في مجموعته القصصية (فيما تبقى) التي صدرت مؤخرًا عن دار فيشون ميديا بستوكهولم، يريد القاص فرات المحسن للحرب أن تكون عمياء، أن لا ترى الجنود فتفترسهم وتمضغ حياتهم وآمالهم ومستقبلهم وتُحيلهم إلى أوصال وشظايا. الصورة مضنية وأليمة، صورة الحرب التي كانت ومازالت تطلّ علينا وتقرأ على وجوهنا ما حفرته منذ سنوات طويلة امتدت لثلاثة أجيال. هذا بالنسبة لمن كان يراها ويسمع تفاصيلها وجنونها المنفلت عن بعد، موصولة بأخبارها وأحداثها وبياناتها كلّ يوم وساعة. إذن ما أشقى من يرى الحرب، وما أشقى من تراه الحرب. لذلك كانت الزفرة الأولى التي أطلقها القاص المحسن محمّلةً بالسؤال: مَن يسمل عين الحرب؟ سؤال المحسن تحول حينها إلى دعاء حار يصعد إلى السماء آلاف المرّات كلّ ساعة: اللهم أعمِ العيون عن فلذات القلوب؟ ومرّة أخرى يسأل ذات السؤال الذي حيّر العراقيين والعالم: لِمَ بدأت الحرب وعلام انتهت؟ ولعل عَمى الحرب هو بداية تخبطها ثم جنونها، ليأتي عمى البصيرة بعد ذلك لينتشر في كلّ مفاصلها وعقول من أشعلها ومن كان يُدير نشاطها داخل أو خارج أتونها، ماكينةً ولغةً وأدبًا، لم نشهد في تاريخ الحروب نظيرًا لهذا النشاط الدموي في وحشيته وصفاقته وكذبه وابتزازه، الأمر الذي كان يحثّ مشعليها ويدفعهم لإيصالها إلى حدائق البيوت الصغيرة وساحات المدارس وصروح المدن وعقول الأطفال ومهودهم. وهذا ما حصل بالأمس ويحصل اليوم بالفعل.
العودة إلى تقليب الجمر
أحداث الحرب التقليدية التي اندلعت بين العراق وإيران وسنواتها الثمان، بتفاصيلها الدموية وبياناتها الزاعقة المهددة، بأناشيدها المرعبة، بقصائدها المخنثة وغزلها الذكوري المضاد للطبيعة، وبمُشعلها وقادتها ورجالها وعسكرييها الكبار، بجبهاتها وأماكن اشتداد أوارها، في الفاو، سربيل زهاب، جزر مجنون، نهر جاسم وغيرها، وبقتلاها وجرحاها وأسراها والمفقودين، لا تحتاج إلى ما ينشط ذكراها، فهي محفورة في ذاكرة كلّ عراقي، وستُروى قصصها وحكاياتها لمئات من السنين القادمة، كما تُروى سِيَّر الحروب والمجاعات والثورات والكوارث السابقة، كما تُروى الجرائم التاريخية وتتحول فيما بعد إلى بطولات. رغم ذلك يعود فرات المحسن ليقلّب بعصاه ذلك الجمر النائم تحت رماد أكثر من كارثة أصابتنا بعد تلك الحرب، لنعود ونمسك بجراح وحرائق كناّ اكتوينا بها حينذاك، وكأنها تعود اليوم من جديد، ليحول دون أن تتحوّل هذه الجريمة الشاملة إلى بطولة خارقة اجترحها قادة مزيّفون وكذابو زفّة حقيقيون. أغلب قصص مجموعة (فيما تبقّى) تتحدّث عن هذه الحرب إلا بعضها فهي تتحدّث عما تبعها من حروب أخرى وعمليات نفي بعد جريمة غزو دولة الكويت، أو كنتيجة لذلك الغزو. في القصة الأولى في المجموعة (يوم آخر في حفر الباطن)، وهي قصة طويلة نسبيًا، مثلها مثل جميع قصص المجموعة الأخرى، يصف القاص موقعًا عسكريًا في منطقة حفر الباطن الحدودية، يصف الحياة أو اللا حياة في تلك المفازة المفزعة التي لا تنتظر سوى الموت. يصف ذلك الموقع بالتفصيل وبدقّة متناهية، ينقل القارئ خلال وصفه من قلب ذلك الموقع الصحراوي الداكن عبر خنادقه الميسمية إلى محيطه الذي يتاخم عالمًا تدور فيه ألغاز الموت مطلقة صيئًا يتخطّى الحواس ليطرق سمع الروح مباشرة، لأنه حديث يخصّ الروح وحدها ويطلبها بالذات. يجرى هذا الوصف في حديث داخلي لأحد جنود ذلك الموقع، لكنه سرعان ما يهرب، بتواطؤٍ من القاص، إلى مكان آخر بعيدًا على مفازة الوحشة والخوف تلك، إلى مكان غالبًا ما يكون مدينة الجندي أو قريته في مراحل طفولته، ليحكي أحدثًا ويوميات مريرة أقل في قسوتها من الحرب، لكنها ليست وردية. وكأنه يقول إن بطله يختار في سياحته واقعًا أقلّ في جحيمه ممّا يعاني منه في حفر الباطن، ولكنه حين يهرب من الأسوأ لا يجد في عمره وتلافيف حياته السابقة إلا السيئ، وليس ثمّة واحة يلجأ إليها بعد أن تحطّم الخيال، لأنه لم يُسقَ يومًا بماء أو يُدفأ بخصب حتى في زمن السلم واستراحة الحروب وإجازاتها القصيرة. أما الناجون من الحرب في قصص أخرى، فلا يأخذون معهم إلى مدنهم وبيوتهم أو بلد أسرهم أو بلاد منفاهم إلا الحرب جرحًا أو عطبًا أو عاهة نفسيه مستديمة. لكن وفي الحالتين فأن المصير المشترك لهؤلاء الأبطال المنكسرين هو الموت قتلاً أو ثأرًا أو انتحارًا. ولا مجال هنا من التخفيف من لغة القراءة لمجموعة فرات المحسن أو تلطيفها، لأنه لم يترك للقارئ أو الناقد منفذًا للترويح والتملص من الدكنة التي تغلّف قصصه، ولا فسحة يبحث فيها عن ترف ما، فلا ترف في إحدى عشرة قصة تضمها دفّتا المجموعة.
فضح الحرب وتقليب الأكاذيب
كبضاعة فاسدة يكشف فرات المحسن عن سلال الحرب وبيادر الركام والخراب التي خلفتها، يكشف عن الأقوال والأفعال، عما كانت تطلقه وسائل الإعلام في وصفها فردوس الحرب وحدائق الجبهات ومنتجعاتها وتسابق الشباب إليها وحثّ وتشجيع الأمهات والزوجات والحبيبات لدفعهم إليها، وكأنها رحلات شهر عسل، من خلال الكشف عما كان يجري في الواقع ويعتمل في نفوس الناس من غضب وألم وسخرية مرّة مما كان يجري ويعيشه الجنود يوميًا هناك حيث الجحيم، فيقول في قصته (مساءات الوحشة): "علينا أن نكتم شكوانا وضجرنا، وأن نعلّق أحلامنا وطموحاتنا وشبابنا على مشانق الدفاع عن الوطن". ويواصل كشف الخديعة: "إن من أشدّ الأكاذيب رخصًا تصنّع البطولة في أرض مجهولة وضد سلاح أعمى". الأمر الذي دفع أصحاب الحرب لأن يصدقوا موجات كذبهم وخداعهم، ويستمروا في هذه اللعبة حدّ السخرية من عقول الآخرين، بل وكأن الآخرين بدون عقول، وصولاً إلى مهزلة صائد الطائرات ببندقية صيد عتيقة، الأمر الذي جعل ذلك الصائد المسكين مضغة في أفواه الآخرين، وهم يرددون بسخرية وتشفّ كلّ صباح: هل ينوي فلان استخدام بندقيته والرمي هذا اليوم؟ فيما كان أولئك الساخرون يتحفظون محاذرين من الاقتراب من سيرة مجرمي الحرب الحقيقيين وحقيقة المستفيدين منها. بعد ذلك يخرج القاص من أجواء الحرب في استراحة مريرة، ليدخل مدن وقرى أولئك المعلقة مصائرهم وأحلامهم على مشانق الدفاع عن الوطن، فيتحدّث عن حياتهم اليومية قبل الحرب، وأحيانًا بمسافة تزيد على خمسين عامًا، كما في قصته (مساءات الوحشة) الذي يعيد القارئ فيها إلى تاريخ عائلة القاصدي النازحة من بعقوبة إلى بغداد ويسرد حياتها في مدينة بغداد، منذ بداية ضجيج الباعة الذين يبدأ عملهم في ساعات الفجر الأولى، ذاكرًا تفاصيل حياة المدينة والمجتمع البغدادي في فرجة قصيرة ومتعة ناقصة، ليكشف بعد ذلك أن الجندي العائد معطوبًا من الحرب قد كره ما كان يألفه في حياته الأولى، وأنه صار مسكونًا بخوف مزمن جلبه معه من الجبهات.
القصص تتأرجح أسفل رأس بندول
كلّ قصص مجموعة (فيما تبقى) تتأرجح بين طرفي قوس بندول، محكومة بخطّ واحد رواحًا ومجيئًا بين الحرب والحياة في المدينة، بين الحرب والأسر، بين الحرب والمنفى، بين الحرب والعار، بين الحرب والمصحّة النفسية، وفي قصة واحدة (العودة إلى الوادي المقدّس) يتحرك البندول فيها بين الحرب والحرب، لأنها تقص حياة جندي وُلد وعاش وقاتل في مدينته الفاو. ليس الطريق بين طرفي القوس فاتنًا وممتعًا لا بالنسبة للقاص وأبطاله ولا للمتلقّي الباحث عن متعة أو معرفة، فالحرب قد عرّفت بنفسها قبل أن يعرّفنا بها قالِب الجمر فرات المحسن. أما المتعة فهي خادعة مخاتلة، وسيكتشف القارئ هذه الحقيقة في بداية طريقه إليها. الحرب وتفاصيلها والحوار الفكري الذي يعيش داخل كلّ شخصيات المجموعة هي الحقيقة الساطعة، أما المدينة فهي حلم داكن غير واضح الملامح يتحول فيما بعد إلى كابوس مريع لا يقل عن كابوس الحرب نفسها. في قصة (يوم آخر في حفر الباطن)، يشرد الجندي بخياله إلى مدينته. في المشهد الأول من ذلك الحلم يراه القارئ سعيدًا بصحبة والده وهما يخرجان من حمام مدينته، ليلتقي أصحاب ثأر يتركون الوالد يستحم بدمه، ليُكمل بعد ذلك حياته مع زوج الأم الناقم. وفي قصة (النهر يكتم الأسرار)، يُقتل البطل خطأ برصاصة طائشة تخرج من بندقية تاجر سلاح في بغداد، عند عودته الأولى إلى مدينته من السويد. وتتحدّث قصة (ورقة اليانصيب) عن فتى يعاني من وسواس قهري حاد وهو في السويد، فيموت دهسًا على سكة القطار متوهمًا بأنه كان يسعى لإنقاذ أمه من أن يدهسها قطار كان يتقدم نحوها، فيما تسجل السلطات السويدية الحادث بأنه حادث انتحار لمريض حاول قبل ذلك قتل نفسه بالقفز من شرفة شقّته. وكأنه يقول إن بإمكاننا كعراقيين أن نفوز بالموت من بطاقة يانصيب! بالطبع، ألم يُجري الموت سحبته على العراقيين بالذات منذ أكثر من ثلاثين عامًا وما يزال، موزّعًا عليهم كلّ أصناف الموت؟ يمنح القاص بطله في حكمه على الناس ممن كانوا يضعون أنفسهم في خدمته، وتعامله معهم لغة عدوانية محرّضة، تشبه في أسلوبها اللغة التي استخدمها الحلفاء ضد النازيين بل ضد جميع الألمان أثناء وبعيد الحرب العالمية الثانية، فكان البطل يصف مساعده والقائم على خدمته، بالبولوني البشع، البولوني الكئيب، أو البولوني ذو الابتسامة البلهاء. قصة (الوقوف عند الزمن الآخر) تبدأ أحداثها عند وصول قوات الاحتلال الأمريكي على تخوم مدينة الناصرية، حيث يبدأ الاضطراب وفقدان السيطرة على المدينة وهروب سلطات العهد السابق. ليتصدى أحد الثائرين على الوضع السابق لمقاول كبير من أهل البلدة ويرديه قتيلاً بالرصاص ليختصر كلّ أعدائه وكل ما تسبب في الكارثة بهذا الرجل البريء. تستعرض القصة منشأ أسرة المقاول وماضيها وتطور نشاطها التجاري والمالي منذ الثلاثينات حتى ساعة القتل. على هذه الصور تتحرك قصص وأبطال المجموعة (فيما تبقى) لتتحدّث عن حياتين أو مصيرين يعيشهما كلّ بطل فيها. كلاهما مرّ ولا يقل لوعة عن نظيره.
صورة المرأة في قصص المجموعة
نادرًا ما تُطلّ المرأة برأسها في قصص المجموعة، وإن أطلّت فإنها لن تلعب دورًا مهمًا في الأحداث، ولا يكون بمقدورها تغيير الواقع المعتم أو التخفيف من غلواء معاناة الرجل الذي يجسد الهدف الأول للحرب التي تدور القصص في ميادينها. وتكون في الأغلب شخصية مغلوبة على أمرها شأنها في ذلك شأن الرجل. شخصية الأم الأرملة في قصة (يوم آخر في حفر الباطن) وهي المرأة الأكثر حضورًا، تعيش صراعًا يوميًا مع الحياة ومع نفسها كامرأة، لكنها تختار الصمت، هذا الصمت الذي يودي بمصير الشقيقة سميّة إلى الانتحار. "صمت راكد ثقيل يفترش زوايا البيت كأنه فطر شيطاني دبق، تستوحشها الأمسيات كثكلى فتنزوي عند التخت متكئة على جدار المطبخ، تجول بنظرة بلهاء في فضاء الدار". في قصة (النهر يكتم الأسرار)، تقتحم الزوجة الفنلندية بريغيتا المشهد مثل حرب هوجاء. بريغريتا امرأة قاسية عابثة ومغرورة، هدفها أن تقلق زوجها القادم من صدمة الحرب. وهي امرأة تجيد توجيه الإهانات للزوج وللآخرين كما يصفها القاص، فتلعب دورًا كبيرًا في هروب الزوج إلى بغداد في فسحة قصيرة، ليُقتل خطأ هناك. الأم كانت حاضرة أيضًا حضورًا منقوصًا، فهي تخاف وتنصح، لكنها ليست حاسمة ولا تملك قرارًا. فيما تبرز صورة لامرأة ثالثة تجسد المرأة السياسية السويدية الجامدة التي تحركها الأوراق والقوانين والقرارات، هي العجوز روزماري التي تنطق نظرتها بحكم مسبق. المرأة الوهم (الخيال) تتجسّد في قصة (العودة إلى الوادي المقدّس)، وهي امرأة كانت موجودة في ماضي البطل وفي خياله أيضًا، يستحضرها ويخاطبها في مناجاة داخلية جريحة، دون أن يرسم القاص ملامح لتلك المرأة القادمة من زمن ما قبل الحرب. القصة الوحيدة التي تظهر فيها المرأة ويغيب الرجل هي قصة (أرواح الشجر)، وهي سيدة سويدية عاشقة تعيش على ذكرى زوج طبيب ميت، ينتظر جثمانه منذ شهور في ثلاجة الموتى، ليحصل على موافقة الدفن البيولوجي. رغم غياب الزوج فإن الزوجة التي تُمضي شيخوختها في دار لرعاية المسنين، تعيد زوجها من خلال حديثها عنه ومناجاتها المستمرة لتطغي شخصيته ويكون حضوره أقوى من حضور الزوجة نفسها. تبدأ قصتها معه منذ يوم لقائهما الأول، وتمر بأروع لقاءاتهما مع أصدقائها حتى موت ذلك الزوج، لكنها قبل تمكنها من تحقيق أمنيته بتأجيل دفنه بالطريقة التقليدية، تجود بروحها لتفقد أملها الوحيد في تنفيذ وصيته. كأن فرات المحسن يقول لنا: لا تنتظروا حالة حب واحدة كاملة في قصص المجموعة، بل كأنه ينعى إلينا الحب الحقيقي في إعلانه موت تلك المرأة العاشقة.
مغزى القصتين الأخيرتين
قصة (أرواح الشجر) وقصة (لا مكان للنازية في شوارعنا) تدور أحداثهما في السويد. القصة الأولى تتحدّث عن مشروع قرار موضوع أمام البرلمان السويدي، ينتظر إقراره وتنفيذه، هو قرار الدفن البيولوجي. شغل الناس في هذه البلاد، وهناك الكثيرون ممن طلبوا دفنهم بهذه الطريقة ودفعوا تكاليف التأمينات والرسوم كاملة من أجل تنفيذ رغبتهم الأخيرة. ومع تأجيل إقرار هذا المشروع عامًا بعد عام تجمعت مئات الجثث في الثلاجات منتظرة دفنها بيولوجيًا. وتشير القصة إلى أن هناك مجموعات كبيرة من الأطباء والعلماء والمحامين والصحفيين يؤيدون هذا المشروع ويناضلون ضاغطين على الدوائر السياسية والاجتماعية من أجل الموافقة عليه وإقراره. أما القصة الثانية فتتحدّث مجموعة من الطلبة الفتيان والشباب يناضلون بإصرار من أجل تنظيف شوارع السويد من حملة الأفكار النازية، ويعتبرونها عارًا، وعليهم التخلص منه وإزالته نهائيًا، لكي تنتهي الحروب، ولا تتكرر الكوارث البشرية التي أصابت المجتمعات في فترات تاريخية ماضية. هؤلاء الشباب يعرفون كلّ شيء عن النازية والفاشية والأفكار العنصرية وما أذاقته للشعوب من مرارة وعذاب ويُدركون تمامًا كيف يقومونها ويقضون عليها فكرًا وعملاً. يبدءون بشعارهم الأساسي الذي يخطونه بوضوح في شوارع مدنهم. هذا الشعار يقول: لا مكان للنازية في شوارعنا. ويدعمون هذا الشعار بالتثقيف بخطر هذه الأفكار وحامليها وما ارتكبوه من جرائم تبقى لطخات سوداء مخجلة.
ثمة غنى وتنوع كبيران في شخصيات قصص هذه المجموعة التي تحمل سمات متنوعة أيضًا. بينها البريء والمُدان ومن هو غير مسئول عما حدّت له وتغيّر فيه، وبينها البسيط والعقدي، والمعطوب والمريض بدرجات متباينة، لكن ما يجمعهم إنهم مرضى دون استثناء وأن مصيرهم هو موت مفجع لم يخططوا له ولم يكونوا مسئولين عنه. أما البيئة التي نشط فيها هؤلاء الضحايا فهي شاسعة ومتنوعة أيضًا في تضاريسها ومناخاتها وطبائعها، في فقرها وغناها، في دروبها ومسالكها، لكن ما يجمعها، أنها جحيم حقيقي وكابوس طويل متواصل. وقد نجح القاص فرات المحسن في رسم بيئة وشخصيات مجموعته ظاهرًا وباطنًا بكل صبر ودقة وأناة. وكلّ حالة منها رسمها على حدّة وبصورة مستقلة وبملامح وشروط تختلف كلّ حالة منها عن سواها تمامًا. لكنها تتوحد جميعًا في خضوعها لحالة الحرب وظروفها وتطوراتها، وفي هدفها الذي يصبّ في رفض الحروب بعناد ولعنها واعتبارها عارًا حقيقيًا لابد من غسله ومحو آثاره، ودون ادخار أي جهد من أجل ذلك. |