رسوم نهارية لمسافر نائم : على الارض هناك من يطير
في هذه اللحظة، لحظة القراءة، هناك ملايين المسافرين. الطائرات والقطارات والسفن والعربات تكتظ بالمسافرين. حقائب كثيرة وبطاقات وجوازات سفر ومطارت وموانئ وأسواق حرة. مع ذلك فإن المسافر يظل شخصاً استثنائياً، قرر الذهاب إلى جهة في عينها. هناك من ينتظره في تلك الجهة. ولكن هناك مسافرون لا أحد يقف في انتظارهم. إنهم المسافرون إلى مدينة أين. مسافرون ينظرون الى الطريق بعينَي من يعرف أن لا أحد سيكون في انتظاره. الطريق بالنسبة الى هذا النوع من المسافرين هي المعنى الذي يلخّص فكرة السفر. "مسافر أنا"، يقول المرء كما لو أنه يذهب إلى النوم.
لو كنا مسافرين
رأيت مسافرا. رأيت مسافرين. نساءً ورجالاً، فتياناً وفتياتً، طلبة مدارس وعمالاً. المحطة لا تفرغ. لا تكفّ المحطة عن إفراغ محتوياتها البشرية. ماكينة لإنتاج النظرات المتلفتة والحائرة والباحثة عن شيء ما، والأكفّ التي تومئ وتتحرك بانفعال، والظهور التي تنوء بثقل الحقائب، والأقدام القلقة التي لا تستقر على متر من الأرض. المشهد يتحرك ويتغير باستمرار. ما من صورة ثابتة. وحده يصعد المسافر إلى القطار وهو ينظر إلى حذاءيه. لا غبار ليحمله إلى ذلك اللامكان الذي ينتقل إليه لينقله بين امكنة، لن تشكل بالنسبة إليه إلا خلفيات لمشاعره المضطربة. يختار مقعده عبر نظرة شاردة ويتجه إليه. يقف بجواره ثم يلقي حقيبته على المقعد المجاور، إن كان ذلك المقعد شاغرا، أو يرفع حقيبته ليضعها على الرفّ المخصص للحقائب. يفضّل المسافر أن يجلس قرب النافذة إن وجد مكانا شاغرا هناك، وإن لم يجد فإنه يظل ينظر بحسرة إلى أقرب النوافذ إليه. لم تعد النوافذ تفتح في القطارات الحديثة. نوافذ واسعة يشعر المرء من خلالها أنه يجلس على جناح يحلّق به فوق الطبيعة. هناك أمامه (تحته) الأشجار، البيوت الريفية، السواقي، الجسور الخشبية، الأبقار، حقول الشعير، البلدات الصغيرة المبهمة، الطاحونات وشوارع صغيرة مبتلة، كلها تظهر وتختفي بسرعة 200 كيلومتر في الساعة. تحلّ صور محلّ صور سبقتها، فيما يأمل المسافر أن يرى صوراً تناسب خياله الذي صارت علبه تتكسر. حين يكون المرء مسافراً يتخذ هيئة اسطورية. بسببها يكون أثناء الوقت الذي يستغرقه سفره، نوعاً من يوليسيس، جلجامش، الاسكندر المقدوني. المشّاء الهائم والفاتح المشدود إلى بقعة ضوء غامضة. كما لو أنه وحده من يسافر، يرى باستغراب إلى من حوله. ما الذي تفعله هنا كائنات ضائعة، بوصلتها صامتة وعيونها ساكنة. عزلته من زجاج شفّاف، يرى من خلالها إلى تلك الكائنات وهي تصعد إلى القطار وتهبط منه في محطات الطريق باعتبارها لقى طريق موقتة. غرباء، حقائبهم محشوة بقصاصات ورق ونشارة خشب وقطع قماش ملونة. ألا يمكن أن يكون الغريب إلا هامشيا؟ تنبعث الأصوات من مكان خفي. أصوات الغرباء تلتصق بباطن الحلق وتحطم أرقاماً قياسية في قدرتها على أن تختزل. يقول لك جارك كلمة واحدة، بعدها إما يضحك وإما يتجهم. لا أخبار لدى المسافرين. الخبر الوحيد المشترك بينهم أنهم ينتقلون من مكان إلى مكان آخر. القطار فضاء تنعدم فيه الجاذبية. وقت مقتطع من الزمن غير أنه لا ينتمي إلى التاريخ. لا أحد، إلا في ما ندر، يودّ أن يُنظر إليه باعتباره مسافراً. السفر ليس مهنة. ماذا عن سائقي القطارات، قباطنة السفن والطائرات، البحارة والمضيفات ومفتشي التذاكر؟ مسافرون أبديون. لا تقع أقدامهم على الأرض حتى تلسعهم الرغبة في التحليق. هامشيون لا يصنعون أخباراً إلا إذا تبدّل مزاج القدر. حينها يكونون صنّاع مصائر. كأن يصطدم قطار بقطار آخر، تقع طائرة أو تفشل في الهبوط، تذهب سفينة إلى التيه وتتحطم. يأتي ذكر طاقم الطائرة المنكوبة عادةً في آخر الخبر. المسافرون أولاً، كما لو أن ذلك الطاقم لم يكن مسافراً.
الاعمى الذي يرسم
أندي دينزلير وهو رسام سويسري ولد عام 1965، يسافر بين الصور بسرعة القطار العادي (200 كيلومتر في الساعة) أو أكثر قليلا. يهرب من الرسم كما نعرفه، الرسم الذي يلقّن مخلوقاته درساً واقعيا في كل لحظة وله جمالي. هناك واقع مختلف يراه المسافر ويعيشه بكل حواسه. الصورة في ذلك الواقع لا تُرى من أجل أن تظل موجودة باعتبارها أيقونة ثابتة. تلك الصورة، يساهم النظر إليها في إرباكها واهتزازها والشك في كونها موجودة. العين التي ترى، هي التي تملي الواقع. سيقول المسافر: "هذا ما رأيته". ولن يكون ذلك واقعيا من وجهة نظر إنسان يضع قدميه على الأرض. من وراء زجاج نوافذ القطار هناك حواس مهذبة، تنفصل حساسيتها عن المنفعة، غير أنها تتقن المكر أيضا. حساسية يغلب عليها الشعر، قادرة على التخلي عن مسؤولية ما تؤكد حدوثه. ولكن هل هناك ما هو مؤكد؟ كثيرا ما يثني المرء على أوهامه. يرى دينزلير إلى وقائعه بطريقة مخاتلة: "كما لو أن تلك الوقائع لم تقع بعد أو أنها في طريقها إلى الوقوع أو أنها وقعت لكن ليس بالطريقة التي يمكن الاتفاق على وصفها. الصورة هنا لا تثبت شيئا ولا تنفيه". كما المسافر، يستند الرسام إلى خلل ضروري في الحواس، يبني من خلاله مواد صورته، وهي مواد مستعارة من عالم يزول في كل لحظة. فم الماضي مفتوح بشهية لكي يلتهم كل ما يمر بنا. صناديق الذاكرة مفتوحة. "الأمس كان غداً"، يعد الرسام نفسه بغد مختلف، غير أن رسومه تخدعه. تخدع الرسم أيضاً، وهو ما يرغب فيه. "هي ذي رسوم لا تقول الحقيقة مثلما نودّ أن تكون. فهي تخلص إلى خبرة شخصية. خبرة أن يكون المرء مسافرا". هنالك شيء ضروري في الرسم: أن يقنعنا بقوة جمال لم نره في ما نرى من حولنا. جمال يفاجئنا، لا لأننا كنا متخلفين عنه، فحسب، بل لأنه أيضا يكشف عن حالة العمى التي غالبا ما نصاب بها. هذا ما يفعله الفن الجاهز. يعيدنا الفن الجديد إلى حياتنا لنكتشف فيها مواقع جمال كانت متاحة بين أيدينا. لا يزال في إمكان الفن أن يُعلّم. دينزلير لا يراهن على خبرة رسم يعرفه. تقنياته تنحاز إلى عاطفة المسافر لا إلى بداهة الرسام. ما يقع فعلاً إنما يصدر عن حواس مضطربة. العين التي ترى هي مصدر سوء الفهم. ولكنه سوء فهم ينال بضرره الشكل والموضوع معاً. من أجل الالتحاق بركب الفنون الجديدة، لن يتأخر الرسامون عن الاعتراف بعجز الرسم. صورة المسافر التائه عن حواسه المؤكدة، هي مرآة تنعكس عليها صورة الرسام الذي اكتشف وهن لغته في لحظة تيه. يستسلم دينزلير لنوع غير تقليدي من العمى، ليبعد عنه الشبهات. يرى بعين المسافر ما لا يمكن أن يراه الرسام واقفاً وراء حامل لوحته. الغد الذي صار أمساً، هو بالنسبة الى دينزلير موعظة.
الوصول الى مدينة اين
أين تقع مدينة أين؟ وصل إليها سركون بولص من قبل وكان مسافراً أبدياً. ولد في كركوك ليموت في برلين، وما بين المدينتين هناك مدن كثيرة هي ذاتها (شبيهاتها) التي تمر بها القطارات كل لحظة، عاش فيها وتنقل في ما بينها قلقاً. يقف القطار فأقول لنفسي: "هي ذي مدينة أين"، غير أن حواسي المباشرة تكذب ظني. أعود إلى كرّاستي. أكتب: "رأيت مسافراً"، لن يكون ذلك المسافر أنا. أعد ذلك المسافر بمدينة أين، مرة أخرى. يتحرك القطار. تتحرك المشاهد خارج القطار، في الطبيعة، حول أفكارنا، بين أسنان عاطفتنا. ما من شيء يقع والحقيقة لا تستقر على موضع معين. سيكون عليَّ أن أنام، وهذا ما لا أقدر عليه في كل مرة أسافر فيها. سركون كان ينام أثناء سفره، ليحلم. تلك معجزته التي أنجز من خلالها وصوله إلى مدينة أين. "لن أصل". أرى إلى عدد من المسافرين وقد غادروا القطار فأقول: "هي كذبة أخرى. لم يصل أحد". سركون الآن ميت. قصائده لا تقول الشيء الكثير عن المسالك التي يجب أن نتبعها لنصل. فجأةً يصل المرء ليكون مواطناً. رأيت مسافراً وتأملته. جلس قرب النافذة بعدما وضع حقيبته على الرفّ ونام. ما أسعده. "سيصل حتماً"، قلت. ولكن أين؟ أغمض عيني على عينيه، ابعد كأسه عن فمي. لن نقول الشيء نفسه لو استيقظنا. نحن مختلفان. اما الرسم فسيعدنا بنهارات مختلفة. المسافر يفكر في الرسم لكي يمحو الصور. حين تنعدم الجاذبية لا يبقى أي أثر للصور. النغم الذي يصدر عن البيانو يسبقه ويبقى بعده. ما من شيء ثقيل. يستعد المسافر للمغادرة. نمت ذات مرة قبل أن تحلّق الطائرة وحلمت أن الطائرة قد حلّقت ورأيت في حلمي الغيوم تحتي وحين استيقظت رأيت المضيفة وهي تسألني عن نوع الشراب الذي أحب تناوله. نظرت من النافذة فرأيت الغيوم. كان المسافر يرى وهو نائم . |