أفهم، تماماً، السياقَ السياسي المعقّد الذي تحدث فيه (قضيةُ جريدة "العالم") (سأستعمل هذا التعبيرَ الذي أضعه بين قوسين للإشارة إلى الدعوى القضائية التي رفعتها وزارةُ الشباب والرياضة على الجريدة إثر تقرير صحفي يتهمها بالتجاوز والتلاعب والغش والهدر وما أثارته، وتثيره، هذه الدعوى من ردود أفعال في الجسم الإعلامي العراقي). أفهم، تماماً، سياقَ الاستقطاب والصراع السياسي الحاد الذي تحدث فيه هذه القضيةُ. وأفهم أن الحكومة تمثل طرفاً سياسيّاً محدّداً، يشعر بأنه مستهدف من خصوم كثر، يتسقطون زلّاته وهفواته وشطحاته وفساده، وأن هذه الدعوى هي جزء من حرب هذا الطرف ضد هؤلاء الخصوم، يخوضها بكل ما يُتاح له من أسلحة، قضاء، ومال، وإعلام، وتصريحات، وكل ما لنا أن نتخيّل.
أفهم، تماماً، الاندفاعة الانفعالية التي يخوض بها صديقاتي وأصدقائي هذه القضية: لأن ما تواجهه (العالم) يتعلق بحرية الإعلام واستقلاليته، فإن أحداً لن يمنحنا هذا الحق. علينا أن ننتزعه، بالمغامرة، والجرأة، والاندفاع، والنضال.
غير أنني أحسّ (وليتني أكون مخطئاً) أن القضية أبعد وأكبر من هذين: إنها ليست مجرد نقطة عرضية في صراع سياسي، وأنها لا يمكن أن تُختزَل بأنها محاولة من الحكومة للقبض على حرية الإعلام، مع أن هذين الأمرين صحيحان بذاتهما. ثمة صراع سياسي أنتج القضيةَ وهو الذي يتحكم بها، وإن الحكومة، بل الحكومات التي تعاقبت على البلاد منذ سقوط نظام صدّام، ما فتئت تحاول أن تسيطر على الإعلام، وهي لم تقدِّم برهاناً واحداً على أنها حريصة على بناء نظام يحترم الحريات العامة ويصونها، يطابق النموذجَ العالمي الذي أراد الأميركان (بسوء نية أو بحسنها، بخيال شاطح أو بحيثيات واقعية) بناءَه في العراق. ما لم يفهمه الأميركان أن زوال الاستبداد لا يُنتِج، بالضرورة وبالفطرة، نظاماً ديمقراطياً، وخطيئتُهم الكبرى أنهم تركوا مهمةَ بناء الديمقراطية لطبقة سياسية لا تؤمن بها، طبقة خرجت من الثقافة السياسية نفسها التي أنتجت البعث والدكتاتورية.
أحس أن قضية (العالم) ليست قضية بسيطة بهذا الشكل. إنها تطرح، مرة أخرى وأخرى، مسألةَ (حرية التعبير)، مفهوماً وممارسة وإشكالية، كيف تُبنى وتُمارَس في بلادنا؟ ما مصدرها؟ من أين تبدأ وأين تنتهي؟ ما حدودها؟ محرّماتها؟ مَن يحميها؟
قضية (العالم) وضعتنا جميعاً، دولة ومجتمعاً، أمام حقيقة أننا لم نستطع الوصول بعد إلى تواضع عام على حدود (حرية التعبير).
في سنة 2007، قدّمتُ ورقة حملت عنوان (إشكالية حرية التعبير في الثقافة العربية)، افترضتُ فيها أن التعارض الإشكالي الأساسي الذي تتحرك داخله مسألة حرية التعبير في الثقافة العربية هو التعارض بين كلية القيم ونسبيتها، فما يجري تصوره على أنه قيم كلية هو أمر نسبي، ليس بالضرورة أن كل المجتمعات يمكن أن تقبله، وأن حرية التعبير ـ من هذا المنظور ـ ليست قيمة كليّة ومطلقة، بما يعني أن أنماطا من القمع وتقييد حرية التعبير قد تكون مقبولة في بعض المجتمعات.
أنا لستُ جزءاً من هذا التيار، الذي يرى أن (الحرية) قيمة نسبية، وأن لكل ثقافة مفهومها الخاص لـ (الحرية)، بل على العكس، وبراديكالية حادة، أرى أن (الحرية) قيمة كلية، لا يمكن أن تُثَوْقَف، ولا يمكن أن تحددها خصوصيات ثقافية. لا يمكن أن يكون لكل ثقافة حدودها لـ (الحرية)، ولا يمكن لـ (الحرية) أن تتحدد بحسب اللون، أو العرق، أو الجنس، أو الوضع الاجتماعي. الحرية لا يمكن أن تتجزأ. الحرية واحدة، وللجميع.
ومع ذلك، تتشكل في كل سياق، وفي كل بلد ربما، مجموعة من الأعراف في أثناء ممارسة حرية التعبير. هذه الأعراف لا تتعلق بالمبدأ، بل بالممارسة. فعلى سبيل المثال، يشكل الموقف المتحفظ في أوربا من إثارة الشك أو السؤال النقدي في قضية الهولوكوست جزءاً من التقاليد الأوربية، يرتبط بأزمة ضمير تأريخية وضعت حدوداً على تناول هذه المسألة، من دون أن يعني هذا خللاً في مبدأ (حق حرية التعبير) في الثقافة الأوربية. وهكذا، تحدث اختلافات وتباينات في أعراف وتقاليد هذه الممارسة بين أوربا وأمريكا، على الرغم من أنهما يصدران من مصدر حضاري وثقافي واحد، فالتعاطي الأمريكي مع مسألة (حرية التعبير)، على نحو ما تجسّد في التعديل الأول للدستور الأميركي الخاص بحرية العبادة والكلام، لا يشبه طريقةَ التعاطي الأوربي، على الرغم من أن الأسلوبين لا يختلفان في المبدأ.
وبكلمة، هذه الأعراف لا تتناقض مع كلية حرية التعبير، ولا تبرر أطروحة الخصوصية الثقافية.
إعادة تصوّر «حرية التعبير»
أعتقد أن قضية جريدة (العالم) يجب أن تعطي دفعة للسيرورة البطيئة والمعقدة التي تتطور بها التواضعات على ممارسة حرية التعبير في بلادنا.
ولكن، إلى أين وصل النقاش في (حرية التعبير) في العراق؟
أنا لستُ متفائلاً بأن العراق سيُنتِج ديمقراطية حتى بمستوى ما وصلت إليه حالات من العالم اللاغربي. ومع ذلك، نحن لم نصل إلى نقطة اللاعودة بعد. ليس هناك شيء حتمي، ولا يزال التأريخ يتحرك من دون غاية واضحة، ولا يزال بإمكاننا، مجتمعاً وأفراداً وقوى مدنية، أن نكون طرفاً في تحديد مسار التأريخ نحوَ غايته. هذا الإيمان هو وحده الذي يعطي لعملنا معنى.
في الأردن، البلد المجاور للعراق، والذي يوصَف بأنه بلد ليبرالي فيه قدر معقول من الحريات العامة، تدخل رئيسُ الوزراء ـ قبل نحو أربعة أشهر ـ لدى ناشر جريدة (الغد)، وهي جريدة مستقلة وتعد الأهم في سوق الصحافة في هذا البلد، ليجبر رئيس تحريرها على الاستقالة، وهو الصديق موسى برهومة، الصحفي والمثقف البارز، لا لشيء سوى أن بعض المقالات التي تُنشَر في صفحة (الرأي) لا تتطابق مع السياسات العامة للحكومة. وقد مرّت القضية بهدوء، باستثناء بعض المقالات الاحتجاجية هنا أو هناك.
الوضعُ في العراق مختلف اختلافاً نوعياً. نحن لسنا في هذه النقطة بعد، فالدولةُ لا تملك مثلَ هذا الحق، ولا مثل هذه القوة. إنها تلجأ إلى القضاء المختص بقضايا النشر والإعلام، وهي ليست واثقة بأنها ستكسب القضية.
هذا الموقع في نقاش (حرية التعبير) يجب أن يدفعنا إلى مستوى أبعد. ولذلك، أنا أدعو إلى أن تطلق قضية جريدة (العالم) نقاشاً عاماً في (حرية التعبير) في العراق.
لقد حدثت، ولا تزال، بعض الأمور الجيدة، منها أنه تم تفكيك نظام شمولي يتحكم بوسائل الإعلام، ولم نصل بعد إلى إعادة إنتاج مثل هذه الصيغة. ومع أن ثمة شعوراً عاماً بأننا قد نكون ماضين في هذا الاتجاه، فإن أمامنا فضاء جدياً من العمل لمنع هذه الصيغة من التشكل. ومنها إنشاء محكمة مختصة بقضايا النشر والإعلام، وهو ما يمكن أن يكون مقدمة لإعادة تصور جذري لهذه القضايا بما ينقلها من حيزٍ تصورّي إلى آخر.
في سنة 2004، أعدّت (هيئة الاتصالات والإعلام) دراسة على درجة كبيرة من الأهمية تحت عنوان (قراءة أولية في القوانين العراقية المتعلقة بوسائل الإعلام وحرية التعبير والاتصالات)، أوضحت فيها أن هذه القوانين تتناقض مع المستويات الدولية ومع المعاهدات التي وقّع عليها العراق. وكشفت الدراسةُ أن القوانين العراقية تستعمل العقوبات الجنائية للمخالفات الخاصة بقضايا النشر والإعلام، وهو ما يشكل تناقضا مع (حرية التعبير) بوصفها حقا جوهريا. ومن ثم، أوصت بإعادة تصور هذه المخالفات ونقلها من الحقل الجنائي إلى الحقل المدني.
وفيما يمكن أن يكون له صلة بالدعوى التي تواجهها (العالم)، ذكّرت الدراسةُ بالخلاصة التي أصدرتها الأممُ المتحدة و(منظمة الأمن والتعاون في أوربا) و(منظمة الولايات الأميركية) سنة 2003 عن التشهير وحق حرية التعبير. هذه الخلاصة تقدّم، في تصوري، ثلاثة مبادئ مهمة، هي:
• إن التشهير الجنائي ليس قيداً يمكن تبريره على حرية التعبير، وينبغي إلغاء جميع القوانين المترتبة على التشهير واستبدالها، عند الضرورة، بقوانين مدنيه مناسبة.
• يحمي الحق في حرية التعبير كل محتويات التعبير والأسلوب الذي جرى فيه. ويصدق هذا الأمر حتى على التعبيرات التي تجرح المشاعر، أو التي تصدم النفس، أو تزعجها. ومن ثم، ينبغي التفريق بين التعبير الذي يهين شخصاً آخر والأذى الذي يصيب سمعة شخصاً ما، فالأول لا يمكن مقاضاته، أما الثاني فهو الذي يقع تحت دائرة التشهير، وهو القابل للمقاضاة، وفي استثناءات محدودة.
• إن التشهير بحق موظفي الدولة غير قابل للمقاضاة، لأن نشاطاتهم ذات أهمية خاصة للجمهور، بما أن الهيئات العامة أُنشئت لخدمة الشعب، وهي تموَّل ـ كليا أو جزئياً ـ من المال العام. ولذا، يجب أن يكون عملها شفّافاً، وأن تحاسب من الشعب، وعليها أن تتحمل مناقشة الجمهور غير المقيدة. وإلى جانب هذا، يُعدّ انتقاد الحكومة ورموزها وانتقاد موظفي الدولة دون قيد أو شرط أمراً ضرورياً لضمان شفافية الإدارة العامة. وقد أقرت السوابق القضائية بأن موظف الدولة يضع نفسه عن سابق معرفة، وبشكل يتعذر اجتنابه، عرضة للتدقيق الوثيق في كل كلمة ينطق بها، وفي كل عمل يقوم به، من الشعب عموماً، ومن الصحفيين على نحو خاص. ومن ثم، عليه أن يبدي درجة أكبر في القدرة على التحمل.
هذه التوصيات قدّمتها مؤسسة تابعة للدولة، غير أنه لم يجر، إلى الآن، تطوير القوانين العراقية بما يتلاءم معها. ولذا، أجد أن من الضروري أن تأخذ الهيئات واللجان المعنية باقتراح التشريعات الناظمة للعمل الإعلامي هذه التوصيات بنظر الاعتبار، بما في ذلك اللجان التي شكّلها الأصدقاء الإعلاميون.
وإلى جانب هذا، أصدر الجسمُ الإعلامي العراقي سنة 2008 وثيقة مهمة، وهي (ميثاق الشرف المهني الإعلامي)، الذي أعتقد أنه يصلح لأن يكون إطاراً مرجعياً لمناقشة قضية مثل قضية (العالم).
وفي النهاية، يجب أن تُناقَش قضية جريدة (العالم) في ضوء هذا السياق الكامل من المفاهيم، والوثائق، والاتفاقات، والرؤى، التي لا تزال تُبنى وتُصاغ وتُطوّر، وإن بقدر من الغموض، واللاتحديد، والالتباس. ما أراهن عليه هو أن تسهم هذه القضية في دفع كل ذلك إلى الأمام، إن نجحنا في إدارتها واستثمارها.
تفاؤل العقل
أعتقد أنه، إلى جانب الاندفاعة الانفعالية التي أطلقها أصدقائي وصديقاتي، ينبغي أن يكون ثمة عقل يفكر، كيف يمكن أن تطوّر قضيةُ جريدة (العالم) النقاشَ في حرية التعبير في العراق، وكيف يمكن أن تسهم في بناء وصياغة التواضعات العامة على هذه المسألة، الجوهرية في فضاء الحريات العامة، والجوهرية في مسار الديمقراطية.
إلى جانب الإرادة المتفائلة، ينبغي أن يكون ثمة عقل، تشاؤمي، ناقد، متأمل، شكّاك.
عقل هو وحده الذي سيمكننا من بناء مفهوم يتحرك حوله الجسم الإعلامي، ويجعل احتجاجَنا أكثر قوة.
عقل يدفع شبهة تواجه طيفاً من الإعلاميين العراقيين، الذين ركب جزء منهم موجة الاحتجاج على الدعوى القضائية التي تواجهها (العالم)، ولا يزال جزء كبير صامتاً، كأنه يريد أن يشمت بجريدة منافسة وهي تُساق إلى القضاء، لتدفع غرامة مالية قاسية، ولم يقوَ عودها بعد.
عقل يفكر ببدائل للاحتجاج الكسول الذي نخوضه على صفحات الفيسبوك والمواقع الإلكترونية وحملات التوقيع على الأثير، بدائل قد تستعيد مظاهرة آب 2009، أو قد تحمل وسائلَ الإعلام العراقية على مقاطعة أخبار وزارة الشباب والرياضة، أو الاحتجاب لأيام، . . لستُ أدري. ثمة فضاء واسع من بدائل الاحتجاج التي لم نجرؤ على التفكير فيها بعد.
عقل يطلق النقاش في كل ما تثيره قضية جريدة (العالم) من أمور متداخلة، ولا سيما إمكانية دعم الإعلام المستقل من خلال المال العام، وعدالة الدولة في توزيع أموال الإعلان الرسمي. لقد أصبح مالُ الإعلان جزءا من أدوات الحرب التي تخوضها الدولة والأطرافُ السياسية على الإعلام المستقل. ثمة أفكار جادة يجب أن نناقشها هنا، منها تأسيس مفوضية أو صندوق تابع لـ (هيئة الاتصالات والإعلام)، يتولى التوزيع العادل لأموال الإعلان الرسمي على وسائل الإعلام العراقية، ومنها وضع مقترحات أمام مجلس النواب والشعب العراقي لتشريع قانون يضمن ترتيبات لدعم الإعلام المستقل.
(العالم) معركة، قد نخسرها، ولكنها لن تكون الأخيرة بكل تأكيد.
وإذا خسرنا، فيجب أن نوفر فرصة لنفهم لماذا خسرنا هذه المعركة؟ كيف أدرناها؟ أين أخطأنا؟ ما هي نقاط ضعفنا؟ ما هي بدائلنا؟ . . سؤال ينبغي أن يبقى مفتوحاً.
* أكاديمي عراقي مقيم في عمان
|