لا أزال أذكر قهقهة الراحل عبد الرحمن منيف حين حدثته عن كتابتي لدراسة اجتماعية تستخدم روايته «مدن الملح» وأعمال ابداعية أخرى للتساؤل عن ظاهرة اعتبرتها مثيرة للقلق في حياتنا الفكرية، مفادها باختصار إدانة الحاضر من خلال تجميل الماضي. للتذكير اقول بأن «مدن الملح» تتابع تراجيديا البدوي متعب الهذال الذي يفترض أنه يمثل القيم التي تعودنا على لوكها عن الشهامة والنقاء المزعومين وتعرضها للتدمير إثر دخول النفط و «الأجنبي».
لم يدر في خلدي آنذاك أن الظاهرة ستستشري بعد حين لتصل الى مديات مألوفة لكل القراء، كما أظن: حارات البؤس والتخلف والقتل غسلاً للعار وصراعات «الفتوات» على استغلال ابناء الحارة تستحيل ابواباً لحارات تحمي القيم المزعومة من «الأجنبي». إنه الأجنبي دوماً. حتى الملك الفاسد، الذي تشير كل المصادر إلى مصاحبته لإيطاليين عملاء لبريطانيا، يغدو بطلاً وطنياً يتعامل معهم لمقاومة الإنكليز.
ليست هذه الأعمال بالتأكيد مراجعة نقدية وعلمية لتاريخ درسناه في طفولتنا على رغم رغبة كتّاب تلك الأعمال في تصوير أنفسهم مجددين. فتحميل الأجنبي وزر انحطاطنا وتجميل ماضينا هما الطبقان الرئيسان اللذان تتخمنا بهما ماكنتا التعليم والإعلام الرسميتان. واستعير هنا لمحة ذكية لناقد بريطاني علق على أسباب شعبية شبه فيلسوف ظهر قبل عقدين هو فرانسيس فوكوياما قائلاً إن المتلقي التقليدي لا يبحث عن جديد يصدم مسلماته، بل عن إنتاج يقول له ما يرغب في سماعه ويطمئنه إلى مسلماته. مع مضي السنين، «اكتشف» الكتاب جماليات جديدة في ماضينا. في رواية «عمارة يعقوبيان» يقف ابن الباشا تحت نصب طلعت حرب ليتأسى على الزمن الذي كانت فيه القاهرة تضاهي باريس جمالاً ونظافة. وتتخصص قناة تلفزيونية عراقية ببث مسرحيات وأغان تعود إلى الزمن الجميل، وفق تعبيرها.
إبن الباشا المصري أو العراقي لا يزيفان التاريخ. كانا يراقبان المجتمع من وراء زجاج مقهى غروبي والبرازيلية. يغني محمد عبد الوهاب على لسانهما: «محلاها عيشة الفلاح». كان يركب الحنطور، بالطبع، فلم يكن معرضاً للإصابة بالبلهارسيا، وربما لم يسمع باسم المرض الذي كان يفتك بحياة الفلاحين، وهم سبعون في المئة من قوة العمل المصرية آنذاك. وفي ذلك الزمن المسمى جميلاً كان العراق يسجل 50 الف حالة وفاة سنوياً بالملاريا بين عامي 1943 و1950، وفق البنك الدولي، والتراخوما تفتك بعيون 60 بالمئة من سكانه. وفيات الأطفال دون سن الخامسة في مصر كانت 179 لكل الف عام 1960 و300 لكل الف في ريف العراق و100 لكل الف في مدنه. عام 1960، كانت نسبة الأمية لدى البالغين في مصر 74 بالمئة، وفي العراق 82 بالمئة وفي سورية 60 بالمئة. في العام ذاته، العمر المتوقع للوفاة في مصر كان 46، وفي العراق 49.
إذاً لا يشتكي هؤلاء من قذارة لم تكن. لقد صدمهم اندفاع كم هائل من القذارة التي كانت تحيط بهم وهم في عزلة تامة عنها فجاء الحراك الاجتماعي الهائل الذي أطلقته الثورات ليغرقهم فيه. وخطيئة الثورات لا تكمن في تحطيمها تلك الأسوار والبنى التي أدامتها، بل في فشلها الفاضح في بناء بديل اجتماعي أكثر رقياً.
وأمام إجرام صدام حسين ومن تلاه وبشاعات سجون أبو زعبل والمزة، يغدو منطقياً الحنين إلى ايام سيادة القانون. لكن المشكلة تكمن في أنه لم يسد إلا في خيال الكتاب. فحين توجه عضو الكونغرس الأميركي جيمس ريتشارد لزيارة الشرق الأوسط في آذار (مارس) 1957، زوده برنامج المساعدة الأميركية، الذي عرف باسم النقطة الرابعة، بتقرير يؤكد فيه استقرار النظام السياسي في العراق لأنه «من أكثر الدول بوليسية في العالم الحر، إذ ثمة خمسون الف رجل أمن لسكان عددهم ستة ملايين».
ليست الرغبة في نقد منظور أبناء الباشوات هي ما دعا إلى كتابة كل ما سبق، فذلك موضوع لا يستحق أن يشغل كثيرين اليوم. وطبيعي أن يحن هؤلاء إلى زمن كانوا سادته.
أما أن يكون معظم كتاب ومروجي خرافة الماضي الجميل منحدرون من اصول اجتماعية متواضعة، وبعضهم نتاج الحراك الاجتماعي الذي ألقاهم في المدن ومكّنهم من التعلم، وكثير منهم من المناضلين السابقين الذين انخرطوا في حركات تقدمية لتغيير فساد الزمن الذي صار اليوم جميلاً في أعينهم، وذاقوا العسف على ايدي رجال ذلك الزمن، فمعنى ذلك أن مجتمعاتنا مصابة بمرض خطير اسمه انسداد أفق المستقبل.
في ذروة عملية الحراك الاجتماعي في الستينات خرج سيد قطب على أتباعه بمصطلح «جاهلية القرن العشرين» التي تحمل في ثناياها فكرة الزمن الدائري المتكرر: فساد اجتماعي اسمه الجاهلية، وعالم مثالي اسمه الإسلام. لا مستقبل آخر ولا حل آخر إلا العودة إلى الماضي إن رمنا الإصلاح والتقدم. وُصف سيد قطب بالرجعية. ولكن ماذا يفعل مهاجموه اليوم؟ إنهم يتشابهون في خوفهم من العالم المحيط بهم ومن التطور العاصف في كل مكان فيهربون إلى ماض خرافي هم أول من يعرف مساوئه، لكنهم يختلفون في تفصيل صغير: هل كان الزمن الجميل هو عصر الخلافة أو عصر بريجنيف أو عصر فاروق؟ أولا يفسر هذا التشابه بعضاً من الظواهر المضحكة المبكية التي تجابهنا كل يوم؟ اختزال السلفيين وكثير من «التقدميين» العولمةَ إلى مؤامرة غربية على الإسلام أو العرب. التصفيق لكل من يعادي الغرب من قتلة الأبرياء باسم مقاومة الاحتلال في العراق إلى أحمدي نجاد في إيران.
لم تنته فكرة وقيم التقدم بالطبع، لكن معظم اليسار المشرقي الراهن بات معادياً لها، أو قل إنه بات حركة رجعية. ولن تقوم ليسار جديد أو حركة تقدم جديدة قائمة إلا إذا انتقل من المهمة السهلة في تحديد ما يكره (وهو غالباً ما يكره ظواهر تقدمية) ووقوفه إلى جانب أعداء ما يكره، إلى المهمة الصعبة التي تمكنه من استعادة المبادرة التاريخية وتتمثل في رسم سيناريوات لما يريد وليحدد من ثم خصومها وحلفاءها. وعند ذاك فقط، يكون قد استعاد خصوبته وغادر سن اليأس. عند ذاك، نغادر وننتقل من زمن «مدن الملح» و «عمارة يعقوبيان» إلى زمن «أولاد حارتنا» التي تختتم بسيطرة عرفة (العلم) على فضاء المستقبل المفتوح. |