اصبت بشيء من الذهول حين وجدت المصادر التاريخية تتحدث عن حظر تجوال كان مفروضا قبل اكثر من ألف عام في البصرة والكوفة القديمتين.
ويروي المؤرخون ان القبائل العربية التي نجحت في ارجاع جيوش فارس الى ما وراء هضبة زاغروس، وأسست المدن العربية الاولى في العراق لم تكن على وئام اول الامر، مع السكان القدماء وأغلبهم من بقايا البابليين والآراميين والكلدان. كان اسمهم يومذاك اهل السواد، وواحدهم "السوادي" نسبة الى تسمية العرب القديمة للعراق. ولم يكن من الممكن الاستغناء عن خدمات هائلة يقدمها هؤلاء وهم اهل مدنية، للمقاتلة العرب، فكانوا يدخلون المدن صباحا ليعملوا في الحرف الجليلة والحقيرة، ومنهم مترجمون اكفاء للفلسفة اليونانية، واطباء، وسواهم، لكنهم كانوا بأمر الوالي يخرجون من البصرة او الكوفة قبيل حلول الظلام، ومن تشاهده الشرطة يتجول بعد ذلك الوقت في شوارع المدن، يتعرض لاجراءات قاسية.
المستشرقون وصفوا ذلك بأنه "ارتياب الوافد الجديد" الذي كان يحيط نفسه بقلعة او سور ليضمن أمنه. ويقول المؤرخون ان الامر تغير بعد ذلك وصار السواديون مختلطين مع العرب والعجم وسواهم، فانتهى حظر التجوال صباحا ومساء. ما يرعبني في الامر ان القيود على حركة الناس، امر ذو تقاليد راسخة في هذه الارض. ورغم ان تقاليدنا الجميلة تتعرض لمحو وتحوير خطيرين، الا ان تقاليد القسوة تمتلك قدرة عجيبة على الصمود بوجه متغيرات الدهر. ما يزعجنا من حظر التجوال في العاصمة وسواها، انه رمز لحرب يذكرك دائما بوجود عنف. وإبقاؤه يعني ان البلاد لا تزال ثكنة عسكرية. ذاكرة الحرب تأبى ان تختفي برموزها الكثيفة.
ومن سوء حظ امثالنا نحن الذين تمتد ساعات العمل بنا حتى وقت متأخر من المساء، ان نعاني صعوبات عديدة مع سيطرات الجيش والشرطة، بسبب حظر تجوال يبدو لي ابديا لا يتغير رغم ما نتحدث عنه من تحسن نسبي في الوضع الامني. ننتهي من عملنا قرابة العاشرة او بعدها احيانا، ونضطر لاكمال بعض الاعمال في الاسواق او مع الاصدقاء على عجل كي نسابق الوقت ونرجع الى بيوتنا قبل منتصف الليل. ويحدث دوما ان نتأخر ربع ساعة او اكثر عن موعد السلطات النهائي لحرية الحركة، فنجد انفسنا امام ألف حاجز امني يسد الطريق. للجنود والضباط اوامر لا حيلة لهم في تشريعها وهم مرغمون على تنفيذها. لكنني سألت العديد من "الكبار" عن المانع من تمديد ساعات حركتنا ولو ساعة واحدة، كي تتفاخر الحكومة بأنها استطاعت مد الأمن لستين دقيقة اضافية وتشعر الاهالي بأن في وسعهم رؤية ليل بغداد على نحو افضل. وكانت الاجابات غامضة دوما.
قالوا مرة ان حركة الارتال الاميركية المنسحبة جرى تقييدها بفترة الليل كي لا تضايق المدنيين نهارا، وهو مبرر لمنع العراقيين من استخدام الشوارع. لكن الاميركان انسحبوا كما يبدو وانتهى الامر ومكثوا في قواعدهم آمنين. لقد زال المبرر الابرز دون ان ينتهي حظر تجوالنا.
مرة قررنا ان نخرق حظر التجوال بالموسيقى والغناء في قلب بغداد فجاء المتحدث باسم عمليات بغداد قاسم عطا وشاركنا "الحفلة"، وسألناه عن الامر ومبرراته، فأكد لنا ان الظروف الامنية حاليا تسمح بتقليص الحظر ساعة او اثنتين، ووعد بدراسة القضية معترفا بأن تقييد حركة الناس امر غير طبيعي ابدا. لكن الحكومة كما يبدو منشغلة عن كل شيء ومنهمكة في مفاوضات ابدية حول اشياء لا نتفهم بسهولة صعوبة ان يتفق "الكبار" عليها. كما ان ملف حظر التجوال يبدو الاقل شأنا اذا قسناه بباقي الملفات المؤلمة.
لكنني كلما اعترضني جندي طيب في طريق عودتي الى المنزل، أشعر بإهانة كبيرة. اتذكر لحظتها كل المدن التي يغمرها الناس بضحكاتهم حتى الصباح. كل الساحات العظيمة في الدنيا وهي تغني. بيد ان الجندي يمنعني من المرور ويضطرني كي أستحضر صورة المعسكرات الخائفة التي نشأت قبل اكثر من ألف عام، واحتاجت الكثير من الوقت كي تألف أهل السواد وتسمح لهم بالمبيت بين قلاعها.
متى تأمن الحكومة جانبنا نحن "السواديون"؟ متى يألفنا الساسة ليسمحوا لنا بالتجوال بين اسوار بغداد رغم منتصف ليلهم؟ |