جناز
هكذا يُقيم هذا الفقد المتعدّد «قبراً مثلّثاً» (والعبارة لشاعرنا) تتعهّد بإعلائه لغة ولا أكثر بوحاً. إنّه جنّاز هادئ ومتقشّف وأنيق إذا أمكن القول، يتعالى ببهاء ورفعة كما يليق بجنّاز حقيقيّ. تتحدّث الشّعريّة العربيّة في العادة عن «الرّثاء»، وكلمة «جنّاز» إنّما هي مفردة حديثة أُرجّح أن يكون العرب ترجموا بها الكلمة اللاتينية Requiem (وتعني «راحة»، أي «قدّاساً من أجل راحة المتوفّى»). وإلى المفردة الأخيرة، يزخر التراث اليونانيّ - اللاّتينيّ بعديد الأسماء المرصودة لهذا النمط من الكتابة نثراً وشعراً: فإلى المرثيّة Elégie ، وإلى الجنّاز Requiem ، هناك «النشيد الجنائزيّ»Chant funèbre و«المناحة على الميت»Lamentation pour le mort ، وخصوصاً «القبر» Tombeau ، «قبر» يسمّي لا مدفن الفقيد نفسه بل القصيدة التي تتعهّد برثائه، فكأنّها تنتصب بكلماتها العارية ضريحاً وشاهدة ومسلّة من أجل الغائب أو الغائبة. هكذا، بين آخرين قد لا يُحصَون، كتب فيكتور هوغو قصائد عديدة في ندب ابنته ليوبولدين وعشيقها شارل، اللذين ماتا معاً دون سنّ العشرين وقد انقلب بهما قاربهما الذي صار لهما قبراً مزدوجاً حملَهما إلى القاع. وهكذا كتب مالارميه في رثاء ابنه المتوفّى في سنّ التاسعة عن مرض عضال قصيدته الطويلة غير المكتملة: «قبر من أجل أناتول» Tombeau pour Anatole. محمّد مظلوم ينهل بدوره من أعماق ثقافته الواسعة، وكما فعل عبّاس بيضون في «لا أحدَ في بيت السيكلوب»، يتجاوز المرثيّة العربيّة ليضع نشيداً مأتميّاً وجنّازاً ويبني هذا «القبر المثلّث» الذي كان عليه أن يمضي في تشييده أكثر من سنتين. «قبر» من الغناء أمعن مظلوم فيه تطريزاً وتوشية وتعمّقاً ونحتاً، وقام بهذا كلّه على خلفيّة من ألمه الفادح، وما هذا كلّه إلاّ علامة على صبره النّبيل الفعّال وبياناً عن موهبته الفذّة.
من أجل هذا الجنّاز الحاسم، يستنفر الشاعر معرفته كلّها، ويدفع إلى الكلام شعراءه الأثيرين. فمن المفارقات الخلاّقة أنّ فنّ الرّثاء، وإن كان ينطق بكلام الشّاعر المفجوع نفسه، يفترض انخراطاً عميقاً في موروث أدبيّ، وقدرة على تجييش أهمّ قدرات الماضي الشعريّ. مَن كَثُرَ حلفاؤه في أداء هذه المهمّة كان هو الأقوى. وإلى قدامى الشّعراء السّومريّين والرّوحانيّة البوذيّة وسواها، يعرّج مظلوم على امرئ القيس، وعلى الإيطاليّ مونتالي، وصادقاً يخاطب حبيبته: «أستنفرُ لأجلكِ الشّعراء، من كلّ العصور».
بنيان النشيد
إنّ النشيد الجنائزيّ بحاجة إلى بنْيات أو أواليّات خاصّة، منها الاستهلال المتكرّر الذي يشكّل لازمة افتتاحيّة. يخاطب شاعرنا في الصّفحات الأولى «إله السومريّين الملثّمَ في حقول الرزّ»، و«إله الإغريق العاري في منزلٍ/ تتقاتل فيه الأساطير»، و«إله الرومان بدرعه الذهبيّة/ تحت شمسٍ مهدّدةٍ بالزّوال»، و«إله أبي اللاّهث/ بين خرائب الجنوب، وشوارع الكرّادة»، و«إله أمّي الطويلة/ بعباءتها في سوق مهجورة/ كشجرة وحيدة/ في هذا العالَم»، و«ربّ إبراهيم بسيفه المعقوف/ كهلالٍ بطيءٍ يتخبّط في وعورة التيه»، و«إله فرعون المتعَب/ من مقاتلة المياه والحجارة». يخاطبهم ليسرّ لهم بالحادث - الحدث: «اليوم يطعنني زوالٌ مؤنّث»، و«ها أنا مقيَّدٌ في المياه كتمثالٍ بعيد»، و«اليوم تعبرني سماءٌ سريعة/ ولا تلتفت/ لكسوفٍ ينحت عائلتي في البحر».
يعمل مظلوم بأواليّات النشيد الجنائزيّ المعهودة، ويضيف إليها ويمهرها بختم لغته. مراجعته لموت الحبيبة أو لموت أحبابه الثلاثة هي مراجعة لحياته. لا يراجع حياته وحدها بل يجرف معه التاريخ نفسه. تاريخ قريب ينطق بالحصار وتتقاتل فيه طوائف وشيَع، شاء هو أن يبتعد عنه: كتبَ مخاطباً اللّه: «أنشأتُ منزلاً في أرضٍ أخرى/ وتزوّجتُ من امرأة لم تخترْها لي/ حلمتُ بأسْرة وبأبناءٍ يرثون موتاي/ ويبتعدون عن طوائفك».
من أواليات الرّثاء في هذه القصيدة أيضاً، ومن مصادر عمقها الأكيد، عمل الشاعر على «أسطرة» وجه الحبيبة وإدراجه في سلالة أو تاريخ يجمع وجوهاً تراجيديّة أنثويّة كبيرة: «أتدبّرُ توديعَ آخِر الملكات الفينيقيّات/ في قاربِ عاصفةٍ/ من دمعٍ وذهول/ أتخبّط في مجاز مستنقعاته/ وحيداً فريداً/ مع امرأةٍ وطفلَين مكفَّنين باللّيل...»، وكذلك: «أدفن روح أورُبا الضائعة/ في «شيْر الخراب»/ وأعودُ إلى كوميديا أحزاني».
ها هنا تتوالى توصيفات بارعة ومجازات نافذة وتجديف بعيد الدّلالة، كما عندما يخاطب اللّه أيضاً: «لماذا تجعل من وحدتي/ إلهاً ينافسك؟». ذلك أنّ اللّغة، لغته الشعريّة، شاء لها مظلوم أن تظلّ انخطافاً وتيهاً، وأراد لها أن تمضي بعيداً في هذا الذّهول الكفيل وحده بإبعاده عن «كياسة» العقلاء الذين لا يهزّهم الموت نفسه: «أيّها الموت/ يا ترجمانَ اللّه الذي يتلفّت/ بحثاً عن مدافن الموسيقى/ لا تخطفْ لغتي من ظلامها/ خلّها تترنّح في الهاوية».
اشكال الغناء الشعري
إمعاناً في هذا التيه الذي يتقدّم كمطلب ضروريّ، حرصَ الشّاعر على تنويع ضروب كتابته. فمن أجل إبرام تصوير الموتى الثلاثة راح يجرّب جميع أشكال الغناء الشعريّ في العربيّة، من شعر عموديّ بقوافٍ مزدوجة فمتعدّدة تليها مقطوعة طويلة موحّدة القافية، إلى الأبيات الحرّة التفعيليّة، فالأبيات الحرّة غير الموزونة، وهذه الأخيرة هي الشكل المهيمن في القصيدة بصفحاتها المائة والعشرين. وفي المواضع التي يتبنّى فيها مهارات القصيدة الكلاسيكيّة، نلمس براعة وخفّة، ونضالاً باهر الوضوح لتخليص الشّعر العموديّ من جموده، لجأ إليه الشاعر عن إرادة في تنويع الغناء ولكنّ انحيازه اللاّ معدل عنه لحداثة اللّغة والشكل جعله يُلغم العمود نفسه بابتكارات متوالية. فتراه يعمد إلى تخفيف النّبر، وإلى الكسر من حدّة الجزالة والإطناب، وينغمّ ويكرّر جاعلاً الكلام يرتدّ بعضه على بعض («حزني عليك حزينٌ. إنّهُ شكّي/ ما للنّهاياتِ في عينيكِ لا تبكي؟»)؛ ويختار أصواتاً لغويّة أنيسة وكفيلة بإنشاء لغةِ بوح ومسارّة مع الحبيبة الغائبة، فيكون بذلك ممّن حفظوا جيّداً درس البحتريّ في سينيّته الشهيرة، كتب مظلوم: «حُزني عليك غروبُ النّاس يا ناسي/ أجتازهُ وظلالٌ منكِ حرّاسي».
وما أن تبلغ القصيدة في صفحاتها الثلاثين الأولى تصعيداً عالياً وأليماً لا يعود معه للقارئ من متنفّس حتّى يخفض الشاعر بحنكة ودراية من نبرة الغناء ويطعّمها بشيء من السّرد والبوح، عارضاً من حياتهما اليوميّة هو والحبيبة الرّاحلة تفاصيل محوَّلة شعريّاً على الدّوام. ولئن شكلّت هذه الصّفحات ما يشبه مستراحاً للقارئ، هذا المُساهم الأساس في العمليّة الإبداعيّة، فهي ترسم في الأوان ذاته صورة شخصيّة دقيقة وآسرة لكيان الحبيبة. فالنشيد الجنائزي إنّما هو عقد مبرَم لا مع الأحياء وحدهم ممّن سيقرأونه، بل كذلك، وخصوصاً، مع الغائب المرثيّ نفسه. من علياء غيبته المبرمة، يطلّ الغائب بمحيّاه المفجوع ويهمس لشاعره: «ينبغي أن تحسن كتابتي». كما أن مرام القارئ الحقيقيّ نفسه قد لا يتمثّل في معرفة مشاعر صاحب النشيد الجنائزيّ بقدر ما في الوقوف على فرادة كيان الرّاحل أو الرّاحلة وما يجعله، أي الكيان، فريداً في ذاته.
هكذا يتذكّر الشّاعر رحلاتهما المشتركة، هو والفقيدة، إلى اللاذقية، لملاقاة «البحر والأصدقاء»، أو يستحضر فترة حملها للتوأم: «كنتِ تنامين يا حبيبتي/ هادئةً وبعيدة/ ويداكِ/ تتشابكان على بطنك/ كالكنغر الأوقيانوسيّ/ كأنّهما تتحسّسان ركلاتِ التوأم/ في طريقٍ بعيد».
تحويل شعري
قلتُ إنّ التفاصيل تخضع هنا لتحويل شعريّ مستمرّ ينقذها من عاديّتها، ولكنّ الكلمة «تحويل» قد لا تكون هي الأنسب. فما يعمل عليه الشّاعر إنّما هو إظهار الحمولة الشعريّة التي تنطوي عليها بالأصل أدنى تجليّات المعشوقة، والسِّحر الذي يكتنف علاقتها بسائر الأشياء. هنا يُصار إلى تعداد أشياء الحبيبة، هذه الحوامل لحضورها الذي كان، والذي يستمرّ عبرها ينطق في ما وراء الغياب: «هاتفك الجوّال/ ملقىً كجثّة تغنّي في الشّتاء/ يهتزّ على الطّاولة/ كرعشةِ غيابك/ كأنّه طفلٌ يناديك/ حيثُ تركتِه...»؛ «فساتينك الصّيفيّة تهوي في الخزانة/ كحشدِ نساءٍ منتحرات»؛ «أحذيتكِ تبكي بلا قدمين/ وتتعثّر بلا طريق».
هكذا، عبر سلسلة من الصّوَر الأخّاذة، تكون الأشياء هي أيضاً في بحث، تسأل عن سيّدتها وتنساق هي الأخرى، أي الأشياء، في حركةِ حنين جارف إلى وجود آسر ما برحت هي تؤرّخ له وتشهد له.
من أواليّات النشيد الجنائزيّ أيضاً أن يمعن الشّاعر في محاولة استنهاض الحبيبة، آملاً ألاّ يكون غيابها الأبديّ أكثر من غفوة أو تهويمة عابرة. لقد أصبحت الغائبة راقدة في صورة، وهو يريد ابتعاثها من صورتها: «هيّا اخرجي من صورتكِ/ بِريفِ ابتسامتك/ بساحلِ شعركِ الطويل/ بحاجبيكِ المرفوعين/ كأقواس الحضارات العظيمة».
ولا غرابة، وسط هذا الهوَس العاشق وفي ظلّ افتقاد كهذا، أن يذهب الشّاعر في محاولة ابتعاث الرّاحلة إلى اعتناق عادات جديدة تتميّز هي الأخرى بهوَسها التكراريّ. بعد تغسيل الميت يأتي غسل الثياب: «كلّ أسبوع/ أضع ملابسكِ في حوض الغسيل/ فأشمّ رائحتكِ/ بَصْمتَكِ التي لا يمحوها الماء/ ولا الموت/ تدور الغسّالة/ وتدور رائحتكِ في رأسي/ كعاصفة القيامة».
وطبيعيّ، أيضاً، أن ينحو الشّاعر، في هذه اللحظة أو تلك، باللائمة على الفقيدة: «لماذا هربتِ، كالغزالة من ألبوم حياتي؟»؛ أو أن يأسف على كونها ما عرفت أن تتبيّن الموت في حقيقته الطفليّة وأن تتبنّاه: «جاءكِ الموت يا حبيبتي وليداً ثالثاً/ لم تتعرّفي عليه/ وكان آخِرَ الأبناء». في لحظات أخرى، ينسب لها بالعكس سابقَ معرفةٍ بالموت وإرهاصاً بعناقه القاتل: «من أين كنتِ تعرفين/ بأنّ حياتكِ/ قصيرةٌ ولامعةٌ كسيفٍ رومانيّ/ وموجزة/ كقصيدة هايكو؟». ثمّ، بعدما ييأس من إمكان ابتعاثها من رقادها في قلب الصّورة، يمنّيها بلقاءات مستعادة، ويَعِد بمسيرة يقوم بها صوب الغائبة على أساس من مأساتهما: «سأمشي إليكِ يا حبيبتي/ ملثَّماً بالخلود/ وعلى كتفي جعبة الفَناء/ دافعاً أمامي/ عربةَ أطفالٍ بمقعدين فارغَين». أو يعْقد من على بُعدٍ أواصر الصدّاقة بين راحلتيه الحبيبتين: «قولي لأمّي/ أن تمشّطَ شعركِ كالنّساء السّومريات/ وتغنّي لكِ موّالاً جنوبيّاً عن الغائبين»؛ «أعرف أنّكما الآن صديقتان هناك/ فأنتما طويلتان/ في طولٍ واحدٍ تقريباً/ وفي عمرٍ واحدِ تقريباً».
بتكتّم نبيل يذْكر أيضاً بعض الأحياء ممّن ينسون الميت في حمّى تسابقهم على إرث الميت، أولئك الذين «كانوا يتفحّصون الأسلاب/ كأنّهم في غنيمة».
في نهاية المطاف يرتسم وعد بالنّسيان انتصاراً للحياة التي كانت الحبيبة تجسّد في كيانها نفسه نشيدَ احتفالٍ بها، على أنّه وعد ملغوم باستحالته: «سأنساكِ/ كملاكٍ/ يحرسني في الحروب/ ويقتلُ أطفالي في المنفى»؛ «سأنساكِ/ كحفلة زفافٍ/ يُقتَلُ فيها المصوِّرُ والعازفون». وفي نهاية النّهاية يترك الكلام للرّاحلة بياناً عن أنّ صوتها لن يخرسه الصّمت أبداً: «وكنتِ تقولين لي:/ هذا جسدي/ سينتظركَ/ على الضّفة الأخرى/ كقيثارةٍ سومريّة/ تحنُّ/ لأصابعكَ الطّويلة».
لم أقم هنا إلاّ بتسمية المَحاور والأواليّات الرئيسة التي عليها انعقدَ هذا النّشيد. لقد أردتُ الإيحاء بشموله وتعقدّه المُخصِب، وبهذه الحنكة اللغويّة والتركيبيّة التي تجعل من محمّد مظلوم شاعراً شديد الأناقة حتّى في جرحه، ومغنّياً مؤكّد البراعة حتّى وهو يواجه أكبر امتحان وجوديّ ممكن. بلا انكسارٍ هو غناؤه، حتّى أمام الموت، وبلا تفجّعِ هو بكاؤه، حتّى في أقصى الافتقاد. بالوفاء للموسيقى افتتحَ نشيدَه، وبه اختتمَه أيضاً:
«ساقُكِ كمنجةٌ فارسيّة: كمنجة مفقودة في تابوت/ ركبتُكِ قيثارةٌ بابليّة: مسافرةٌ من أورَ إلى صدري/ وأنا عازفُ الصّمتِ الذي يروّض الكارثة».