غبار المعارك ينقشع تدريجيا في بلادنا رغم ان صوت الديناميت لا يزال عاليا. هناك 8 اعوام توشك ان تكتمل، منذ لحظة سقوط صدام حسين، وهي بحجم الحرب مع ايران زمانا، وبضعف اهوالها وقعا. لدينا فرق اساسي يحصل مع مرور الاعوام هذه، اذ يمنحنا الزمن، متعة حقيقية للكشف. الكشف الذي بدأ، سيقشع جزءا من غبار المعركة، ويتيح لنا قدرة افضل على الرؤية والمحاكمة وقدرا اكبر من جرأة البوح.
اتيح لي نهاية الاسبوع ان اخوض حوارين متلفزين مع عدد من الزملاء حول حصيلة السنوات الماضية، وعلى هامش التساؤلات ومحاولات الاجابة، كنت استرجع طريقتنا في تقييم المشهد عام 2003 او عند الانتخابات الاولى. استرجع كي أقارن حجم التغيير الذي طرأ على تصوراتنا.
لقد كنا نعترض وننتقد قبل 8 اعوام، فيقال لنا ان هذا الحديث "تشكيك" بنوايا الزعماء. كان يقال لنا اننا مصابون "بعقدة شخصية" حيال الاحزاب الدينية مثلا. لم يكن هناك دليل مادي على انهم سيفشلون حقا، وكان هناك من يقول: امنحوهم الفرصة وجربوهم. كنا اذن نبني توقعاتنا المتشائمة على معرفة محدودة تفترض ما سيحدث، اما اليوم فقد اصبح لمعظم الزعماء ارشيف كبير من الاخطاء، يتيح لنا ان نصنع منهم نموذجا للتقييم والتفسير نبني في ضوئه احتجاجاتنا على المستقبل. لن يجرؤ الآخرون هذه المرة، على ان يتهمونا بأننا نعاني "عقدة شخصية" تجاه "الخاطئين الكبار".
آلهة التاريخ تقوم بتحضير مائدة سخية حاليا، على مسرح مصمم بلمسات عناية فائقة. التاريخ يستعد لإطلاق عملية كشف اما ان تنتهي بعملية تصحيح حتى لو كان جزئيا، او ان تنتهي بحمام دم تتدحرج رؤوسنا ورؤوسهم بين جنباته. لحظة محاسبة الزعماء تحل، ولم يعد هناك وقت للافتراضات، والزمن المتراكم هو الذي يجعل الساسة مصابين بالهستيريا ويقومون باتهام ألف سردشت عثمان، بأنه "صحفي عميل للقاعدة والمسلحين والبعثيين".
الصحفي القتيل سردشت، نموذج صارخ لانطلاق عملية كشف وحرق لا بد منها. الساسة في الشمال والجنوب والوسط يتعلمون من بعضهم، طريقة الخوف من جردة الحساب القادمة على المائدة السخية التي تقوم آلهة التاريخ بتجهيزها منذ 8 اعوام.
كان صعبا علينا ان نقول للناس ان الحزب الفلاني سيخفق وأنه سيضيع جيلا بأكمله ويهدر حزمة فرص غالية. اما بعد مرور 8 اعوام، فإنني محتار بانتقاء الجواب الاجمل حين يوجه إلي سؤال حول اداء الساسة، انها حيرة من يمتلك ألف جواب صحيح ومتماسك، بأيها أجيب يا ترى، وكل منها اجمل من الآخر وأكثر اثارة؟
التضحيات التي قدمها الوطن خلال الاعوام الثمانية كانت مخيفة في حجمها، لكنها ليست بلا طائل على المدى البعيد. اعوام ولاية السيد نوري المالكي وهو اول حاكم يكمل ولاية كاملة ويزيد، وضعت بين ايدينا مرجعا شارحا مؤسسا لأي محاكمة او اعتراض نحتاجه مع الزعماء القادمين. النموذج هذا يساعدنا في تصحيح المستقبل، وقبله كنا بلا نموذج. لقد اصبح بين ايدينا مرجع تفسيري مهم نحاكم في ضوئه، وحكومة بقيت خمسة اعوام في السلطة ويمكن ان تتحول الى "عبرة" لجميع القادمين الجدد.
المائدة التي تقوم آلهة التاريخ بتجهيزها، ستحتاج الى شهود يشبهون الصحفي القتيل سردشت، لديهم الكثير كي يقولوه. المبررات التي كانوا يسكتوننا بها قبل 8 اعوام، لم تعد موجودة. لا يوجد انسان يمكنه تبرير جهل الدولة وكل مؤسساتها، بمقدار ما انفقت البلاد من اموال، او جهل الجمهور بكل طوائفه، بمقدار ما دخل الى جيوب الساسة. لا يمكن لأي مبرر ان يمنع انوفنا من استنشاق اطنان القمامة التي تفشل الدولة في رفعها. والاهم من ذلك: لا احد في العالم يمكنه اقناعنا بأن "الشعارات" التي تطلقها الاحزاب المؤدلجة، هي عبارات ذات معنى. لقد رأينا طريقة ادارتهم للصراع، وجرأتهم على كنز الاموال وإخفاء الحسابات، ولن يجرؤوا بعد ذلك على اسكاتنا بشعار دافئ كان يردده المناضلون على اعواد المشانق.
الاعوام الماضية التي منحتنا الف سبب كي نحاكم الزعماء، شجعتنا على البوح. ربما سمع القتيل سردشت نصائح تطلب ان يسكت، وربما سمعنا نصائح مشابهة. لكن الزمن لم يترك لنا ما نخسره. الموت موزع في الشوارع ويلاحق الصامت والناطق معا. معظم من قتل كان صامتا ولم تعد النهاية البيولوجية الأليمة، تلاحق من يبوح فقط. تعلمنا ان احلامنا حول شكل الوطن الذي نريد، لن تتحقق بالصمت.
الساسة كانوا سعداء بصوت الرصاص، فرحين بعلامات خوف ترتسم على وجوهنا. هم يتفاخرون بأنهم "لا يخافون" من صوت المدافع. وهل يخاف الرامي من صوت مدفعيته؟ اعتقدوا خطأ بأننا سنظل صامتين. وحين لاحظوا ان سردشت عثمان ومن على شاكلته، مولع بلذة الكشف ولذة الاحتراق ايضا، انتقلوا الى اسلوب آخر. اتهمونا حين نبوح، بأننا من "البعث والقاعدة". لم يخجلوا من هذه الاوصاف ويخيل لهم اننا سنتراجع هربا من هذه الاتهامات. الساسة يريدون تحويلنا من "ضحية" لسياساتهم، الى "اعداء" للمشروع العراقي. المتكتمون على اموال العراق والمهدرون لفرص البناء والسلام، يريدون تأجيل لحظة الكشف التي نستمتع بها. لكن الخبر السيء الذي نحمله لهم، هو اننا اصبحنا مثلهم تماما، "لا نخشى صوت المدافع". صوت مدافعهم يختلط اليوم بصوت مدافعنا نحن. لن نبقى كالمسكين الاعزل، فقد انتقل سردشت الى اعتماد قواعد جديدة في اللعبة وقام بتشغيل مدافعه هو، ولم يعد يخشى صوت القنابل. على الساسة في مرحلة ما بعد الاعوام الثمانية، ان ينصتوا جيدا لقنابل جيل سردشت، وان يستعدوا لرؤيته وهو يلتذ بالكشف والاحتراق. التصحيح يبدأ من هنا. |