أوقفت الصحافة العراقية احتفالها بسعدي بعد واقعة تفجير المرقدين في سامراء، عام 2006، وكانت تحتفي به شاعرا كبيرا ومناضلا شيوعيا، تترقب عودته وتتسابق سعيا بنقل أشعاره وأخباره. ترى هل كان سعدي يقامر باسمه وتأريخه ومجده الشعري، وكيف نفهم امتداحه "المقاومة" أي مقاومة؟ هل تعجل في بعض ما كتب، وهل كان السياسي أفصح من الشاعر فيه، وسط لجة بحر ألم العراقيين، وهل يصح ما يتقول عليه بأنه (طائفي)، وإذا صحت فرضية أن بعض أصدقائه اختلفوا معه، فكتبوا عنه أو كتب عنهم، فما شأننا نحن الذين نحبه شاعرا ويحترمنا مثقفو العربية لأننا من بلده؟

وعلى الرغم من تباين الآراء بشأنه، فإن سعدي أكبر شاعر عربي حي، باعترافنا نحن المثقفين العراقيين والعرب، بل هو معروف على نطاق واسع لدى كتاب وقراء الثقافة بالانجليزية والفرنسية، وهو لا يحتاج لمن يمتدحه أو يدافع عنه، ولن أقوم هنا أبدا مقام المحامي، لأني سأحاول إن استطعت ترك قضية الاختلاف الرئيسية عليه (الموقف السياسي) لمن يريد، فأنا أتحدث عن سعدي الشاعر الذي غادر العراق قبل نحو من 40 سنة لكنه لم يغادر المكان (بغداد، البصرة، أبو الخصيب) في شعره رغم تشرده في البلدان وتنقله في الأمكنة، وإني لأذكر أنه قال لي مرة: أتعلم يا طالب إني أفكر جادا بالعودة للبصرة.

ولكي لا يُؤخذ عليَّ موقفه من قضية الاحتلال (التغيير) و(المقاومة)، لعلمي بأن البعض لا يحتمل الفصل بين الشاعر والسياسي في الإنسان، أقول: كلنا يملك موقفا في ذلك، لكننا نجمع على أن نهاية النظام السابق كانت حتمية إنسانية ومطلبا شعبيا، أما الكيفية والنتائج فهي محط اختلافنا جميعا، لأن ما حصل بعد ذلك كان فجائعيا دمويا.

ولن أتلفت لما كُتب عنه في الصحف مدحا وذمَّا، آيتي في ذلك أنْ لا سلطان لنا على آراء وأهواء الناس، لكني أرى أن سعدي مثله مثل المفجوع بمقتل أبيه في غابة مظلمة، وقد كثُرَ من حوله وصّافُو الواقعة، وأنا على يقين بأن ما حدث ويحدث داخل العراق لم يُنقل بأمانة لا لسعدي ولا لغيره، من الذين لم يدخلوا العراق بعد 2003، وستظل الحياة بتقلباتها هنا قضية تخدع كل من لم يحترق بنارها، وقد أوهمت الصورة المحبين من الكهنة والمريدين الذين تمردوا على نظام القبيلة، حتى خرج شاعرهم فارسا مقاتلا عن نسائها الجميلات، مدافعا عن كرامة أهليه التي تعرضت للهتك على يد الغزاة.

لكنَّ ما يشمئز منه سعدي ويسجله نقيصة في أداء الحكومات العراقية على تعاقبها، نشمئز منه نحن، بكل تأكيد ونسجله نقيصة وانحطاطا. مَنْ منّا تملّكه الرضا عن أداء مسؤول عراقي؟ من منا يعتقد بأن القادم من الأيام سيكون أجمل، وهذا حالنا في الديمقراطية الجديدة بعد مضي أكثر من 200 يوم على انتخابنا لحكومتنا الوطنية! ترى كيف حال ثقافتنا اليوم من وجهة نظرنا أبناء الداخل العراقي؟ أعطني مثقفا عراقيا واحدا لا يقول بأن ما تتعرض له ثقافتنا لهو الامتهان والاحتقار بعينه، كي أدلك على الآلاف من العراقيين القابلين بما يجري على ساحتنا السياسية والأمنية والاقتصادية.

وبعد، لا أعتقد بان سعدي الشاعر والسياسي، لم يفرح بسقوط صدام حسين، لأن الحيف وقع عليه قبل أن يُولد بعضُنا، ويكفيه تأريخه، أنه العضو في الحزب الشيوعي، بل يكفيه تشرده في البلدان منذ الستينات، أما أن نتحدث عن موقفه من النظام الجديد والموت الجديد والدم الجديد، والجهل والفساد... فهذا ما لا يختلف عليه اثنان في العراق. لقد خسرنا الرهان جميعا، وهذا أمر وقع خارج إرادتنا لأن أمريكا هي من أسقط صدام لا نحن. ترى هل فقدنا الفردوس بسقوط النظام؟ قطعا لا. إذن ما الذي خسره سعدي يوسف وما الذي ربحناه نحن؟

بمراجعة بسيطة نرى أن مجموعة قليلة من الأدباء والمثقفين العراقيين هم من اختلف معه، وبظني أن الخلاف هذا فيه الكثير من ثقافة الغربة التي منها الحسد وضياع الفرص، وأتمنى أن أكون مخطئا بقولي ان الامر في بعض مفاصله (ظنينة طائفية) لدى غير واحد من رفاقه، أماتتها الوطنية طويلا وأحيتها الأحداث أخيرا. لا أتجنى على أحد حين أقول أن حضور سعدي الكبير جلب له البغضاء من بعض الشعراء، حتى جرت بينه وبينهم المكاتبات في الصحف، وقد كبرت لدى البعض الخلافات تلك فتحولت إلى شتائم واتهامات ومزايدات، فحمل البعض معوله انتقاصا وهدما، وجرى الذي جرى منه ومنهم.

إذن ما يشغلنا في قضية سعدي هو الثقافي بكل تأكيد، لكنَّ ما تصادى من مواقفه السياسية وخشيتنا من ألسن خصومه (المقربين)، جعلنا نصدق بأن تناول سعدي في الصحافة، والقبول به مواطنا شاعرا، هو "خيانة عظمى"، ناسين أن المئات من الشعراء والفنانين والكتاب ومن أجيالنا المختلفة يراسلونه يوميا، يسألون عن صحته ومنجزه، حبا وعتبا وتبادلا بالرأي وهو يرد على الجميع. ترى هل عزلنا سعدي عن ثقافتنا بفعل خارجي؟ أم أن السياسي فينا تغلب على الثقافي فصمتنا؟

من النقيصة حقا، أن تغظ صحافتنا طرفها عن سعدي، وتغفل منجز واحد من أكبر الشعراء في العالم، إنه العربي والمرشح الأوفر حظا لنوبل اليوم، وسواء اتفقنا معه أو اختلفنا عليه فهو الأكبر بيننا، ولنتذكر بأن المصريين تغاضوا عن دعوة نجيب محفوظ الدائمة إلى التطبيع مع اسرائيل، (وهل بعدها جريمة بنظر البعض) وها هم يقدمونه في صحافتهم على طبق من ذهب خالص. ولنتذكر أيضا أن قامة الجواهري العظيم، لم تثلمها قصائده في امتداح السلاطين والرؤساء، ولنتذكر أن السيّاب الكبير ظل كبيرا ننتسب لنحوله ومرضه وشعره وتقلبه في السياسة والحياة، وهو القائل: الشعب ثار ومات قاسم أيّ بشرى بالشفاء. فتعالوا إلى كلمة سواء ندافع فيها عن ثقافتنا ورموزنا، ونعيد النظر بتأريخنا بوعينا أمس، قبل أسبوع، سنة، بعيدا عن ضعفنا، بعيدا عن سلطة الأصدقاء الخصوم، لأنه سعدي يوسف.