كنا صغارا نتجمع حول مذياع بعض الجدات المسنات في العائلة ايام حرب الثمانينات، لا لننصت الى شيء يخص الاطفال او اغنية نتسابق على فهم معانيها مع الكبار، بل كنا نحاول ان نصغي لتحذيرات بشأن قصف المدن.
لا ادري كم منكم يعلم ان ايران كانت وفي صورة تخلط السخرية بالموت الاسود، تقوم بتحذيرنا احيانا، نحن ابناء المدن الحدودية، قبل ان تطلق مدفعيتها النار على بيوتنا. كان الآلاف يتحلقون حول المذياع عند نشرة اخبار الظهيرة التي تبثها اذاعة عربية من ايران، وخاصة ايام العمليات العسكرية الواسعة على الحدود. يجلس الناس كي يسمعوا نداء يقول: نحذر ابناء المدينة الكذائية ان الضرورات ستضطرنا الى قصفكم يوم كذا، وسيستمر القصف من ساعة كذا الى كذا.
طبعا كان التحذير مفيدا للعوائل كي تمضي ليلة التحذير خارج المدينة، وتعود صباحا حين ينتهي القصف. لكن هذا الجدول صار يتغير بسبب تطورات الحرب ولم تعد ايران تحذر احدا، كما ان بغداد بدأت بالتشويش على تردد المحطة، فصرنا نفر من القصف شهورا لا اياما.
ورغم تلك الارباكات وحمام الدم، الا ان العراق كان يخوض حربا مع دولة، يمكن الاصغاء لمذياعها، ويمكن التفاوض معها، او استخدام وسائل ضغط مهولة لإجبارها على وقف العنف و"تجرع سم" نهاية الحرب.
الغاية من هذا الاستهلال هو حديث خبير ومسؤول أمني عن طبيعة العمليات الشرسة التي ينفذها تنظيم القاعدة اليوم. يقول ان اجهزة امننا تتعامل مع "اشباح"، وهؤلاء هم "اصعب خصم عرفه التاريخ". الشبح يقرر ان يظهر متى شاء برداء ديناميتي ويفجر اي هدف. المسؤول يقول: لم نتعلم بعد كيف نواجه "الاشباح".
خبراؤنا يقولون ان عشرة ملايين جندي لن يكونوا قادرين على ردع تنظيم شبحي مثل الذي يصول في شوارعنا. كلهم يرددون ان الجهد الاستخباري امر حاسم، وكلهم يعرفون اننا لا نمتلك اداء استخباريا كافيا رغم ان لدينا 14 جهاز معلومات امني.
كل هذه الاجهزة لا يمكنها الامساك بالشبح وهو يتلذذ بترويعنا، بل يتفنن. يتنقل برشاقة من دور العبادة الى المقاهي، ونحن "لدينا نقص مريع في المعلومات".
كانت جداتنا يطلقن تحذيرا بشأن ظهور مفاجئ للعفاريت والاشباح، وتبين لنا لاحقا، ان تلك المخلوقات جزء من الاساطير. لكننا اليوم امام حقيقة تتيحها تقنيات القتال الحديثة وفنون صناعة الديناميت وأساليب الاختراق، حيث بات يمكن ظهور العفاريت، ويمكن ان نردد بأن من المستحيل السيطرة عليها.
بعض البلدان نجحت في الهيمنة على هذه الاشياء الشبحية. لا ادري هل سألنا مصر والخليج وايران واسبانيا، كيف امكنهم "ترويض الاشباح"؟ ذلك أنهم نجحوا على الاقل في تطويق خطرها، ولم تنفجر عشر مناطق لديهم لحظة واحدة.
يقال ان بعض البلدان الثرية "تدفع" للقاعدة تجنبا لشرها. هل سنضطر يوما ان ندفع بعض المليارات الى السيد بن لادن كي يتوقف؟ لا ادري كيف تتفاوض هذه الدول مع "الاشباح" وكيف تتساوم على الاسعار. لكنني اعرف ان حكومتنا لا يمكن ان "تدبر" هذا الخيار حتى لو اقتنعوا بجدواه.
اما البلدان الاخرى التي تعرف ماذا تعني "هيبة الدولة" فإنها تقوم بجمع الخبرات المحلية والدولية لإنشاء جهاز استخبارات مهني، يعرف كيف تفكر تلك "الاشباح". وهذه الحكاية لا تزال صعبة علينا ايضا، لأن الخبرة غير محترمة من قبل احزابنا، بل ما يهمها هو حصة الحزب في هذا الجهاز وتلك الوزارة، ما ينتهي دوما بوضع عديمي الخبرة، وهؤلاء يخربون حتى عمل خبرائنا القليلين باجتهاداتهم المسيسة التي ترسمها خريطة الصراع الداخلي. اذن لا امل بتكامل استخباراتي حاليا.
اما الخيار الثالث فهو ان نظل نموت كل يوم. وهذا خيار تعلمناه منذ زمن، ونحن نجلس قرب مذياع جدتي لننتظر متى سيبدأ القصف المهيب. اين هي ضربتكم التالية يا جماعة، اعترف لكم، دوختمونا. |