في تلك الظهيرة، المرمية في خزانة الذاكرة قبل ثلاث سنوات، كان الشاعر صباح العزاوي يسير بجسده الرخو حيث المقهى في باب المعظم، يحمل بيديه رواية " صورة يوسف " للروائي نجم والي، وقد توسخ غلافها بسبب الحرارة والعرق، وربما سقطت الرواية من يد صباح اكثر من مرة، فجسده كان يمتص خمرة ارادها ان تكون مستمرة في ذلك النهار. القى التحية علينا بصوت مبحوح، وجلس منفردا، وراحت عيناه، تتابعان مروحة المقهى الخارجية، وهي تدور بصعوبة، لان ريشاتها الثلاث كانت معوجة، والتي جعلت العزاوي يطلق ابتسامة تجاهها، ويتمتم بمفردات لم يصل الينا معناها. لكننا حدسنا، او هذا ما استنتجناه، ان التمتمة، كانت رثاء لحالة عراقية مستمرة.
حين يحمل صباح كتبا بيده، فهذا يعني انه ثمل بالكامل. صورة تؤكدها كمية المال في جيبه، فخلاف ذلك، نشاهده بلا كتب، وقريبا من صحبتنا وحديثنا المجتر يوميا عن احوال البلاد. تلك الظهيرة التموزية لم يستكن صباح لتخوت المقهى، ولا لمناقشاتنا، ولم تغره نكتة جنسية ليلقيها على مسامعنا. بل كان ينهض كل عشر دقائق تقريبا، ويذهب حيث بناية المرافق الصحية العامة، ليشرب جرعه من سائله الشفاف خلفها، وكانت رواية " صورة يوسف " كل فترة تستقر في يدي، او يد احد الاصدقاء. نقلبها سريعا، نقرأ سردا او حوارا، ليعود العزاوي مبتسما او متجهما، وحسب ما شاهده في وجوه السابلة اثناء تلك المسافة التي تقدر بخمسين مترا، ليأخذ الرواية منا، ويطرحها على التخت بجانبه.
ظهيرة قائضة، ولهيب عراقي بامتياز، واجساد تختبئ في ظل مقهى، تخثرت فيه ملامحنا وثرثراتنا، وانتشرت في فضائه رائحة خمرة العزاوي، الذي كان يضحك لوحده، وحين يلتقي بصرنا ببصره، يعتقل البسمة، ويستبدلها بتقطيبة حادة تليق بصوت مولدة المقهى الصغيرة. ننده عليه ليجلس معنا، لكنه يرفض، ويضع اصبعه الاسمر على شفتيه، كانه يريد منا الصمت لاننا في نهار اشبه بالموقد.
كان صباح غير معني بالسجال السياسي الذي ننغمر فيه، وهو محق، فما معنى ان ندور حول فكرة او توقعات تخص سياسيينا، والحدث يصنع في الخارج، او يصنع داخل الطائفة والتاريخ؟ كل ذلك لخصه صباح لنا ببصقة على الارض، وببحة اقتربت منا، وبمشاهدة غلاف رواية " صورة يوسف " التي استقرت بيدي للمرة الثالثة، وغياب خلف بناية المرافق الصحية النتنة.
يوسف، هو العراقي في كل مكان، ذلك الانسان الموجوع، والباحث عن السر العظيم في ملكوت هذه الارض، التي دأبت عبر تاريخها ان تعاقب ابناءها دائما، ولاسباب مجهولة، او تافهة. نجم والي اوصل لنا حكايته، وقرأناها، ووكذلك العزاوي وحكايته المنفلتة عن اي اطار، زودتنا بانطباع ان قطار برلين – هامبورغ ليس وحده من يطلق الافكار لكتابة نص جيد، وانما صيف بغداد الرهيب، ومقاهييه الخارجية، يمكن لهما ان يزرعا صورة انسان اكلت الحروب عالمه، ولم يجد الا بناية الفضلات العامة كحانة ينطلق منها لاكتشاف المدينة...
مضت فترة جرعة الخمر ولم يات العزاوي. نصف ساعة، والاصدقاء ذهبوا. طلبت استكان شاي جديد، واصابعي تقلب صفحات الرواية. تذكرت نجم والي وهو يعيش في المانيا، وتخيلت المكان الذي كتبت فيه الرواية. قد يكون في احد المقاهي الهادئة، واللابتوب على الطاولة، وقربه فنجان القهوة، وصورة صباح بجسده المنهك، الذي يقسم نهاره العراقي ما بين سطور " صورة يوسف " وما بين قنينة الجن، فعرفت كمية الالم الحقيقية التي نحملها.
لم يعد العزاوي. ربما شاهد امرأة جميلة مرقت من امامه فتبعها، متيقنا انها خير زاد لاحلام يقظته، ونسي الرواية ومؤلفها، ليتركني استمتع بها طيلة الطريق المؤدي لكركوك، فالرحلة لمدينة النار تستوجب رواية كهذه، ولا اعلم، ان الايام التي تلي تلك الظهيرة، ستمنعني من ارجاع هذه الرواية إلى صاحبها. الرواية في رفوف مكتبتي الان، وكلما شاهدتها تظهر قسمات العزاوي المحتقنة بالف سؤال، وتتلاشى صورة نجم والي تماما، كأن صباح هو مؤلفها الحقيقي. |