. البطل للمؤلف لا (هو) ولا (أنا)، بل (أنت) الكاملة القيمة، أي (أنا) الغيرية الكاملة الحقوق (أنت هنا). البطل هو ذات للمخاطبة الحوارية الجدية بعمق والحقيقية، وليس مجرد بطل يجري تشخيصه بطريقة خطابية أو فرضية استثنائية. وإن هذا الحوار هو (حوار كبير) لرواية بكاملها تقع لا في الماضي، بل الآن، أي في مجرى عملية إبداعية قائمة"( ). ولأن المنلوغية تبقى بدرجة أو بأخرى في الرواية، ولأن وعي المؤلف يبقى، بشكل ما، يتمثل ضمن أحد أصوات الرواية الحوارية المتعددة الأصوات، وبعد تراجع التطرف في مقولة موت المؤلف دون أن التخلّي، بالطبع، عن منطلقها الصحيح المتمثل في تحييد المؤلف في تناول النص الإبداعي، فقد كان طبيعياً أن يحضر إبداعياً، خلق الشخصيات وتقديمها، وقرائياً ونقدياً، تلقّي الإبداع ورصد جمالياته، البعدان السوسيولوجي والسايكولوجي، ولكن مع واقع انحسار الأدلجة الأيديولجي أمام المد الجمالي الصحّي. هذا يقودنا إلى الالتفات إلى القصدية في خلق الشخصية، وإلى واقع علاقة البطل أو بعض الشخصيات بوجهة نظر الروائي عن العالم وعن نفسه وعن الواقع. ولا بأس هنا في أن نكون ظاهراتيين حين نؤمن "بقصدية الوعي وبأنه لا يوجد موضوع دون ذات"( )، على حد تعبير باشلار.
الروائي والشخصية لا خلاف في أن الشخصية الروائية من خلق الروائي، فهو موجدها وهو مقدمها. ولكن هل هذا يعني أنه هو الذي يسيّرها لتكون بكل ما فيها وبما تظهر عليه من مظهر أو مظاهر ومعالم وبما تفعله وتقوله؟ هنا لا يمكن للمتأمل قارئاً أو ناقداً أو روائياً أيضاً إلا أن يتوقف ويتأنّى في الإجابة. لماذا؟ لأننا نعرف كيف أن الشخصية في الرواية الفنية صارت تتحرك وتتكلم لا كما يخطط لها الكاتب أو يريد منها ابتداءً، بل بما يتوافق معها وهي وسط عالم وشخصيات أخرى أولاً، ومع الحوارية وتعددية الأصوات التي صارت عليها الرواية وفقاً لذلك ثانياُ. بتعبير آخر لا يمكن للناقد الحديث إلا أن يقر بقول أسكولدوف "إن الشخصية تتميز بحريتها الداخلية الاستثنائية وبنزعتها الاستقلالية عن الوسط الخارجي"( )، هذا تحديداً يجعلنا نتفهم ما يُقال عن تمرد الشخصية على موجدها. قد نقول هنا قول باختين الدقيق، في ما يسميه استقلالية شخصياته، في معرض حديثه عن دستويفسكي ورواياته الحوارية خصوصاً وشخصيات الرواية الحوارية عموماً. فإزاء الاستقلالية التي يمنحها ديستويفسكي لشخصياته، وهكذا ما يُفترض أن يفعله كتّاب الرواية الحوارية، وفقاً لباختين، "يمكن أن يُظن أن استقلالية البطل يمكنها أن تتعارض مع حقيقة كونه قد قُدّم كاملاً بوصفه لحظة وحسب من لحظات العمل الفني، وبالتالي فإنه يُعد من تأليف المؤلف، من ألفه إلى يائه...". ولكن كيف يحل باختين ما يبدو تناقضاً أو إشكالية هنا؟ إنه يقول مضيفاً: "إن تأليف الشيء لا يعني اختلاقه بطريقة تحكمية. إن أي إبداع يتوقف على قوانينه الخاصة من ناحية، وكذلك على قوانين تلك المادة التي يعالجها هذا الإبداع من الناحية الأخرى... فالمؤلف وهو ينتخب البطل وينتخب الفكرة الفنية المسيطرة في العمل الذي ينوي كتابته، هذا المؤلف يكون في مثل هذه الحالة مقيداً. فالمؤلف، وهو ينتخب البطل وينتخب الفكرة الفنية المسيطرة في العمل الذي ينوي كتابته، هذا المؤلف يكون في مثل هذه الحالة مقيداً بالمنطق الداخلي لما يختاره"( )، أي لما يختاره ولهذه الطريقة الفنية ولهذا البطل من منطق وقوانينه الداخلية. وهكذا يزول اللبس وما قد يبدو تناقضاً في الموقف من الشخصية وخلق الشخصية وتطورها في العمل الروائي. وهذا إذ يُقال هنا عن روايات ديستوفسكي فإنه ينطبق، برأينا، على روايات جل الروائيين، وليس من فرق هنا بين روائي كبير وآخر صغير. هذا يقودنا إلى التوقف عند علاقة ذات المؤلف ودواخله بذات الشخصية ودواخلها بل بكل ما يتعلق بها في عالم الرواية، ودور اللاشعور في ذلك. فابتداءً نعتقد أن مفتاح نجاح الشخصية في أن تكون شخصية معبرة وحية هي أن تنبع من دواخل المؤلف. ولكن إذ قد يؤدي هذا الاعتقاد النأي بالسرد والشخصيات بشكل خاص عن الاتجاه النقدي الأيديولوجي باتجاه النقد النفسي، كما يرى جورج طرابيشي، فإنه يعني، بالضرورة وفي الوقت نفسه، عدم التسليم بالكثير مما تقول به مقولة "موت المؤلف" والعديد من مناهج القرن العشرين، إذ لا يتعالى، ولن نتعالى كما قررنا من قبل، على السوسيولوجي والسايكولوجي، تعلقاً بالروائي، "فلا تستغني الشخصيات الروائية عن أن تكون ذاتاً، وليس شعوراً مستقلاً"( )، وهي ذات منطلقة في الأساس من ذات المؤلف المرتبطة بشعوره ولا شعوره، ولكن مع عدم ضمان تبعيتها لها متى تعلق الأمر بالرواية المتعددة الأصوات بشكل خاص، "فإنّ مسافة من الحرية لا بدّ أن تفصل بين الاثنين"( ). ولعله بسبب هذا الانطلاق من الذات والدواخل واللاشعور، كانت استجابة القارئ لما يقرأه ليجد فيها ما يتعلق به. يتحدث باشلار عمّا يسميه بتعليق القراءة، "أي أننا حين نقرأ- مثلاً- وصفاً لحجرة، نتوقف عن القراءة لنتذكر حجرتنا، أي أن قراءة المكان في الأدب تجعلنا نعاود تذكّر بيت الطفولة"( ). فمع أن تقرير باشلار هذا يأتي في خضم حديثه عن المكان، فإننا لا نرى أن (تعليق القراءة) هذه ببعيدة عن مفردات أخرى منها الشخصية الروائية. ولهذا، وفي الانتقال هنا إلى الرواية العراقية، موضوع ورقتنا، نعتقد أنه لم تكن لتنشأ ديمومة لصلة أو علاقة من هذا النوع بين الشخصية والقارئ في أعمال الريادة التاريخية. وإذا ما كان ينشأ شيء من ذلك في القليل من تلك الأعمال، كما قد يتحقق مع شخصية (صادق) في رواية "مجنون" لعبد الحق فاضل، وإلى حد ما مع شخصية (ماجد) في رواية "اليد والأرض والماء" لذي النون أيوب، فإنها لم تكن لتدوم، بل كانت تنتهي بالانتهاء من قراءة الرواية. وذلك لأن تلك الشخصيات لم تكن تنطلق من الذات الإنسانية ومن دواخل المؤلف ولا شعوره تماماً، لتنطبع بطابع إنساني حي، وتبعاً لذلك ما كانت تكتسب حياةً ولا تتمرد. لقد كانت شخصيات روائيي تلك المرحلة، غالباً، مما يمكن أن نسميها الشخصيات الجاهزة التي تقترب من أن تكون مثل أحجار الشطرنج التي يحركها لاعبها (الروائي) وفقاً لما يحضّرها لها من أدوار وأفعال وحوارات. ومن هنا ما كنا لنتوقع أن تلعب دوراً في جماليات الرواية، لأنها لا تمتلك هي نفسها، في حصيلتها، جمالية. يضاف إلى ذلك أن نسبة كبيرة من الجمالية تكتسبها الشخصيات من خصوصيتها، ولما كانت شخصيات روايات الريادة التأريخية لا تمتلك، وفقاً لجاهزيتها، مثل هذه الخصوصية، فقد كان طبيعياً أن لا تمتلك جمالية، على عكس روايات الريادة الفنية وما بعدها التي امتلكت ذلك. والواقع أن الخصوصية تكاد تكون، إذا ما تحدثنا عن روايات ناضجة، كما هي روايات مختبرنا النقدي، في كل رواية، في أعمال كل روائي، وتبعاً لذلك في روايات كل أدب قطري أو قومي، فهل من خصوصية للشخصية في الرواية العراقية، إذن؟ هذا ما قد نحاول أن نخرج بإجابة عليه في ثنايا الورقة. ** والآن، وقبل التعرض لجماليات الشخصية في الرواية العراقية بعد جيل الرواد من خلال رسمها وتقديمها وما يستتبع ذلك من وسائل وأساليب، ولأننا أقررنا ما قال به باختين وبعض من تعرض لهم من نقاد ديستويفسكي، من أن الشخصية الروائية على علاقة بالروائي من جهة وتتمتع باستقلالية خاصة من جهة ثانية، وتبعاً لذلك لا بد أن تكون بالشكل والماهية والطبيعة التي تكون عليها لأنها بدرجة كبيرة أو بأخرى على علاقة بذات الروائي ودواخله وشعوره ولا شعوره، يكون مفيداً إن لم يكون مفتاحاً مهماً لما تكون عليه ولجماليتها، وتبعاً لذلك لتلقي هذا الذي تكون عليه وجماليتها، أن نتعرف على ما تعنيه الشخصية لكل مؤلف. وبرأينا أنه لا بد أن تعني فعلاً شيئاً لموجدها، مهما اكتسبت أو تحصلت أو ربما انتزعت من حرية واستقلال عنه. وهذا ما نريد أن ننطلق منه في التعرض لأبرز الروائيين العراقيين. فماذا تعني الشخصية عند كل روائي؟ إذا ما بدا للحظة قول باختين "إن عالم دوستويفسكي عالم شخصيات إلى حد بعيد. إنه يقوم بتناول وتصوير أي فكرة بوصفها تجسيداً لموقف شخصية ما"( )، توصيفاً لعالم هذا الروائي تحديداً، فإنه برأينا لينطبق على عدد هائل من الروائيين في العالم، وليس ببعيد عن هذا التوصيف عوالم الكثير من الروائيين العرب العراقيين التي أيدينا. وتبعاً لذلك ينجر على هؤلاء الروائيين العراقيين وعوالمهم الكثير من كلام باختين التالي، مثل قوله: "فالبطل يهم دوستويفسكي بوصفه وجهة نظر محددة عن العالم وعن نفسه هو بالذات، بوصفه موقفاً فكرياً، وتقويماً يتخذه إنسان تجاه نفسه بالذات وتجاه الواقع الذي يحيطه، بالنسبة لدوستويفسكي لا من يكونه بطله في العالم، بل بالدرجة الأولى ما الذي يكونه العالم بالنسبة للبطل وما الذي يكونه هو بالنسبة لنفسه ذاتها. ... فإن ما يجب الكشف عنه أو وصفه واستخلاصه، لا الواقع الحياتي المحدد الخاص بالبطل، لا صورته القوية، بل المحصلة النهائية لوعيه بالعالم ووعيه بذاته، إنه في نهاية المطاف كلمة البطل الأخيرة حول نفسه بالذات وحول عالمه"( ). فمثل هذا ما نستقرأه من شخصيات فؤاد التكرلي، مثل (منيرة) في "الرجع البعيد"؛ وجبرا إبراهيم جبرا، مثل (وليد مسعود) في رواية "البحث عن وليد مسعود"؛ وإلى حد ما شخصيات ميسلون هادي، مثل (ناجي عبد السلام) في رواية "يواقيت الأرض"؛ ومهدي عيسى الصقر، مثل (سعيد) في رواية "بيت على نهر دجلة". ولكن كيف تقترب كل الشخصية من خالقها؟ أو كيف يقترب كل روائي من شخصياته؟. تفحصٌ وتأملٌ لأبطال وشخصيات جل روائيينا المحورية يكشفان لنا أواع من العلاقات والمقتربات الطريفة بين الطرفين، قد تشترك كل مجموعة من الروائيين بنوع معين منها، كما سنعرض لها فيما يأتي. ** أولى هذه المجاميع هي تلك التي تشكل الشخصية عند روائييا الروايةَ كلَّها، ويتمثل ذلك غالباً بعدد محدود من الشخصيات المحورية في كل عمل. وأبرز من تمثلت في رواياته هذه الطبيعة للشخصية، هو رائد الرواية الفنية العراقية غائب طعمة فرمان الذي تتمثل عنده الرواية الواحدة بمجموع الشخصيات المحورية، ونحن نعرف أن جل روايات فرمان تقدم لا شخصية محورية واحدة كما هو حال روايته "المخاض"، بل مجموعة من الشخصيات المحورية، كما يبدو ذلك واضحاً في "النخلة والجيران"، و"خمسة أصوت" و"القربان" و"ظلال على النافذة". فإذ تُقدِّم الرواية، عند هذا الكاتب، مجموعَ الشخصيات المحورية، فالقول المعاكس صحيح، بمعنى أن هذه الشخصيات تقدِّم الرواية، فلا تتكون أفكار الرواية وموضوعها وقضيتها إلا من خلالها، كما أن الرواية كلها بقضيتها وأفكارها تعبر عنها. وواضح جداً أن جل الشخصيات التي يختارها فرمان وتمثل له هذا هي من أصول واقعية عرفها الكاتب وربما عاش معها أو عايشها. ومع أن ذلك يتم من خلال مجموع ما تقدمه الشخصية وما يُقدَّم من خلالها، على امتداد الرواية من وصف وحوار وتفكير ومنلوغ، فليس نادراً يأتي مقطع واحد يقدم شخصية كافياً لمعرفة عصب الرواية أو أحد ملفاتها المحورية، كما في المقطع الآتي، بما اشتمل عليه من معادل موضوعي يقدم ما قد لا تفدمه صفحات عديدة: "أدار لها ظهرها. راقبتْ قامته الميالة إلى القِصر تبتعد عنها بتثاقل وبلا مبالاة. مشى عبر الحوش الطويل إلى حجرته، وخلفها تتنزى غيظاً، مطعونة مدحورة، عاجزة لا تعرف كيف تصبّ ما في أعماقها الملتهبة في كلمات... وأغمضت عينيها لحظات زافرة الهواء في عسر، وفكرت في نفسها (هالمرة يعيرني بحوش أبوه. هاي آخرتها. ست سنين أشتغل وأكسيه وأطعمه، وبالآخر يريد يطلّعني من الحوش. أوف!.. مَرْةِ [امرأة] الأب ماكولة ومذمومة..) وتنهدت، وفتحت عينيها. رأت أمامها نخلتها القميئة تبرك قرب الحائط وسط دائرة سوداء. نخلة مهجورة عاقر مثلها تعيش معها في هذا البيت الكبير خرساء صمّاء، تتحمل كل المياه القذرة التي تُلقى في حوضها، ويمر الصيف والشتاء دون أن تحمل طلعاً أو تحضر لها سعفة"( ). قد يقترب من غائب طعمة فرمان، في هذا، فؤاد التكرلي وجبرا إبراهيم جبرا. ** تكاد الشخصية تكون، عند مجموعة أخرى من الروائيين، أشبه بالقنبلة الموقوتة الرتبطة بمؤقت وتنفجر متى حان وقتها. وإذ يبرز هذا عند أحد كبار من هيَّؤوا للرواية الفنية في العراق، فؤاد التكرلي، إلا أن بطله أو شخصيته إذ تشبه مثل هذه القنبلة المرتبطة بمؤقت، فإنها في حالة تفجر دائم أيضاً. فإذ ننتظر أن تسجل، في لحظة ما أو عبر فعل ما أو نتيجة كلمة قد تنطقها شخصية أخرى، انعطافةً في سير الرواية أو تعبيراً عما قد لا نتوقعه، فإنها دائمة التصعيد والإثارة، بحيث نتيجة لها لا تكون الرواية في حالة هدوء أو أفقية أو رضا عن واقعها أبداً. وقد يقترب عالم الرواية عند التكرلي، كما قلنا، من عالم الرواية عند فرمان، في كونه يرتسم ويتكون في جوهره من خلال ما تراه الشخصية أو تقوم به أو يقع لها. ولعل لهذا علاقة بإيقاعات الدواخل الإنسانية وجمالياتها في شخصياته، التي نجدها، كما نجد هذا التفجر الدائم والمنتظر والمفاجئ، عند بعض الروائيين الآخرين مثل مهدي عيسى الصقر وبرهان الخطيب. وربما لهذا ترى أن شخصيات التكرلي الروائية هي ضمن أشهر شخصيات الرواية العراقية، بل هي، في شهرتها وفي فرض وجودها وفي جماليتها، عادةً ما تبقى في الذهن أكثر من الروايات التي تظهر فيها، كما هو حال (محمد جعفر) في "الوجه الآخر"، و(منيرة) و(مدحت) و(عبد الكريم) و(حسين) في "الرجع البعيد"، و(هاشم) في "خاتم الرمل". إن روايات التكرلي تكتسب جل جمالياتها من شخصياتها، في طبائعها غير العادية وأفعالها وتداعياتها ومنلوغاتها، وأخيراً حواراتها التي يكاد ينفرد الكاتب في خصوصيتها وارتباطها بكل شخصية تتكلم بها. فلنتأمل المقطع الحواري الآتي، بين بطل رواية "الرجع البعيد" (مدحت) وزوج أخته (حسين) المنقول من خلال وعي الأول، لنرى كيف أنه يجسد الشخصيتن، ولا سيما (مدحت)، بجمالية وبُعد يضفيان خصوصية على الرواية طالما عُرف بها التكرلي، كما أنهما يعكسان حالة التفجر الدائم وغير الدائم الذي أشرنا إليه: "- شوف حسين. خلّي المسائل العائلية والاجتماعية من فضلك على صفحة. "- اشبقى لعد [ماذا بقي إذن] عيني مدحت؟ "- بقى شي لاخ [آخر]. هو هذا اللي أريد أسألك عليه. أنت.. نفسك.. حقيقتك. "(راح تشتغل الفلسفة. الله يسترنا). أجابه: "- آني شنو؟ هذا آني. ماكو شي مخفي. أكو؟ بقايا ورواسب المجتمع والعائلة.. تفّ. "- كلنا هالشكل، كل البشر. مو هذا قصدي، المهم.. "قاطعه بحماس: "- ماكو شي مهم عيني مدحت. كل شيء يساوي كل شي. فرويد الله يرحمه مثل أي زبال عراقي بالهويدر الله يرحمه. وكتاب أصل الأنواع يساوي.. "رفع مدحت يده فأشار إليه: "- دقيقة. آني مو عدمي بالطبع ولا ملحد. آني، بس مفلس.. مفلس من الحياة. لا مو يائس.. أبداً. ... "توقف.. رأى في وجهه، خلال دخان السجاير المتكاثف والظلام الخفيف قلَقاً أو ما يشبهه. استدار إليه نصف استدارة ونظر في عينيه مباشرة نظرة حادة، شرسة: "- مرتين سألتك هذا السؤال. "ثم أخذ يتكلم بهمس فجأة: "- شلونك ويّة صوتك الداخلي حسين ؟ كلّ لي [قلْ لي]، ما عندك صوت يركض وراك وين ما تروح، يسألك عن كل شيء ويعلّق على كل شيء؟ هذا شنو، هذا ليش سوّيته، هذا صح، هذا غلط ، هذا نفاق، هذا تعدّي، هذه خربطة، هذه هزيمة؟ صوت لا ينام ولا يتعب، يحجي [يحكي] وياك أثناء ما تحجي، وأثناء ما تسكت. من إنت وحدك وإنت ويّه الناس. عندك هيجي [هكذا] شي حسين؟ عندك؟"( ). ** الشخصية، عند المجموعة الثالثة من الروائيين، هي القضية المركزية أو مجسّدتها، ولذا فهي، والقضية حين ننظر إليها على أنها صاحبة كينونة، تقترنان ببعضهما مسيرةً وتطوراً وارتفاعاً وانخفاضاً وتأزماً واستقراراً، وفي النتيجة انتهاءً. ومن أهم من نرى هذا واضحا في رواياته العراقي الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا، وإلى حد ما عبد الخالق الركابي وميسلون هادي وبتول الخضيري وسميرة المانع وسلام عبود. والواقع أن مثل هذا الاقتران، بفعل مركزية الشخصية الفلسطينية في روايات جبرا، يتحول، في وعينا، إلى اقتران حقيقي بين الفلسطيني والقضية في حياة الروائي وإلى حد بعيد حياتنا نحن جميعاً. من هنا لا تكاد شخصيات الكاتب أن تتصرف أو تفكر أو تتكلم أو تتناول أي موضوع إلا وتجسد هذا، حتى وإن لم يتم التطرق إليه صراحةً أو مركزيا؟ً من ذلك مثلاً حين يحضر، بالنسبة لشخصية الفلسطيني (وديع) وفي لا شعوره، وبالنسبة إلينا خلف سطور السرد، الفلسطيني وقضيته المركزية، قضية الأرض، في المقطع الآتي من رواية "السفينة"- 1970- الذي يعالج أصلاً وضع العراقي (عصام) وأزمته. يقول الفلسطيني (وديع): "- هنا يا عصام بلغتْ أسطورتُك حدَّها، ثم تبددتْ. انكسر الطوق من حولك، وما عليك إلاّ أنْ تخطو فوق الحطام والردم، إلى حيث توجد حريتك. "- في بغداد؟ "- نعم في بغداد. حريتك لن توجد إلاّ فيها، إنها لن توجد في الـ(هناك) الضبابي، الوهمي، المغري، في أوربا أو غيرها. هناك التلاشي في التفاهة. هناك التلاشي في التفاهة، هناك الهزيمة الحقيقية. أتعلمين يا لمى أن عصام ادّعى أنه كان هارباً منك؟ أما أنا فأقول إنه كان هارباً من مدينته، من أرضه، وحريتُه لن تكون إلا في أرضه، وحريته لن تكون إلا في مدينته، في أرضه. أتسمع يا عصام؟ في أزقة بلدك، في بساتينه، في صحاريه. حريتك هي في أن ترفض الهرب، في أن تجابه"( ). يقترب من روائيي هذه المجموعة ذاتها، وإن ببعض الاختلاف، أحد قاصي الخمسينيين، ذلك هو العائد إلى الكتابة روائياً، مهدي عيسى الصقر. فالشخصية هي المترجم الأساس لما تريد الرواية أن تقوله أو تعبّر عنه. ولكنها، إضافة إلى ذلك، معبّر رقيق ومهذب وحيي حتى حين تكون الرواية نفسها ساخنة الموضوع والأحداث. لكنها رقة وتهذيب وحياء كثيراً ما تتفجر بعنف وعن عنفِ ما تريد الرواية أو توصله، في النهاية بشكل خاص. ولعل من أجمل ما تتمثله شخصيات الصقر أنها حتى في تفجّرها وتفجيرها غالباً ما تقَدَّم أو تقدِّم نفسها بالرقة والتهذيب والحياء نفسها، وبما لا يبدو معها من تناقض، إن لم نقل إنها كثيراً ما تكون أكثر وجعاً وتعبيراً عما يراد لها أن تعبر عنه، أو يراد للرواية أن تعبر عنه، ونحن نعرف أن الصقر، إلى جانب التكرلي وميسلون هادي، يتمثل إيقاعات لغة الوجع في شخصياته. كما تعبر عن ذلك (نجاة)، بطلة "الشاهدة والزنجي"، في الأسطر الأخيرة من الرواية وهي تقضي آخر ساعات ما قبل تنفيذ القرار الصعب الذي تختاره بالانتحار: "تتململ هي على الفراش. الحديث عن إبراهيم ما عاد يحرك في نفسها غير الشعور بالاشمئزاز منه، ومن نفسها لانقيادها الأعمى له. الشعور بالكراهية نحو الآخرين على مدى طويل، يتعبها ويبهض روحها. تحاول دائماً أن تنسى الأذى، ولكن يبقى عالقاً في نفسها ذلك الإحساس بالنفور الذي يزداد يوماً بعد آخر حتى يشمل كل شيء. يلتفت إليها زوج أمها: "- إذا احتجت أي شيء.. "تقول له بامتنان: "شكراً عمّي. ... "وتبقى هي وحيدة، تشعر كأنها تنام في قعر بئر عمق.. بمعزل عن العالم كله.. وفوق رأسها رقعة صغيرة من سماء داكنة تلمع فيها نجوم باردة بعيدة. وبعد أن يموت وقع خطى أمها على درجات السلم يخيم السكون على الدار.. سكون شامل يلف كل شيء من حولها.. مثل ذلك السكون المباغت الذي أطبق على البساتين كلها، بعد انفجار الإطلاقة الوحيدة، في تلك الليلة الرهيبة!"( ). ولا يمكن هنا إلا أن نلتفت إلى لغة تقديم الصقر للشخصيات ذوات الأزمات الداخلية الشديدة وأزمات الوجود، وكما هو شأن التكرلي وميسلون هادي وآخرين. وأحسب أن خصوصية اللغة المتساوقة مع دواخل الشخصيات في أزماتها غير العادية، هي إلى حد كبير مثل تلك التي جذبت انتباه الناقدة ماجدة حمود، في روايات غادة السمان، حيث "حيوية اللغة وهي تسرد الأزمة الداخلية للشخصية بطريقة يحسّ فيها المتلقي بأنه أمام أزمته هو؛ فقد أبرزت بؤس حياتنا عبر بؤس حياة الشخصية، خاصةً حين تتناول الكاتبة حقيقة من حقائق الحياة، يهجس بها كل إنسان: الموت. لذلك يحسّ المتلقي بأن لغة الشخصية باتت لغته الخاصة، تنطق بهمه عبر صوت الشخصية أيضاً"( ). تكتسب المجموعة الرابعة من الروائيين، تعلقاً بعلاقاتها بشخصياتها وبما تعنيه الشخصيات لها، شيئاً من الطرافة. فإذ تتجبّر الشخصية عندهم وتتعملق، وربما تبز، في فعلها وسطوتها ما يمكن أن نراه في شخصيات الروائيين السابقين وغيرهم، مع ارتباط أكثر وضوحاً وإحالةً إلى موجدها الروائي، فإنها تنحسر عما رأينا شخصيات هؤلاء الروائيين تمتلكه أو تمارسه فتكون هنا، بعكس السابقات، تابعة لغيرها من مفردات الرواية من قضايا وزمن ومكان وأزمات من جهة، وللكاتب الذي قد يكون مختبئاً خلف الراوي من جهة ثانية. وحتى حين تجسد البطولة بوضوح، وهي غالباً ما تفعل ذلك بالطبع، فإنها لا تكون بقوة تلك المفردات. وإذ تتجبر الشخصية من حيث أنها تفعل ما يريده لها الكاتب أن تفعله، حتى وإن كان على حساب موضوعية الرواية وتعددية الأصوات المتساوية الحقوق والفرص من جهة، وتتحدى فنية الرواية وجمالياتها من جهة ثانية، فإنه ليس غريباً أن نقول إنها تمتلك جماليتها الخاصة التي قد تكون من احتضان الكاتب وانحيازه لها. أبرز اسم يرد إلى الأذهان هنا هو القاص والروائي عبد الرحمن مجيد الربيعي، وشخصياته كثيراً ما تتبع له، كما هو حال (كريم الناصري) في "الوشم"، و(سالم عباس) في "عيون في الحلم" و(صلاح كامل) في "الأنهار"، وقليلاً ما تتمرد عليه، كما هو حال (إسماعيل العماري) في "الأنهار". ولعل المقطع الآتي من رواية "عيون في الحلم" القصيرة- 1974- يقدم الشخصية بما يجمع بين تبعيتها لذات الروائي واستقلاليتها النسبية، وربما من هنا نستطيع أن نقول إنها تمتلك جماليتها الخاصة: "رشيد يلقي بظهره على مقعد المقهى المعوج بهيئة رؤساء الدوائر. قامة فارعة وخطوات ثابتة سريعة، حنجرة صلبة كحنجرة خطباء المساجد، بينما يخفي عينيه الضيقتين تحت نظارة طبية سميكة الزجاج. هذا الرجل لم يترك واحدة من نساء المدينة دون أن يغازلها، أو لم تكن له معها موقف غير مشرف، حتى نساء القرى القادمات إلى المدينة لا يسلمن منه. إنه يعلن: واجبي أن أغازل وكفى. وسأستمر في عملي هذا ما دامت لي طاقة. أما أن يؤدي غزلي إلى نتيجة أم لا فهذا غير مهم. المهم أن أغازل. لقد بدأت مهنتي هذه قبل عشر سنوات وسأبقى مهما تقدم بي العمر"( ). وقد يقترب من الربيعي، في هذا ، وإن بشكل محدود، هشام الركابي. ** الشخصية عند كاتب البيئة الريفية عبد الخالق الركابي، ضمن المجموعة الأخرى من الروائيين، هي عالمه معبراً عنه من خلال الصورة أو الصور الفنية التي تذلل، بقدرة الكاتب على التعامل مع الموضوع، ومع أداة التعبير عنها وتقديمها، اللغة. وانطلاقا من كون شخصياته أناسَ بيئته الريفية التي يعرفها بتفصيلاتها تجربةً وقراءةً، فإنه غالباً ما بقدمها بجمالية لغة وأسلوب يتناغمان مع الشخصية ويوظفان البيئة، وكأنهما مُحضران لهذه الشخصية تحديداً وليس لشيء آخر. وفي النتيجة ترتسم عادةً بصور فنية تقترب من الشاعرية، التي يمكن أن نقول إن الشخصية ذاتها تشترك في صياغتها، ولكنها صورة لا تستغني أبداً عن الواقعية التي هي من واقعية الرواية. ويقترب من الركابي بدرجات مختلفة غائب طعمة فرمان وجبرا إبراهيم جبرا وبرهان الخطيب. في واحد من الأمثلة التي نحسب أنها تجسد هذا كله معاً تقديم شخصية (عبدالله) في رواية الركابي "مكابدات عبدالله العاشق"- 1982، في المقطع الآتي: "صباح كل يوم يشرع (عبدالله) بوابة القلعة الجانبية فتتزاحم الخيول هابطة عبر سفح الربوة لترمح على امتداد السهب، فترتفع سحابة غبار تظلل السماء لفترة طويلة، بينما يمرق هو من بين الأجساد المضطربة ليخطف على صهوة كميت بلون العسل، لو سكبت الماء بين أذنيه المنتصبتين لسال عبر تقوس رقبته وظهره ليقطر من طرف ذيله البني الكث... كان يخترق به خضم بحر الخيول المتلاطم من حوله، حيث الظهور والأعراف والنواصي الشهباء والدهماء والبيضاء والحمراء والشقراء تتماوج بشكل مدوخ، و(عبدالله) يطبق ساقيه على جنبي الحصان الخافقين، دافعاً به إلى الأمام، والخيول من حوله تخبّ وترمح وتهذب حادجةً إياه بنظرات جانبية ساطعة بشموخ، لكنها، في الوقت نفسه، مفعمة بالحب. ومن وسط ذلك التيار التدفق يشبّ أحد الخيول بغتةً على عقبيه، تاركاً عفرته المسترسلة تتماوج في الريح، مطلقاً صهيلاً منتشياً، قبل أن يعود لمواصلة خببه النشط... و(عبدالله) مصبوب على الصهوة المكينة، متوحد بها مثلما يتوحد الوتد بالأرض، لا يأبه لما يجري من حوله كأنه يسير في فلك والدنيا بأجمعها في فلك آخر"( ). ** وتتشكل الشخصية عند روائيين آخرين، ومنهم روائية عصر المحنة والوجع العراقي ميسلون هادي، وإلى حد ما مهدي عيسى الصقر، معشوقةً للكاتب نفسه. فالشخصية عند ميسلون هادي هي فعلاً معشوقتها ومدلَّلتها قبل أن تكون معشوقة الشخصيات الأخرى في الرواية وقرائها. والعلاقة التي ينشأ عنها موقف المؤلفة وحبها هذا ليست اجتماعية أو واقعية، بل هي فنية أو جمالية، وقد تكون، تعلقاً بعملية الخلْق، نفسية. ومن هنا قد يوظَّف كل ما في الرواية لحساب هوية الشخصية وصورتها وإيقاعها وكلامها، ولكن بما يراد لها أن تكونه للرواية، وليس بمعزل عنها. ومن طريف ما تكونه الشخصية، تعلقاً بهذه العلاقة الخاصة مع موجدتها، أنها تبدو معشوقة حتى حين لا تكون خيّرة كما يُفترض بمعشوقنا أن يكون، بل قد تكون متعبة. وإذا لم يكن هذا اعتيادياً أو شائعاً، فإنه عندنا ليس غريباً. حول أحب الأعمال إلى نفسه، قال وليم فوكنر: "نظراً لعدم ارتقاء أي من أعمالي إلى المستوى الذي أطمح إليه، فعلي إذن أن أحكم عليها على أساس العمل الذي سبب لي الأسى والعذاب اكثر من غيره، تماماً كما تحب الأم الابن الذي يصبح لصّاً أو قاتلاً أكثر من الابن الذي يصبح كاهناً"( ). وعندما سألته جين شتاين عن ذلك العمل أجابه بأنه "الصخب والعنف". فلنتأمل المقطع الآتي الذي تُقدم فيه الكاتبةُ شخصيةَ (مثنى) المتعِبة لغيرها من شخصيات "العيون السود"، بل للقارئ: "دعته ليذهب معها إلى الندوة.. فوافق على الفور.. وعلى وجهه، الذي فرغ لتوه من الضحك، ولد شيءٌ رقيق ولدن وطازج وكأنه تعبير مندهش لوجه طفل. لم تكن شمس الشتاء الطيبة قد سطعت بما فيه الكفاية... قال: "- إن الندوات تقتلني.. ولكن معك.. "وعبر بفمة ضاحكاً عن تلمظ بأكلة لذيذة. كان المحاضر يقتبس مقطعاً من كتاب " بنية العقل العربي " لمحمد عابد الجابري يقول فيه : "(... المقولات كما عدّها أرسطو عشر: واحدة جوهر والتسع الباقيات أعراض والعرض ليس من مكونات المفهوم بل من مكونات الماهية). "قال مثنى هامساً: "- جدتي أسمها ماهية. "كتمت يمامة ضحكتها وقالت: "- إش ..إش.. "قال بحد: "فعلاً جدتي اسمها ماهية.. وأنا عطشان. "قالت: "ماذا؟ "قال: "- لقد عطشت. سحبته إلى خارج القاعة وقالت له: "- هل نحن في الصحراء!؟ "قال وهو يبتسم: "- هكذا أنا.. أعطش كثيراً. وتلك القاعة صحراء فعلاً. "تململت يمامة تبحث عن حنفية ماء.. ثم قالت بعصبية: "- أنت عجيب يا أخي. مخاطبتها إياه بصفة الأخ كأنما ذكرته بأمر ما فقال على الفور: "- أتعرفين؟ يمكن أن تكوني أختي فعلاً.. "آهات كاظم الساهر التي كانت تتردد في أذنها حتى تلك اللحظة، صمتت فجأة وحل محلها فزع كبير.. قالت له: "- ماذا؟ "قال رافعاً حاجبيه وكأنه يستسلم لأمر يجب أن يقال: "- أرضعتني ثلاثون امرأة.. أمي تقول إني كنت شرهاً جداً.. وما كانت تتركني وتذهب إلى الحقل حتى أبدأ بالصراخ طلباً للحليب.. ولا أكف عن ذلك حتى تقدم لي احدى نساء القرية ثديها.. ها؟ ما رأيك؟ ألا يمكن أن تكون أمك واحدة من النساء اللواتي أرضعنني فتكونين أختي بالرضاعة"( ). تقديم الشخصية معروف أن تقديم الشخصية يتم بإحدى طريقتين أو بكليهما. الطريقة الأولى هي طريقة التقديم المباشر/الإخباري أو التقريري Direct or Telling، وفيها يقوم الروائي، بنفسه أو عن طريق الراوي، بتقديم الشخصية مما ينجم عن ذلك شخصيات جاهزة كلّياً أو جزئياً. أما الثانية فهي طريقة التقديم غير المباشر/الإظهاري أو التمثيلي Indirect or Showing وفيها تظهر الشخصية لنا بنفسها أو بعملها وتفكيرها وسلوكها، وقد يكون ذلك من خلال حوارات أو شخصيات أخرى خلال سير السرد. ويقود هذا إلى أن تكون الشخصيات، غالباً، من عالم الرواية وحركتها. وواضح أن الطريقة الأولى حتى وإن كانت مستخدمة بشكل محدود في روايات هذه الأيام، فإنها كانت في الأصل الطريقة المهيمنة، إن لم تكن الوحيدة في الكثير من الأحيان، في الروايات التقليدية حيث يهيمن الروائي مباشرة أو من خلال الراوي على عالم روايته بكل ما فيه ومنه الشخصيات. ومن هنا كان طبيعياً أن تهيمن هذه الطريقة على روايات مرحلة الريادة التاريخية في مسيرة الرواية العراقية. وإزاء ذلك، "وللخروج برواية تعرض نفسها بنفسها، من دون تدخل مباشر من الراوي كان من الحتمي أن تتحرر الشخصيات من سيطرة هذا الأخير [الروائي] التي طالما خضعت لها في ظل الرواية الواقعية التي قامت على الإخبار. لذلك أكد هنري جيمس ضرورة إحداث تفاعل بين الأحداث والشخصيات، وتستقل الرواية بذلك عن أي طرف خارجي بتولى أمر سردها"( ). وهكذا، كما كان طبيعياً أن تهيمن الطريقة الإخبارية على أعمال الريادة التاريخية، كان طبيعياً أن تتحرر أعمال الريادة الفنية، وما تلاها ضمن مسيرة الرواية الفنية العراقية التي ندرسها هنا، من هذه الطريقة لتهيمن على تقديم شخصياتها الطريقة الإظهارية. ولكن مرة أخرى، كما أن هيمنة الطريقة الأولى على روايات الريادة لم يكن ليعني خلوّ تلك الروايات من الطريقة الثانية، فإن هيمنة هذه الطريقة الثانية على الروايات الفنية لم يكن ليعني خلوه هذه من الطريقة الأولى. المهم الجدير بالتقرير هنا أن استخدام الطريقة المباشرة عندما يُستخدم في الروايات الفنية، فإنه يأتي متساوقاً مع حاجة هذه الرواية الفنية والموضوعية إليها من جهة، ومع الطريقة غير المباشرة ومكملاً لها من جهة ثانية. وهكذا، أياً كانت الحاجة لطريقة التقديم المباشر أو الإخباري، فإنها، تعلقاً بالرواية العراقية، تبقى ثانوية في الرواية الفنية، ويتم بها تقديم الشخصية عن طريق الروائي أو راويه. يقترب من أن يكون تقديماً غير مباشر، إذ هو يأتي متساوقاً مع مسار الرواية التي يُستخدم فيها وفنيتها، فهو يلفظ الكثير من تقريريته ويكتسب جمالية تتساوق مع الرواية عموماً ومع جماليات شخصياتها. والواقع أننا نتردد في هذه الحالة من أن نعده طريقة تقديم إخباري مباشر، وهو يأتي ضمن سياق مجرى الأحداث وتعالق الشخصيات ببعضها، أو يأتي عبر الشخصية نفسها. وفي كل الأحوال هو يكتسب جمالية تبعده عن أي تقريرية، كما في تقديم شخصية (توفيق) من رواية "المسرات والأوجاع" لفؤاد التكرلي، في المثال الآتي: "ما أن بلغ توفيق الثانية عشرة من عمره حتى تساوى في الطول مع شقيقه عبد الباري الذي يكبره، كما نعلم، بسبع سنوات والذي تجاوز سن المراهقة دون تغيير في هيئته التي لا تسر، ولم يذق توفيق من الحرمان ما ذاقه أغلب العراقيين باستمرار الحرب العالمية الثانية"( ). ومثلُ هذا تقديمُ شخصية (الزوجة) في رواية (النقطة الأبعد) لدنى طالب: "زوجة شابة خيالية، تنصرف إلى أحلامها الصغيرة. تجعلها ربا تنذر النذور وتوقد له الشموع. تجننها المرآة فتأتي على القيام بما لا يخطر على بال من الأفعال. تتوقف لساعات لتلوث وجهها بأصناف الماكياج المتكدسة أمام مرآتها لتبدو كساحرة، وقد تبكي أو تضحك فجأة"( ). ومثل هذا تقديم البطل (محمود) لشخصية أبيه في رواية شاكر جابر الجميلة "الأيام المضيئة" في الأسطر الآتية: "وكان كلما اشتد به الغضب يتكلم وكأنه شخصٌ آخر يكفر بالله والأنبياء ويسبّ الناس ونفسه ويتمنى لو يموت من يلتقي به في تلك الأسطر، وأحياناً كانت يداه ورجلاه تعينانه حين يعجز عن التعبير فيكسر أواني الطعام أو يمزّق الملابس أو يضرب أمي أو زوجته الأخرى أو يلطم رأسه بعنف، وفي اليوم الثاني يلزم الفراش ويشكو الصداع"( ). ويقدم (كريم)، بطل رواية "المخاض" لغائب طعمة فرمان، شخصية الفلسطيني (إسماعيل) بما يقترب من التقديم التقليدي، لكنه يأتي مقنعاً حين نعرف أن الرواية مركزية الشخصية، وأنها كلياً مروية عن وعي (كريم) أيضاً، غير أن الروائي يبدو وكأنه نسي حقيقة أنّ من يقوم بالتقديم هذا البطل الراوي وليس الروائي نفسه، فيأتي تقديمه مطولاً وتفصيلياً بدلاً من أن يقوم بتوزيعه على مناطق متعددة من مجرى الأحداث، حتى وإن برر الروائي ذلك بمعرفة الراوي بتفاصيل هذه الشخصية وحياتها من خلال علاقته بها. من هذا الكثير من الوصف أو التقديم، يقول بطل فرمان: "... ومن خلال ذلك عرفت أن إسماعيل مثقف، ويتقن اللغة الإنكليزية جيداً... من ذلك علمت أن إسماعيل من فلسطين. كانت عائلته تسكن في قرية صغيرة في قضاء يافا. ومع كل ذكرى كنت انتزعها منه كنت أزداد معرفة بعالمه المحرم عليه الآن..."( ). وتتواصل تفاصيل حياة (إسماعيل) مقدَّمة من البطل الرواي صفحتين كاملتين. أما عبد الخالق الركابي، فقد تعود أن يقدم بعض شخصياته في افتتاحيات ظهورها بشيء من التقليدية الإخبارية المباشرة، لتنطلق بعد ذلك بتقديم نفسها عبر الطريقة الإظهارية غير المباشرة. ولكنها لا تأتي مجردة في هذا من فنية التقديم غير المباشر، بل سنلاحظ أنه حين يلجأ إلى التقديم المباشر سيختار لا التوصيفات العادية غالباً بل المعتمدة على التعبيرات الخاصة والمفردات التي تتمثل تعالق الشخصية بالبيئة ومسار الأحداث وطبيعة هذه الأحداث والشخصيات الأخرى، وبتكامل جمالي فريد في الرواية العراقية، كما في تقديمه لشخصية (رسن) في رواية "من يفتح باب الطلسم؟" في المقطع الآتي: "في المقدمة سار (رسن) وقد غطى وجهه بلثام لم يترك غير شق ضيق تتخاطف من خلاله عينان نافذتان تدركان أسرار الطرق الخلفية المتشابكة في شتى الاتجاهات والتي تؤدي في النهاية نحو الشرق مثل مؤشر بوصلة ينجذب أبداً لاتجاه واحد"( ). ويقترب من مثل هذا التقديم، تقديم هشام الركابي لبعض أوجه شخصيات روايته "المبعدون"- 1977، ومنها التقديم الآتي الذي تبرره افتتاحيته السياقية: "عشرات العيون تحملق في وجه الرجل الآخر. بدا غريباً على جاسم.. وجه جديد... هبطت نظراته تُمعن في جسد الرجل.. شاب صغير لا يتجاوز العشرين عاماً. قامته المتماسكة رشيقة بدون بدلة. ويداه المتشابكتان.. آه .. إنهما مقيدتان بالصفاد.. سجين إذن؟"( ). ** حين نتحول إلى طريقة التقديم غير المباشر أو الإظهاري فإن أول ما سيواجهنا بالضرورة هو ما تشترك فيه هذه الطريقة مع الطريقة الأولى، نعني بعض التقديم بواسطة الشخصية ذاتها أو شخصيات أخرى. وإذ يقترب هذا التقديم شكلاً من التقديم المباشر الذي ساد في الرواية التقليدية ورواية الريادة التاريخية، فإنه لا يكاد يخلو منه أي عمل من أعمال المرحلة الفنية من مسيرة الرواية العراقية. ولكن إذ يكون مقدم الشخصية هناك دخيلاً غالباً ويكون التقديم نفسه دخيلاً على السرد، فإنه هنا ينبع من السرد. وقد تقوم الشخصية بتقديم نفسها تقديماً غير مباشر، عن طريق تفكيرها وتداعياتها ومنلوغاتها الداخلية. وإذ تقدم هذه الوسيلة الشخصية لا بصورتها الخارجية إلا في النادر، فلعلها تسهم، لا بتقديم الشخصية كما تعرف بالضرورة عبر الآخرين وعبر وسائل أخرى، بل في كثير من الأحيان بما تُعرف به، لأنها في الغالب الأعم تقدمها في طبيعتها الحقيقية، التي قد لا تريد هي للآخرين أن يعرفوها بها. فهذا (ناجي عبد السلام)، في رواية (يواقيت الأرض) لميسلون هادي، يقدم لنا بعض طبيعة شخصيته (السرية) في المقطع الآتي: "كان قد أصبح جِدّاً منذ وقت قصير .. أو طويل .. بل قصير .. وقبل ذلك بسنوات كان قد فاجأه شاب طويل القامة عريض المنكبين بأن قال له : تفضل عمو . "كم بدت الكلمة نشازاً . انعقد الجلد بين حاجبيه ثم ضحك .. ولكن الشاب لم يضحك .. ولم يعرف هذا الرجل الواقف أمامه لماذا ضحك . وهو من مواليد الأربعينيات .. وذلك كان يجعله شاباً ذات يوم يغبطه الآخرون من مواليد الثلاثينيات أو العشرينيات على شبابه .. فما الذي حصل لكي يناديه ذلك الشاب بعمّي ويقول له بكلمة واحدة كم هو جيل آخر .. عتيق وعجوز ومتهدم .. كأنه قادم من زمان العصمانلي او عصر الديناصورات ؟ جعله ذلك يحتار حيرة شديدة طالت عدة سنوات أمعن خلالها النظر إلى ملامحه في كل مرة يطل بها على نفسه في المرآة .. ليعثر على ذلك الشيء المنقرض ، الذي جعله الشاب الرزين عريض المنكبين يناديه بكلمة عمّي ، واضعاً بكلمة واحدة وفي لحظة واحدة ، لن ينساها ناجي عبد السلام مطلقاً ، حداً بين جيله ، جيل ذلك الشاب المغرور بنفسه ، وجيلاً آخر ربما ظن الشاب أن الروبية كانت تستعمل فيه بدلاً من الدينار"( ). وإذا كان هذا التقديم والتعريف بطبيعة الشخصية طبيعياً كون الشخصية تقدم نفسها بنفسها ولنفسها عبر وعيها، فإن مثل هذا التقديم قد يعرّفنا حتى بحقائق طبيعة شخصيات أخرى غير صاحبة الوعي التي تقوم بالتقديم. فهذه إحدى شخصيات رواية غائب طعمة فرمان "خمسة أصوات" المحورية، (سعيد) يقدم لنا مرةً واحدة عدة شخصيات، مظهراً وجوهراً، وإن على سبيل الظن، وكل ذلك من خلال مجيء التعريف من خلال وعيه، وخلال جريان السرد، خصوصاً حين يرسم الكاتب وهو يفعل ذلك صورة فنية: "وصل في خطوتين إلى ليوان صغير عار إلا من كرسي خيزران وُضع قرب رازونة لاح في غير موضعه، وكأنما استعير من بيت الجيران ليجلس عليه سعيد. دعاه الرجل إلى الجلوس. كان يبدو رب البيت. على الأكثر هو زوجها- فكر سعيد بذلك- وما علاقتي أنا بين زوج وامرأة؟ تناول الرجل الطفل من الفتاة فبدت ذراعاه فارغتين لا تعرف ماذا تفعل بهما. فتاة نحيلة طويلة العنق، عظيمة الصدر. من الصعب أن تعرف عمرها بدقة. كانت ترتدي ثوباً أحال الغسيل لونه. وتهدلت أذياله فهي ليست على مستوى واحد. كان صدرها مكشوفاً، وترقوتاها بارزتين. كانت تبدو رقيقة جداً وعذبة وبيتية... إنها صنف من المرأة العراقية يعرفه سعيد، تأكل شبابها بسرعة، مثل المصابيح الوهاجة التي تستعمل في التصوير، تتوهج وهجاً ساطعاً لفترة قصيرة ثم تنطفئ إلى الأبد. وكانت نجاة تبدو قريبة إلى عهد الانطفاء"( ). ** ومن التقديم غير المباشر/ الإظهاري التقديم الذي يتم عن طريق أفعال الشخصية وسلوكها وحركتها. ويمكن أن نقول، بدايةً، إن هذا التقديم غالباً ما يتم عبر الرواية على امتدادها. ولكننا نشير إليه هنا منفرداً ومسمًّى على اعتبار أن فعلاً واحداً قد يختصر أو يعبر عما يقترب من كامل الشخصية أو الكثير منها، كما في دلالة اختفاء (وليد)، بطل رواية جبرا إبراهيم جبرا "البحث عن وليد مسعود"، وهزء (جسام) بطل رواية برهان الخطيب "نجوم الظهر" بعلمية الانتخابات، وبصق (عبدالله) بطل رواية عبد الخالق الركابي "مكابدات عبد الخالق الركابي" في وجه الضابط الإنكليزي، وسفر (ناجي عبد السلام) بطل رواية ميسلون هادي "يواقيت الأرض". وأكثر من ذلك أن مقاطع بعينها في أية رواية قد تنفرد بأن تقدم جزءاً كبيراً من صورة الشخصية أو، بالأحرى، طبيعتها، مما قد يغني عن تقديمها تقديماً مباشراً أو غير مباشر عبر وسائل أخرى، من شخصية أخرى أو حوار أو تداعيات..إلخ، مما يُكسبها جماليتها الخاصة. من ذلك مثلاً المقطع الآتي الذي يأتي بعد حادث مقتل (فؤاد) صديق (عبد الكريم)، إحدى شخصيات رواية فؤاد التكرلي "الرجع البعيد"، الذي يلخص الكثير من جوهر هذه الشخصية، خصوصاً في التحول الكبير الذي يطرأ عليها: "لم يكن أمراً مألوفاً أن تطرق الأبواب مثل هذه الساعة من الليل... عادت الطرقات متوالية حينما كانا يتوسطان باحة الدار شبه المظلمة... هتف مدحت: "- منو؟ "فأجابه صوت عبد الكريم حالاً: "آني. آني كريم. ... "لم تلحظ شيئاً غير اعتيادي في هيئة ابنها عبد الكريم وهو يواجهها ثم يعتذر لفقدان المفتاح ويمضي أمامهما نحو الداخل. بدا صوته أكثر خشونة، متقطعاً بعض الشيء، وكان مسرعاً لغير سبب واضح... "فهزت رأسها واندفعت نحو غرفة عبد الكريم المجاورة. كان ضوء الغرفة ساطعاً تزيده الحيطان البيضاء سطوعاً، وكان عبد الكريم جالساً على سرير نومه دون سترة وهو ينظر بذهول واستغراب إلى بنطلونه وبديه. رفع عينيه إليها أول دخولها. أنبأتها نظراته بما يضطرم في داخله من قلق واضطراب. كان خائفاً، مرتبكاً، مستنجداً. سحبت بصرها بقعة كبيرة داكنة على القسم الأعلى من بنطلونه وأطراف ثوبه الأبيض. أراعتها نظراته وما انطبع على وجهه. أسرعت إليه فركعت قربه على الأرض: "- شبيك ابني كرومي؟ شبيك عيني؟ "كانت ذراعاه ترتعشان، ترتعشان. هتف: " - دم! هذا دم فؤاد. دمى فؤاد هذا يوم [أمي]. "ثم صرخ صرخة مجنون: "- دم فؤاد. فؤاد. احتضنت ساقيه المرتجفتين دون أن تدري لماذا؟ ثم أخذت تنادي مدحت بأعلى صوتها"( ). ** آخر أوجه أو وسائل تقديم الشخصية تقديماً غير مباشر هو كلام الشخصية أو حوارها. فالحوار يسهم في رسم وتقديم الشخصيات عند الكثير من الروائيين العراقيين، لعل أبرزهم في هذا غائب طعمة فرمان وفؤاد التكرلي ومهدي عيسى الصقر وميسلون هادي وسلام عبود. فنحن نعرف أن الحوار "يشي بالشخصية طبيعةً وبيئةً وطبقةً ومهنةً وسلوكاً، وربما شكلاً أحياناً، أي أنه، بعبارة أخرى، يسهم في رسم الشخصية الفنية"( ). فلنلاحظ كيف يفعل التكرلي مثل هذا في المقطع الآتي من رواية "خاتم الرمل" الذي يسهم فيه الحوار تماماً، كما هو في عموم الرواية بالطبع، برسم شخصية الراوي (هاشم) بطل الرواية المأزوم: "كنت لحسن الحظ، لا أزال أحتفظ بهدوئي مستعيناً بمشاعر الرثاء والشفقة التي كانت تساورني نحوها. [قلتُ]: "- أنا مهتم فقط بحديثك المسموم عن والدتي، إنه نتيجة أكاذيب ذلك الخال المجذوب. كان يكرهها في قلبه ويحسدها، لأنها ورثت ثروة طائلة من والدتها ولم يرث هو شيئاً، بقي يلاحقها طوال حياتها. أنا اكرهه.. إنه يشبه والدي. لقد صيّرا من حياتها جحمياً.. تلك المسكينة البريئة، ثم قتلها زوجها آخر الأمر. "- كلا.. كلا.. لم يقتلها أحد. كانت مريضة، وأنتَ مثلها.. أنت مثلها. "- أنا أيضا؟ لماذا؟ "ثم توقفتُ عن الكلام. كانت، في زاوية من الأريكة، منكمشة مثل قطة خائفة، تعبث بحقيبتها وتنظر إليّ بعينين مضطربتين وهي تعض على شفتها السفلى باستمرار: "- أنتِ في حال سيئه، دكتورة سلمى، لماذا ؟..."( ). ويشبه هذا ما كان قد فعله التكرلي من قبل في روايته (الرجع البعيد)، على شاكلة المقطع الحواري الآتي، الجميل والعميق في ما يؤديه، بين الأخوين (مدحت) و(عبد الكريم): "بدا له وجه عبد الكريم يزداد اصفراراً، يزداد فراغاً، وكان يمسح العرق عن جبهته ورقبتة المفتوحة. سمعه يردد: "- ماكو [لا يوجد] بحياتنا حوادث تهزّ النفس.. ماكو هيجي [هكذا] حوادث.. حياتنا مثل التراب، بلا طعم.. بلا لون . "أزعجه قول أخيه: "- شوف عبد الكريم... إنت صحتك انهارت ورا [بعد] موت فؤاد .. لازم تعرف هالشي.. لازم تفهه، تفهم السبب. "[وأضاف:] شنو يعني؟ تتصور يعني العالم لازم يتوقف لأن أحد الأشخاص مات؟ " رآه يلتفت بهدوء. كانت في عينيه نظرة بريئة: "- ليش لا؟ "- ... لا تتداهر [تتمازح] وِيّايه [معي] كريم، ماكو واحد ينكر شكد [كم] مُرّة هالأشياء.. هاي هي الحياة... هاي هي.. لازم تنقذ نفسك. "– حيوانات يعني؟ "- شنو؟ شنو؟ [ماذا؟] وانت ليش دتحتقر الحيوانات؟ تعال نتحاسب ونشوف شنو الفائدة من تفوقنا عليها؟ "عاد يجيبه بلهجته المستكينة: "- ما أكدر [لا أستطيع] أتحاسب. ما أريد أدافع عن الإنسان. آني ما عندي شي أكدر أدافع بيه. بس... "تداخلت في ملامحه إمارات ألم: "- آني أحس بعدم قابليتي على الحياة..."( ). ولنتأمل كيف ترتسم صورة المرأة، التي كانت قد فقدت ابنها شهيداً في الحرب، وطبيعتها تماماً من خلال كلامها وتصرفها في المقطع الآتي من رواية ميسلون هادي "العالم ناقصاً واحداً": "... رفع نظره إليها من جديد وكأنه ينتظر كلمة واحدة تقولها، إلا أنه وبمصادفة بحتة انطلق فجأة في الشارع صراخ طفل انقفل دونه باب البيت فظل يقف خارج البيت مرعوباً وهو يصيح بحرقة شديدة: "– افتحوا الباب. "انصرف ذهن الأم إلى صوت ذلك الطفل الذي سمعته بوضوح، فنادت برأسها وهي تتمتم: إسودْ وجهي يوم.. عابت روحي عليك. "حدق الأب وهو لا يفهم ما تقوله.. فاتسعت عيناها من لهفتها على الطفل وصاحت بصوت أعلى: "- افتحوا له الباب. "ثم نهضت من مكانها وركضت إلى الباب المسدود لتفتحه.. وهي تردد بلا انقطاع: "– اسم الله يمه.. اسم الله الرحمن.. اسم الله الرحمن.. ماتت أمك يوم [فدتك أمك].. ماتت أمك يوم"( ). وفي حوار قصير جداً ولكنه مكثف في كل شيء، لغةً وجملاً ودلالةً ،يسهم عبد الرحمن مجيد الربيعي فيه بتصوير شخصياته، في رواية "عيون في الحلم" : "نوري.. رشيد.. في القرية . "– إنها مفاجأة! "– ما هذا الإهمال؟ يعوزك العقال واليشماغ لتبدو قروياً أصيلاً! "– لمن أعرض نفسي هنا؟ دعوني في انزوائي بين هؤلاء الناس، فقد علموني أشياء كثيرة. "– هل تراسلك مُنى؟ "- لا.. إنها لا تعرف مكان هذه القرية في خارطة المدينة. "- شاهدتُها في السينما قبل أيام، كانت عباءتها مزاحة قليلاً فلمحت صدرها وجيدها الأبيض واشتهيتها آنذاك. "- أيها الحصان اللئيم! "- فكرنا بأثمن هدية نحملها إليك، فلم نجد أفضل من قنينتَي عَرَقِ حُقّة 16. "– حسناً، ستكون سُكرتنا الليلة تاريخية لا تُنسى"( ). ولعل مما عزز من إسهام الحوار، وكلام الشخصيات عموماً، في تقديم الشخصية مجيئه بلغة متناسبة مع طبيعة المتكلم به أو مع ما يراد للمتكم أن يكون عليه من نوع وطبيعة وثقافة..إلخ. وهكذا كانت لغة الحوار متلائمة فعلاً مع الشخصيات، كما هي وكما يُراد لها أن تكون، عند الكثير من الروائيين، مثل غائب طعمة فرمان، وفؤاد التكرلي، وجبرا إبراهيم جبرا. ومن الطبيعي أن نجد توظيف الحوار في رسم الشخصية وتقديمها عند عبد الرحمن مجيد الربيعي الذي نعرف أنه واحد من أبرز من عشق الحوار واعتمد عليه في كتابة رواياته بين الروائيين العراقيي، ربما تأثراً بإرنست همنغوي الذي عشق كتاباته. ولعل رواية الأنهار واحدة من أبرز أعماله في في هذا، ففي مقطع واحد، كالمقطع الآتي من رواية "الأنهار"، يقدم لنا عدة شخصيات: "وعندما حدثت النكسة قال سعدون الصفار: "- ثرثرة وخطب زعماء ليس إلا.. هذه أمجادنا. ورئيس جمهوريتنا يخطب في الجنود الذاهبين إلى الجبهة على طريقة الخلفاء الراشدين. "وعلق صلاح كامل: "إنه لا يمثلنا ولم نأت به. عساكر تتصارع فيما بينا. "... ونطق [إسماعيل العماري] دون أن يرفع عينيه عن الرسم: "- عندما استمعنا إلى إذاعاتنا قلنا أصبحنا في تل أبيب. ولكن واأسفاه كانت قذارة اللعبة شنيعة. "وقال خليل راضي: "- الوهم.. إن دائنا. أنا بجانب التحليل الذي يرى ضرورة التغيير في الداخل أولاً..."( ). الخاتمة قبل أن نخط كلماتنا الأخيرة، تبقى نقطة واحدة، لعلها تكتسب أهمية بالنسبة لعدد غير قليل من الروائيين نشير إليها، تلك هي علاقة الشخصية، طبيعةً وتقديماً، بالمكان، وما يترتب على ذلك من علاقة المكان وتعلق الإنسان/ الفرد وتأزّماته بجماليات الشخصية الروائية. فإن: بين طبيعة المكان من حيث هندسته وبعده التاريخي والاجتماعي وملامح الشخصية الروائية انسجام كلي. إذ لا يمكن للشخصية أن تعيش خارج مكانها فهي ملتصقة به أشد الالتصاق وحتى وإن غادرته فيكون خروجاً مؤقتاً في انتظار العودة النهائية" ( ). ومع أن لهذا أهمية في تقديم الشخصية وجمالياتها، إلا أن سعة ما يحتاجه ليجعله خارج طاقة ورقتنا. والآن، وبعد هذه السياحة الممتعة مع شخصيات الرواية العراقية أو، بتعبير أدق مع جمالياتها وجماليات تقديمها، سواء أكان ذلك نتيجة ارتباطاتها بخالقيها الروائيين وذواتهم ودواخلهم ولا شعورهم، أو باستقلاليتها التي تحصل عليها باعتراف الآخر- المؤلف- بها أم بالثورة والتمرد عليه والقتال لانتزاعها منه، نعود إلى تساؤلنا عما إذا كانت هناك من خصوصية في الشخصية الرواية العراقية؟ فنقول نخشى أن نحبط من ينتظر الجواب على هذا مفضلين أن يجد قارئ هذه الورقة بنفسه مثل هذا الجواب. ولكن الذي نريد أن نقوله تعلقاً بهذا هو أنها شخصية في الغالب عراقية بالطبع، كما أن هناك بلا شك الكثير والكثير مما تلتقي فيه هذه مع الشخصية في الرواية العربية عموماً.
الهوامش: ) Abrams: Glossary of Literary Terms, USA,1981, p166. 2) ديفيد ديتشس: مناهج النقد الأدبي بين النظرية والتطبيق، ترجمة: د. محمد يوسف نجم، مراجعة: د. إحسان عباس، دار صادر، بيروت، 1967، ص. 3) رولان بارت: النقد البنيوي للقصة القصيرة، ص13. 4) د. إبراهيم محمود خليل: النقد الأدبي الحديث من المحاكاة إلى التفكيك، عمّان، 2003، ص95. 5) ناظم عودة: البنيوية والتاريخ: أهمية السرد وعلاقته بالمعنى- تكرار الوصول إلى المعنى يقتل سحر البنيوية. أضواء، موقع إليكتروني. 6) د. محمد صابر عبيد: الكون الروائي.. قراءة في الملحنة الروائية الملهاة الفلسطينية لإبراهيم نصر الله، بيروت، 2007، ص59. 7) من المفيد أن نشير إلى أن خطو الروايات، التي سبقت الرواية الفنية، وربما هيأت لها، من منلوغية رواية الريادة التاريخية إلى الحوارية لا يعني أنها قد غادرت المنلوغية، بل هذه المنلوغية نراها متجسدة في أعمال عديدة هيمنة أو حضوراً إلى جانب الحوارية، كما يمكن تلمس ذلك واضحاً في روايات "حياة قاسية"، والوجه الآخر"، المذكورتين، وروايات أنيس زكي حسن "الأخطبوط"- 1959- و"السجين"- 1960- وياسين حسين "الزقاق المسدود"، و"كما يموت الآخرون"- 1965. 8) باختين: قضايا الفن الإبداعي عند دوستويفسكي، ترجمة د. جميل نصيف، بغداد، 1986، ص89. 9) باشلار: جماليات المكان، ترجمة: غالب هلسا، بغداد، 1980، ص11. 10) باختين، قضايا الفن الإبداعي عند ديستويفسكي، ص8. 11) المصدر السابق، ص91- 92. 12) جورج طرابيشي: الروائي وبطله: مقاربة اللاشعور في الرواية العربية، دار الآداب، بيروت، 1995. عن د. عبدالله أبو هيف: اتجاهات النقد الروائي في سورية: د. عبدالله أبو هيف، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2006، ص188. 13) المصدر السابق. 14) باشلار: جماليات المكان، ص8. 15) باختين، قضايا الفن الإبداعي عند ديستويفسكي، ص15. 16) المصدر السابق، ص67. 17) غائب طعمة فرمان: النخلة والجيران، بغداد، 1978، ص6-7. 18) فؤاد التكرلي: الرجع البعيد، بيروت، 1980، ص 87-88. 19) جبرا إبراهيم جبرا: السفينة، بيروت، 1979، ص237. 20) مهدي عيسى الصقر: الشاهدة والزنجي، بغداد، 1988، ص137-139. 21) د. عبدالله أبو هيف: اتجاهات النقد الروائي في سورية، دمشق، 2006، ص264. 22 ) عبد الرحمن مجيد الربيعي: عيون في الحلم، دمشق، 1974، ص66. 23 ) عبد الخالق الركابي: مكابدات عبدالله العاشق، بغداد، 1982، ص69-71. 24) James B. Merwether and Michael Millgate: Lion the Garden, Lincoln and London, 1980, p244. مجموعة: وليم فوكنر في صخبه وعنفه، ترجمة د. نجم عبدالله كاظم، بغداد، 2005. ص26. 25) ميسلون هادي: العيون السود، دار الشروق للشروق والنشر، عمّان، 2002، ص115- 118. 26) أثير عادل شواي: تقديم الشخصية في الرواية العراقية، رسالة ماجستير مقدمة إلى كلية الآداب بجامعة بغداد، 2005، ص13. 27) فؤاد التكرلي: المسرات والأوجاع، دمشق، 1998،ص21. 28) دنى طالب: النقطة الأبعد، رواية، دمشق، 2000، ص81. 29) شاكر جابر: الأيام المضيئة، بغداد، ص3. 30) غائب طعمة فرمان: المخاض، بغداد، 1974. 31) عبد الخالق الركابي: من يقتح باب الطلسم، بغداد، 1982، ص16. 32) هشام الركابي: المبعدون، بغداد، 1977، ص23. 33) ميسلون هادي: يواقيت الأرض، عمّان، 2001، ص13. 34) غائب طعمة فرمان: خمسة أصوات، بيروت، 1967، ص34. 35) فؤاد التكرلي، الرجع البعيد، ص22-23. 36) د. نجم عبدالله كاظم: مشكلة الحوار في الرواية العربية، ص91. 37) فؤاد التكرلي: خاتم الرمل، بيروت، 1995، ص131. 38 فؤاد التكرلي: الرجع البعيد، ص130-131. 39) ميسلون هادي: العالم ناقصاً واحد، ص 65-66. 40) عبد الرحمن مجيد الربيعي: عيون في الحلم، ص93. 41) عبد الرحمن مجيد الربيعي: الأنهار، بغداد، 1974، ص23. 42) د. محمد الباردي: إنشائية الخطاب في الرواية العربية الحديثة، من منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2000، ص39
*أستاذ النقد والأدب المقارن والحديث كلية الآداب – جامعة بغداد
|