ثمة قولة شهيرة مسندة الى اكبر مفكر قانوني في عصر الحداثة، مؤلف "روح الشرائع"، مفادها الاتي:
في الديكتاتورية كما في الديمقراطية الكل متساوون. في الدكتاتورية: الكل عبيد. في الديمقراطية الكل احرار. ولعل صاحب هذه القولة المدوية نسي ان يضيف حالنا في المنزلة بين المنزلتين، في مطهر الانتقال من الدكتاتورية الى الديمقراطية. فالقديم لا يزول بغتة، والجديد لا يظهر بغتة. وباختلاط الاشياء-امتزاج الماضي بالاتي، تتجلى لنا لوحة معقدة، فيها فرد واحد حر في القرار، وقلة حرة في التحكم، وكثرة حرة بالتقاتل او الشكوى، او كليهما. رحلة الانتقال من الاستبداد الى نقيضه، وعرة المسالك بلا ريب. والاجتماع البشري، حائر، منذ ثلاثة قرون في حل هذه المعضلة.
وكان السؤال الارأس (قبل ثلاثة قرون) هو: كيف السبيل الى الحد من سلطان العاهل، من جبروت الاوتوقراط (حكم الفرد الواحد). ابتكر الانكليز (لأنفسهم لا لأجلنا) بدعة أول فصل للسلطات، فصار العاهل منوطا بوضع القوانين (سلطة التشريع) وتنفيذها (سلطة التنفيذ)، ولكنه حرم من سلطة القضاء. فكان هذا أول شرخ في معمار السلطة الكلية للفرد. وتطلب هذا الشرخ كيما يترسخ حربا اهلية دامية. وفي مرحلة ثانية، حرم العاهل من سلطة التشريع، واقتصر أمره على سلطة التنفيذ. فكان ذلك ثاني شرخ في بنيان السلطة الكلية لفرد أوحد. ولم يتحقق ذلك الا بعد ثورة ودماء، لكنه أثمر لنا تقسيم السلطات الذي تحتفي به الفلسفة السياسية قاعدة مثلى للنظام الحديث.
ولم تنته رحلة تقسيم السلكات عند هذا الحد. فسلطة التشريع، مثلا، قسمت بين مجلسين: مجلس الاعيان ومجلس النواب في العراق الملكي، او مجلس الشيوخ ومجلس النواب في الولايات المتحدة. كما ان سلطة التنفيذ، قسمت هي الاخرى بين مؤسسات تنفيذية عدة (مجلس الوزراء، مجلس الامن القومي، الخ).. وبالمثل فان سلطة القضاء قسمت الى محاكم ومحاكم استئناف، فضلا عن وجود محكمة دستورية عليا للبت بدستورية القوانين (لجهة مجلس النواب) او دستورية ممارسات السلطة التنفيذية، وهلمجرا.
الحضارة الحديثة، اذنن انشغلتن منذ ثلاثة قرون، وحتى اللحظة، في حل مشكلة تاسيس الحرية، لا في فضاء الفلسفة المجرد، بل في ارض الواقع السياسي- الاجتماعي الوعرة، التي تسير بعض المجتمعات فيها حافية القدمين، لتطأ بجلدها العاري الاحجار الناتئة، والاشواك والعواسج الجارحة. ووجدت الحل في تقسيم السلطات، وتقسيمها، ثم تقسيمها.
المعركة الدائرة في العراق هي في الجوهر صراع من اجل تقسيم السلطات، وهو على خلاف ما دار في ماضي بلدان الحداثة، ليس صراعا بين عاهل ونبلاء وعوام مدن، وفلاحي ارياف، بل صراع يلبس لبوس الطوائف، او لبوس الاثنيات، رغم ان هذه الاخيرات تشهد انقسامات داخلية ما يضفي على الصراع طابع نزاع سياسي-مؤسساتي، في جانب منه على الاقلن دون ان ينضو عنه المسحة الطائفية او الاثنية كليا. لكن المآل واحد: كل تقسيم للسلطات، مهما كان شكله، هو ترجمة لانقسام مجتمعي مهما كان شكله هو الاخر. ورغم ان لهذا الانقسام صورته السالبة، واثره املدمر، فان له ايضا وجهه الايجابي واثره المعمر: منع تركز السلطة.
ونجد هذه الفكرة جلية عند بعض الزعماء الكورد، وبعض الزعامات الاسلامية الشيعية، والزعامات الاسلامية السنية، والزعامات العلمانية على اختلافها. واذا كانت هذه النزعة الرامية للحد من سلطة فرد واحد، في مظهرها الحالي، على حزب الدعوة ورئيس الوزراء المرشح والقائم: السيد نوري المالكي، فانها في جوهرها، موجهة الى المنصب الرئاسي الاول، ايا كان او سيكون شاغله. فالحد من الصلاحيات شبه المطلقة لرئاسة الوزراء سيقوم على أساس دستوري، اي يفرض على المنصب لا الشخص المحدد. لقد كانت للمالكي انجازات هامة في حملة فرض القانون، التي ادارها خلال اخر عامين من رئاسته، بصورة متوازنة، وفعالة، منحته رأسمالا سياسيا كبيرا، تجلى في الثقة التي نالها هو وحزبه في انتخابات المحافظات، 2009، والانتخابات البرلمانية 2010. ولكن كانت للمالكي ايضا اخفاقات او تجاوزات دستورية واضحة، في استخدام سلطة الدولة للتلاعب بالمؤسسات المستقلة، او انشاء هيئات غير مجازة من البرلمان، او استخدام المال العام لصالح حزبه بأسلوب يعيد الى الاذهان ذكريات حكم الفرد. وهو أمر يجمع عليه خصومه القدامى والجدد، بمن فيهم حلفاء الامس، ويثيرون بصدده اسئلة كاوية من قبيل: اذا كان المالكي قد استطاع ان يفلت من زمام اية رقابة رغم عدم تمتعه بأي نفوذ يذكر في البرلمان (15 مقعدا كما يقال)، ورغم وجود مجلس رئاسي مزود بصلاحية النقض (الفيتو)، فكيف سيخضع الآن لأية رقابة وهو يتمتع بـ 89 مقعدا في البرلمان، ويواجه رئيس جمهورية لا يتمتع بأي صلاحية نقض (فيتو)، بل مجرد وجود مراسيمي، ان صح القول.
إن عملية صنع السياسة (التوجهات العامة) وصنع القرار (التنفيذ المجرد لهذه السياسة) عملية بالغة التعقيد اصلا في دولة ديمقراطية عريقة ذات مجتمعات متجانسة ثقافيا، او مجتمعات لا يلعب فيها الانشطار الثقافي (الاثني والديني) اي دور، فكيف الحال مع صنع السياسة وصنع القرار في دولة بلا تاريخ ديمقراطي مديد، ولا مجتمع متجانس، ولا ثقافة منفتحة تتقبل هذا اللاتجانس.
هذا السؤال ممض يتوجب على القادة العراقيين المجتمعين منذ ايام في اربيل ان يفكروا فيه مليا وجديا، بمن في ذلك رئيس الوزراء المرشح السيد نوري المالكي. فالاغلبية اليوم، قد تصير أقلية غدا. والحاكم غير المقيد اليوم قد يصير محكوما مقيدا غدا.
هناك ترتيبات عديدة لتقسيم السلطات التنفيذية منها مثلا: انتخاب رئيس (مع نائب رئيس ان أمكن) ومنحه صلاحية النقض (الفيتو)، ولكن ذلك يتطلب تعديلا دستوريا. فالدستور الحالي ينهي الفيتو الرئاسية بانتهاء المجلس الرئاسي الحالي. والتعديل جد بسيط: تنقل صلاحيات المجلس الرئاسي الى الرئيس (ونائبه). كما يمكن ان يضاف الى التدابير فكرة انشاء حكومة ائتلافية موسعة، على ان يصار الى تشكيل مجلس وزاري مصغر داخل الوزارة الأوسع يمثل الكتل الارأس، ليكون بمثابة مطبخ سياسي لرسم السياسة وصنع القرار، ويمكن تنظيم ذلك باتفاق سياسي بين الكتل، او بنص الدستور. هناك ايضا "مجلس الاتحاد"، وهو بمثابة "مجلس شيوخ" عراقي، ينص عليه الدستور، ولا يذكره احد بخير او شر، رغم اهميته لتمتين موقع السلطة التشريعية. اخيرا ثمة البرلمان. لقد كان البرلمان السابق رثا بأي معيار سياسي قسناه. واحدة من رثاثاته اللامبالاة التامة، غياب قادة الكتل، سفر النواب شبه الدائم للسياحة والاستجمام. واذا كان زعماء الكتل راغبين في تشديد الرقابة على السلطة التنفيذية فالأولى ان ينظموا حالهم في البرلمان، بدل الجأر بالشكاوى. لعل في ذلك كله ما يعجل في الانتقال من "الكل عبيد" الى "الكل احرار". |