المنفى لا يصنع بطولات خارقة للعادة دائما، والهجرة الى اقاصيه لا تصنع اوديسات دائمة، ولا اوديسيين يعرفون ان الطريق لا يؤدي دائما الى (ايثاكا) المفترضة مثلما يعرفون ان هذا الطريق يؤدي الى اسرتهم دائما.
كل ما في المنفى احتمال، قلق مشوب بالاسئلة وصداع الحوار مع الآخر والاندماج مع حاضنته اللغوية والمفاهيمة والجنسية، وربما يعني اضطراب الهوية. المنفى رغم كل ما يقال عن شبابيكه الطارئة وابوابه المشرعة موغل بالالتباس، بالحنين، حياته مفتوحة على الجهات، جغرافيا سائلة، رعب او ألفة خارج التوقع، حياة لا يمكن تصميمها بسهولة. المنفى في هذا السياق لا يعدو ان يكون مغامرة في نزع سرّة الجسد من الأمكنة الاولى، توغل مضاد في سديم أمكنة اخرى، فقدان اضطراري لصناديق العائلة، التخلي عن التفاصيل العالقة بالروح، اغتراب عن ألفة التعوّد والتكرار والاشياء التي نعرفها دون رهبة، وربما هو السكنى المضادة للامكنة الحميمة، التجرؤ على اقصائها.
هذا التوصيف يفقد المنفى بعض (آدميته) وهاجس ندائه المسكون بغواية الحرية ليبدو اقرب ما يكون الى الرحيل المؤدي الى الرحيل ذاته، ارتكاب شغوف بايهامات اللعبة الخالصة، الممضة في غموضها ولذتها ورعبها، لعبة تبادل الامكنة، واحيانا كراهيتها، لعبة مجبولة على كل شيء، اصطناع التوحش والقوة، التورط بالعزلة، النكوص الى الحنين، الهروب الى الامام التام، نزع الجسد العائلي وقذفه في المتاهة.
المنفى العراقي هو الاكثر تعقيدا، اذ هو لم يكن منفى مصمما، كل ما فيه جاء اضطراريا، مباغتا، هروبا باتجاه المجهول، هروبا جماعيا او فرديا، هروبا من القسوة والرعب واللعب المصمم للموت، الموت المفارق ليقين الحياة. هذا الهروب اختلط فيه الكثير من وهم الحرية، اللذة، الرغبة السرية النكوصية في ترميم الجسد الشبق، الفحولي المركون باهمال عند العطالة والاستمناء، مع محاولات غائمة للحلول الرخو في الاخر الجمالي والجنسي والحائز على السر المعرفي، مثلما اختلط فيه الايديولوجي الباحث عن الصيانة، الحلمي الباحث عن الدهشة، والانساني المصاب بهاجس موت انسانيته، والطبقي الحالم بالاستعادة دائما.
البعض من الهاربين الحالمين أدرك لعبة المنفى تماما، اذ انها لم تعد تشبه مغامرة ابن بطوطة او ابن ماجلان او ابن فضلان أو غيرها من حكايات المخيال العربي، وهي لم تشبه كذلك مغامرة رفاعة الطهطهاوي في رحلته (الباريزية) الشهيرة، وهي لم تشبه ايضا المنفى الذي تماهى فيه حسين الرحال ذات مرة. المنفى العراقي كان ايوائيا، بحثا سريا في امكنة للتعويض، امكنة للترميم، للصيانة، للتأهيل، لان الكائن العراقي قد تعرّض من عام 1963 الى اكبر عملية تخريب انساني ثقافي وايديولوجي ومعرفي منظمة، سلسة من الخرابات الطاردة من المكان والمعنى والوجود، تلك التي صنعت انماطا من الامكنة الايهامية المضادة لتاريخية الامكنة وانسنتها، مثلما هي صناعتها ل(الشخصيات) القلقة، المصابة بفوبيا السلطة والحرية والمقدس والجنس في آن معا، الفاقدة للاطمئنان والنوم الكامل والالفة والاندماج في الامكنة.
كل هذا اسهم في صناعة مبكرة لما اسميه بـ(المنافي) الوطنية (الداخلية والخارجية) تلك الامكنة الخبيئة الظاهرة والرمزية والحاضنة لما هو مؤجل، ومريب، ومنقذ من الخواء واللاجدوى، بدءا من المنافي اليومية في مقاهي الى المنافي الليلية في شارع ابي نواس الى المنافي السرية (الاشكال المعقدة للانتماءات) بما فيها الانتماءات الحزبية، والانتماءات الغامضة للمقدس والعرفان، او الانتماءات الرمزية لامكنة ايهامية (بصرياثا) مثلا.
فضلا عن ذلك النزوع التعويضي من خلال العمل بشكل مهووس في الفرق المسرحية او تشكيل الجماعات الفنية والادبية في الكاليرهات او المقاهي او اصدار البيانات. ولعل البعض من اصدقائنا الانثربولوجيين يعتقدون ان اغلاق شارع ابي نواس (السكران) في الليالي البغدادية القديمة امام رواده المنفيين كان محاولة لتدمير اناسة المنفى الداخلي والرمزي، من خلال تهديد زمنه وشفراته السرية وكائناته الغاضبة والمعادية للمكان السلطوي والخطاب السلطوي وليس ارضاء كاملا لاصحاب النزعات الاصولية الذين تحولوا الى قوة غامضة في الشارع السياسي والثقافي العراقي بعد نهاية الحرب العراقية الايرانية.
هذه الخلطة العجيبة من السلوك كانت محاولة في تأطير النفي الداخلي ومحاولة تعويضية لقراءة ظاهرة الهروب الجماعي الى الشارع تلذذا بعدوى النفي اللغوي والنفسي والسياسي. وحين اكتشف المغامرون الاوائل المنفى الاخر، المنفى اللاوطني ذهبوا مباشرة الى منافي تشبههم كثيرا، منافي تلمس نفيهم العميق، خاصة الى مدن ضاجة بالتشهي والحروب والمقاهي والشوارع السكرانة مثل بيروت او عدن او الى كوردستان، وكأن هاجس المكان هو الموجّه التعويضي الباعث على الاختيار. اغلب المنفيين كانوا يحملون تحت ثيابهم خرائط المدن المغامرة، المدن المحاربة، مثيولوجيا حروبها، اسماء محاربيها، شوارعها، مقاهيها، زواياها الاثيرة، مثلما كانوا يحملون وصايا كارل ماركس ولينين وجيفارا والسيد محمد باقر الصدر، وصايا الثورة والاحتجاج والحلم والرغبة الحميمة في التطهير والخلاص والتمرد.
البعض الاخر نزع ثيابه بالكامل في منفاه، اغوته غابات اللذة، استمرأته الفرجة العاتية، فرجة الجنيات والشياطين والبياض، ادرك هوس ان يكون عاريا من تاريخه العائلي، تاريخه المكسو بغلظة الابوات والحكومات والايديولوجيات والوصايا والثورات الفارغة والكبت المعطل للرأس والاصابع والذكورة. وربما هناك بعض غامض تسلل الى هامش المنفى السري، تلصص على شفراته السرية، تلك التي تعرف الغرباء تماما، لكنها تنتقيهم بامتياز، تعيد تأهيلهم بالكامل ليكونوا جزءا من النسق الاخر، النسق الطارد لغيره. هذا البعض ورغم كل (التعديل) والصيانة المبلغ بها لجهازه المفهومي الذي جعل منه (منفافوني) لكنه ظل مسكونا بهواجس الامكنة الاولى، الامكنة الحارقة التي تدّب في الاسفل دائما، تدّب عبر اللغة، عبر السحنات المسكونة بالتلفت والذعر، عبر الحنين الخبىء اللاصق بالروح مثل هوائها.
المنفى لم يصنع طرقا اخرى للحرير، ولم يصنع مدنا فوق المدن، او يطرد مهاجريه مثلما تفعله المدن الاخرى الصانعة للتخوم ومدن الصفيح او العشوائيات. المنفى الغربي صانع للنسق الديموغرافي والطوبوغرافي، الكل امام لعبة الاندماج، الاندماج الشره للحياة والعمل والجنس والعادات والنظام. لكن اغلب الذين ادركوا هذا المنفى حملوا معهم الغبار القديم، والعادات القديمة، واحيانا امكنة النفي الاولى النافر عن شراهة الاندماج، اذ ظلوا ملاحقين بهاجس المطرودية، العزلة، الاحساس بالخواء، الرغبة في ممارسات دائبة تصطنع ماهو تعويضي، طقوسي، ايهامي، تلذذي بما يكرسه من تكرار فعل الجماعة، احياء متخليها السردي، العودة الامومية النكوصية للعائلة.
احد المنفيين يقول ان ما تعلمته بعمق من المنفى هو(الأنسنة) التي رممت ادميتي المصابة برعب قديم، رعب الامكنة والسلطة والعائلة. خرجت الى المنفى مؤدلجا بالكامل، توهمت ان الايديولوجيا شفرة للاخرين لمعرفة كونيتي وتاريخ رعبي، الاخر لم يعرف سوى انسانيتي المضطهدة، احساسي الدامي بالخوف والمهانة، لذا هو لم يحاور الايديولوجي المضطهد فيّ، بل الانسان الخائف الفاقد لشرطه (الآدمي) واحسب ان هذا النمط من (الأنسة) كاف ليمنحي الاحساس بضرورة اعادة النظر في كل حيازتي المفهومية والثقافية، تلك التي صنعتها لنا منافي الداخل بنوع من الازمة، وصنعتها لنا العائلة بنوع من الخوف والارتياب والطاعة والتقديس.
منفي اخر هرب من موته الى حلمه، الحلم المتسع لكل شيء، حيث امكنة المنفى المباحة للغرباء بحذر اجرائي، لكنه حذر غير طارد، هذا المنفى لا يصنع عادات قهرية، لكن المتورط بالنفي هو القابل لهذه الصناعة.. تحول الى (عطار) للكتب، صاحب دار نشر، لص يتلذذ بسرقة الاخرين، سرقة كتبهم او نسائهم، او صار روائيا او شاعرا او مؤرخا يعرف كل الخبايا السرية للشرق السحري الذي غادره مطرودا او كارها او حالما، هذا البعض الغريب ابتكر له (سلطة) ما، قد تشبه اية سلطة اخرى، مارس من خلالها طرده لابناء منفاه الذين يشبهونه، لكنهم لا يشاطروه هذه اللعبة الفاجعة.
بعد اكثر من ثلاثين عاما على موجات النفى الجماعية، نفي اليسار الى الغرب، ونفي المتدينين الى الشرق، لان صانع هذا النفي هو سلطة واحدة وايديولوجيا واحدة، كيف يمكن ان نستعيد المنفيين، ان نفكك المنفى الداخلي اولا، المنفى المولد للاغتراب، لنجسّ فيما بعد المنفى الآخر، المنفى الذي صار منفيوه يتكئون على عصا شيخوختهم، يطاردهم الحنين، الوجع اللغوي، اللااطمئنان لفكرة الموت البعيد.
ربما العراقي يمارس علنا خيانته للامكنة، هو لا يطمئن اليها تماما، يشهر حنينه الملتبس (الحنين ليس سلبيا كما يسميه فاضل العزاوي) لان هذا الحنين هو الحامل السحري لشفرة الحياة، لا اظن ان خارجه ثمة حيوات صالحة للكتابة الخالصة، حتى العزاوي نفسه يمارس اقصى هذه الخيانة، لانه يكتبها بهوس، وكل كتابة خارجها هي عبث وتكرار، وربما لعبة غير مجدية في انتاج نسق الآخر، الآخر الحائز للملكية والسر المعرفي واللغوي، الآخر الذي لا يملك هاجسا داميا في النفي. |