.. يتخوفون من العودة بالحداثة الشعرية العراقية إلى الخلف احتقار السلطة للثقافة والمثقفين كان وما زال قائماً وسقوط الدكتاتورية لم يغير شيئاً
«بيت» هو عنوان المجلة الجديدة التي أصدرها «بيت الشعر العراقي» مؤخراً، الذي احتفل منذ أيام في بيروت بإطلاق هذا الحدث عربياً، حيث أقام أمسية شعرية في مسرح بابل، تحدث فيه كل من شوقي عبد الأمير وفالح عبد الجبار، كما كاتب هذه الكلمات، بالإضافة بالطبع إلى شعراء البيت وهم حسام السراي ومحمد ثامر يوسف وسهيل نجم وأحمد عبد الحسين. حول «البيت» والثقافة العراقية الراهنة، أقامت صحيفة السفير ندوة استضافت فيه الشعراء العراقيين، هنا عرض لأبرز ما جاء فيها.
سنبدأ بالحدث الراهن، الذي يتمثل بتأسيس «بيت الشعر العراقي»: ما هي الفكرة التي طرأت في بالكم لتأسيس هذا البيت، كيف عملتم عليها، كيف اجتمعتم.. الخ. أحمد عبد الحسين: كما تعرف هناك العديد من بيوت الشعر المنتشرة في العالم اليوم، وحتى في بعض الدول العربية، ارتأينا أن ثمة إجحافاً في أن لا يكون هناك للشعر العراقي «بيت» يضم أبرز التيارات الشعرية الموجودة راهناً. أول ما طرحت هذه الفكرة، كانت عندنا نحن الأربعة، واستغرق الوقت مدة ستة أشهر كي نعد العدة، لجمع أكبر عدد ممكن من الشعراء، الشعراء الذين يلتقون هذه الأسماء في الرؤى، إذ كان همنا الأساس أن يكون أنموذج الشعر العراقي الأحدث حاضراً وممثلاً، إذ إن أنماط الشعر الأخرى لها مكانها وبعض المؤسسات الثقافية الداعمة. على سبيل المثال فإن اتحاد الأدباء فيه نادي الشعر، ويغلب على هذا النادي النمط الكلاسيكي، يعني أن كل المنضوين فيه هم من شعراء العمود أو التفعيلة. ما يسير هذا النادي أيضاً بعض الرؤى الخاصة بهم وبعض الأسماء المتناغمة فيما بينهم، فآثرنا أن تكون للقصيدة العراقية الحديثة مؤسسة أهلية أيضاً، طرحت هذه الفكرة. وبعد التحضير تمّت دعوة 150 شاعراً، وأقمنا المؤتمر التأسيسي في نيسان العام الماضي، وحضره شعراء من كل المحافظات (أكثر من خمسين شاعراً)، ثم أجريت الانتخابات وفازت سبعة أسماء للهيئة الإدارية للبيت، وهذه الهيئة اجتمعت في اليوم عينه وانتخبت الرئيس ونائبه الخ. كانت لدينا بعض الأفكار لتسيير العمل وإيصال الشعر إلى المتلقي، من هنا كل الأنشطة اللاحقة جاءت لتأكيد هذه الفكرة، أي البحث عن أنماط جديدة لتوصيل الشعر إلى القارئ. قمنا لغاية الآن بما يقارب 13 فعالية، غالبيتها كانت في مكان عام على ضفة شط، كما أقمنا واحدة من الفعاليات في جامعة المستنصرية، وأخرى في مقهى كان حاضناً للأجيال الشعرية العراقية منذ الرواد ولغاية اليوم، لكنه أصبح مقهى متهالكاً، وخالياً من الرواد وهو مقهى حسن العجمي، فجاءتنا فكرة إحياء هذا الصرح الثقافي الآيل للاندثار. أقمنا أيضاً فعالية في محافظة السليمانية.. ما يسيّر كل أعمالنا. إذاً هذه الفكرة التي تتلخّص في إيصال الشعر بأسلوب...
كل الأجيال سنعود للحديث عن هذه الأنماط الجديدة، لكن قبل ذلك، ماذا قلتم في الورقة التي أعددتموها للمؤتمر؟ حسام السراي: قبل أن أجيب عن هذا السؤال، هناك بالإضافة إلى الأهداف التي تحدث عنها أحمد، هناك رؤيتنا للقصيدة، أو تمنياتنا لما يجب أن تكون عليه القصيدة، أو قناعتنا التي نريد أن نجسّدها في عمل مدني، أي أن تتحوّل القصيدة من فضاء نكتبها على الورق كي تصبح محوراً لاشتغال ثقافي. هناك أيضاً جانب نشعر به – باعتبارنا جميعاً نعمل في الصحافة الثقافية العراقية – نشعر بأن هناك ربما فكرة تتلخص في أن تقام فعالية ثقافية ما وتنتهي من دون أن تترك بعدها أي أثر. عندما اجتمعنا قلنا لنؤسس شيئاً فيه مغايرة من أوله إلى نهايته، لا أقول إننا نجحنا أو لم ننجح، الآخرون هم من يحددون ذلك. الأساس بالنسبة إلينا أن يكون انطلاق البيت، في المكان الذي يقيم فيه فعالياته، ما يُراد له أن يتحقق لاحقاً عبر مجلة أو عبر إصدار، كنا نفكر في أن نسمّي الأصبوحة بمسمّى لا ينتبه إليه الآخرون، أي لا توجد فعالية في العراق تسمّى باسم، مثلاً هناك احتفاء بشاعر، نحن أردنا حتى أن نخرج الفعالية من السياق التقليدي إلى سياق آخر، أي أن نعطي لفعالياتنا مجالاً للتفكر والتأمل. بدأنا بفعالية «أجيال متجاورة» وأردنا أن نقول من خلالها أن هناك أجيالاً مختلفة في الشعر العراقي يمكن لها أن تتجاور في الأصبوحة الأولى، بمعنى أن طموحنا بأن نكون بيتاً لشعراء العراق بدأ منذ اللحظة الأولى. كان هناك احتفاء بشاعر عاد إلى العراق، هو زاهر الجيزاني الشاعر في صباحه الشخصي بالارتباط مع قصيدته ومجموعته الشعرية. ـ أحمد عبد الحسين: لأوضح أمراً، كان عنوان مجموعة الجيزاني «الأب في مسائه الشخصي» وبما أن الفعالية كانت في الصباح، أسميناها الشاعر في صباحه الشخصي.. الفعالية الأولى، التي لم يوضحها حسام، جمعنا فيها الأجيال الشعرية العراقية بأسرها، واحداً من الرواد، أو من الستينيين وهو ياسين طه حافظ، ومن السبعينيين عبد الزهرة زكي، ومن الثمانينيين فارس حران ومن جيل ما بعد 2003 أحمد عبد السادس. جمعنا كل الأجيال تقريباً في أصبوحة واحدة، وكانت الإشارة إلى أن هذا النمط الذي نعتقد أنه هو الشعر ممكن أن يبث في كل هذه الأجيال، وليس لدينا أي انحياز لجيل على آخر، ولا لثقافة الداخل على حساب ثقافة الخارج.
الاصطدام بالتقليديين حسام السراي: الأصبوحة الثالثة مثلاً، كانت بعنوان «بغداد والشعراء والصور» بمعنى أن مسعانا في الكتابة تحقق أيضاً بأن نقيم معرضاً فوتوغرافياً مع القراءات الشعرية، معرضاً عن بغداد اليوم بالترافق مع قصائد كتبها شعراء عرب عن بغداد. باختصار، كان الهمّ في التأكيد أن يكون مسمّى الفعالية متميزاً يرسل الإشارات ويريد أن يثير الانتباه وأن لا نجعل حفل توقيع الكتب حفلاً عادياً. ملاحظة أخيرة، كل هذا المسعى إلى التجريب وتحويله إلى فعل ثقافي، والمسعى الآخر مرتبط بأنك تعتبر نفسك مثقفاً وتريد أن تشيع أجواء أخرى، وهذا ما كان يصطدم دائماً بالتقليديين الذين كانوا يريدون للمشهد الثقافي أن يبقى كما هو عليه، وأن لا يتجاوزهم أحد، إذ يظنون أنهم قيّمون على المشهد أو لهم حضور تمنحه جموع المثقفين التي لا ترتبط دائماً بالحس الثقافي بل بالعلاقات الشخصية وحتى هذه الأدلجة أحياناً. كان الأمر صعباً أي أمامنا جدار يظن أصحابه أننا نرغب في أن نزيحه ونحن نعمل. وقد جرّ الأمر علينا عداءات حاولنا أن نبتعد عنها. سهيل نجم: أريد أن أوضح فكرة، عندما تبنينا منهج قصيدة النثر لا يعني ذلك أن من حقنا أن نلغي الآخر وليس في ذهننا أن الآخر لا يكتب شعراً. نحن اخترنا هذا الطريق وهذا الأسلوب وهنالك دعم لنا من شعراء كثيرين في العراق. وعلى الرغم من أن اسم البيت هو «بيت الشعر العراقي»، لكننا لا ندّعي بأننا نمثل الشعر العراقي بأكمله. نحن هذه المجموعة ارتأينا أن نكون مؤسسة تهتمّ بهذا الأسلوب وتنتهج هذا المنهج، لكننا لا نلغي الآخرين ولا نعتقد بأن قصيدة العمود لا يحق لها أن تكتب أو أن تنشر. بيد أنه في مجلتنا لا نتبنى ولا ننشر هذا النمط من الكتابة. لوك كلام هذا الخيار، وضعكم أمام اصطدام، شئنا أم أبينا، كيف يمكن لكم أن تتغلبوا على هذا الأمر الذي حدث بين تيارات الشعر العراقي؟ محمد ثامر يوسف: ثمة حقائق عديدة في البلاد، بدأت للأسف تتراجع مع أهميتها في السنوات الأخيرة. لا يتعلق الأمر بالثقافة وحدها، ولا يتعلق بالشعر حتى، بل يتعلق بأشياء عديدة... ما هي مثلاً هذه الأشياء العديدة؟ محمد ثامر يوسف: على صعيد الشعر مثلاً، ثمة حقيقة ساطعة تعرفها، وهي أن الشعرية العراقية أنجزت دعاة راسخة طيلة عقود من الزمن، فهي التي كسرت العمود، وهي التي قدّمت السياب مثلاً، وهي واحدة من البؤر التي رسخت قصيدة التفعيلة في الخمسينيات والستينيات وبعدها أيضاً قصيدة النثر في بغداد كما في بيروت. هذه الحقائق المهمة هي من الاستفزازات الأساسية التي جعلتنا ننتبه إلى ما تعرض له الشعر العراقي في السنوات الأخيرة. ربما هناك حتى رغبات خبيئة وخبيثة أيضاً تحاول العودة بالحداثة الشعرية العراقية إلى الخلف. واحد من أسباب الاصطدام، الذي سألتني عنه، أزعم أنه واحد من المفاجآت الكبيرة لنا كمثقفين وكشعراء، هو أن يطرح موضوع الشعر الذي تركه الشعراء المبدعون العراقيون قبل ثلاثين أو أربعين سنة. لذلك يعود السؤال من جديد ماذا يجب أن يسود الآن قصيدة النثر أم غيرها. هذا السؤال الأساسي هو واحد من الأسباب التي جعلتنا نفكر جدياً في مجابهته بما نستطيع. بالطبع ليس الشعر وحده في العراق هو الذي يتعرّض لانتكاسة، على اعتبار أن الشعر هو جزء من الحياة، أنت تعرف أن الحياة في العراق اليوم بحاجة إلى إعادة نظر، هناك نوايا غير سليمة تحاول أن تسيّد أنماطاً ثقافية وحتى حياتية تتعلق بحرية الإنسان وخياراته. مجمل هذا الجو المشحون، جعلنا نفكر في أن نحرك أدواتنا أو ما نستطيع منها في مجابهة هذا المدّ. لا أدري إن كانت أسلحتنا كافية. أزعم مرة أخرى أننا أمام مدّ مؤسساتي جديد، تحركه نوايا لا أعتقد أنها بريئة تماماً. قبل أن نتحدّث عن تفاصيل الشعر العراقي والحياة الثقافية اليوم في العراق، أتوجّه بالسؤال إلى أحمد، كيف تفسر قولكم بأن بيت الشعر هو مؤسسة في حين أنه ليس مؤسسة بالمعنى المتعارف عليه، إذ ليصبح كذلك يتطلب الأمر تمويلاً والعديد من الأشياء الأخرى؟ أحمد عبد الحسين: أظن أن كلمة مؤسسة كلمة كبيرة فعلاً، وتجافي الواقع، وربما من الأصوب أن نقول إننا إحدى المنظمات الأهلية المشتغلة في الثقافة. يوجد اليوم في العراق منظمات كثيرة والبعض منها يتعلق بالجانب الثقافي وتدعم بأغلبها إما من البرلمان وإما من وزارة الثقافة أو من الحكومة. للآن لم نلاقِ نحن أي دعم، وكل الأنشطة التي قمنا بها هي من مالنا الخاص. على أمل أن نتحرك مع المؤسسات الكبيرة لدعمنا. اسمح لي أن أعرج على أمر، ربما ما نتحدث هنا عنه يبدو بالنسبة إلى المثقف اللبناني أو السوري حديثاً يدعو إلى الاستغراب، أي ما زال هناك بعض المثقفين في بغداد يلوكون الكلام الذي قيل في الخمسينيات حول المزاحمة والتصادم بين الأشكال الشعرية. في العراق المسألة مختلفة تماماً، الشكل الشعري هو أبعد الأشياء عن البراءة، الشكل الشعري يتربى في ظلّ المؤسسة، وكما لاحظنا منذ الثمانينيات وحتى سقوط النظام السابق، كان النظام يربي هؤلاء الشعراء لسوق الحشود إلى الموت، على وقع الأغاني التي كتبها هؤلاء الشعراء الأفذاذ. اليوم أيضاً نجد أن السلطة الحاكمة لديها عداء مستمكن تجاه الثقافة، كما أن لديها ذائقة سيئة وتحابي الشعر الشعبي والقصيدة العمودية، لأنها تمجد المنبر باعتبارها سلطة ارتكاسية تستند على الدين والطائفة، فالمنبر ابن الدين والطائفة ولا يليق بالمنبر إلا الشعر العمودي. هناك أيضاً بعض الشعراء المستعدين لأن يمالقوا هذه السلطة، هناك اليوم جيل كامل لا يفعل شيئاً سوى ممالقة هذه السلطة والسلطة ليست بالضرورة هي الحكومة. هناك السلطة الدينية التي تتخلل المجتمع بأسره. لتكون لك حظوة ما عند الأحزاب الدينية عليك أن تكون مدّاحاً... لسان حال سلطة ما بعيداً عن قصة المدح، السؤال مطروح على الجميع، هل ما زال الشعر يستطيع القيام بأي شيء؟ سهيل نجم: من المؤكد أن الشعر هو خزينة روح الناس والبشر، الشعر بما يمتلكه من طاقات روحية ومن بث داخلي يؤثر في الآخر. لو رفعنا الشعر عن الحياة لبقيت الحياة جافة. ربما ليس شرطاً أن يكون الشعر بصيغته المعروفة، أي أن يتجلى الشعر في فنون كثيرة ويصل إلى الإنسان. وهذا ما يؤثر فيه، كلما اقترب الشعر من الإنسان، وكلما تفاعل معه، يؤثر فيه ليجعله أكثر تحضراً وأكثر صفاء. في الأنشطة التي قمنا بها رأينا هناك جمهوراً يتجاوب معنا ويتأثر بما نكتبه على الرغم من أننا نكتب شعراً ليس واضحاً وليس مباشراً. لهذا فإن قناعتي هي أن الشعر يؤثر في الناس. حسام السراي: في فترة التأسيس عندما كنا نحاول إطلاق البيت، كانت محاولتنا لإنقاذ الذات من هذا الصراخ والضجيج باتجاه جماليات المكتوب، أي لنفكر في القصيدة من أجلها لا من أجل وظيفة إنشادية ولا تصفيق. بالنسبة إليّ، كانت المفاجأة في الجامعة المستنصرية، حيث وجدنا أن أسماءنا معروفة لدى الجمهور. من هنا راجعنا أنفسنا بعد هذه القراءة في الحرم الجامعي وتوقفنا عندها كثيراً، إذ كانت مفاجأة أن تجد جمهوراً يستمع إليك ويتفاعل معك ومع ما تكتبه، وبالتالي لا نريد أن نقول إن بإمكان القصيدة المكتوبة أن تكون مؤثرة وباستطاعتها أن تغير شيئاً لكن المهم أن تكون باقية وحاضرة في المشهد الشعري. محمد ثامر يوسف: جواباً عن سؤالك أقول، نعم إن الشعر – عراقياً، وأشدد على ذلك – بوصفه فعلاً مضاداً للسوء الحاصل يستطيع أن يفعل شيئاً، بمعنى أن نقيم مثلا أصبوحة في بغداد وفي جو مشحون وقبل ساعات من مساء سياسي محمل باللغو والطائفية والبذاءة، أعتقد أن الشعر في هذا الوسط يستطيع أن يفعل الكثير بالمعنى الذي أشرت إليه، كما بالمعنى الإنساني الذي يجعل الإنسان يتأمل كيف يستطيع الشاعر في هذا الجو أن يقول كلماته بأسلحة مختلفة. أحمد عبد الحسين: نادرا ما نجد هذا التواشج بين الثقافي والسياسي كما يوجد الآن في العراق الحالي. منذ أيام كنت أقرأ مقالة لحازم صاغية عنوانها «تفاهة السياسي العراقي»، قلت ربما كان حازم يتحامل كثيرا، لكن بالفعل يوما بعد آخر يثبت السياسي العراقي أنه تافه. السلطة في العراق سلطة جاهلة تماماً، والجاهل – وبخاصة إذا كان متسلطاً - يحاول أن يقزم كل شيء وكل ما حوله. استراتيجية هؤلاء الجهلة أن يقزموا الثقافة العراقية بأكملها. اختصرت الثقافة بإقامة المهرجانات. هناك جدب واضح في الفنون كافة، في السينما، المسرح، التشكيل، لأن السياسي لا يعترف بهذا. منذ أيام، طرحت فكرة على وزارة الثقافة، وهذا ما قاله لي وكيل وزير الثقافة، لتمويل بعض الأنشطة الثقافية، فقال مسؤول لأحد المسؤولين الكبار «أنا لا أدفع مالاً للدق والرقص»، أي ينظر للثقافة باعتبارها دقاً ورقصاً لا أكثر ولا أقل. هذا التقزيم المتعمد للثقافة يندرج من ضمنه التقزيم الواضح للشعر العراقي. يطلبون من الشاعر أن تكون له هذه الوظيفة التقليدية التي كانت للشاعر العربي منذ الجاهلية أي لسان حال سلطة ما. للأسف هناك اليوم الكثير من الشعراء العراقيين الذين ارتضوا هذا الدور، لكن هناك بالتأكيد أصوات كثيرة ما زالت تنظر إلى الشعر باعتباره فناً من شأنه السمو بالإنسان ومن شأنه الاندغام المعرفي. هذه الفكرة لا يفهمها الساسة، لذلك نحن نعيش في جو من أغرب ما يكون، عليك فيه الاصطدام بالسلطة قبل الاصطدام بمثقفي هذه السلطة. سهيل نجم: إسمح لي أن أضيف شيئاً، على الرغم من أن أسلوبنا في الكتابة يبدو معقداً، وعلى الرغم من أن قراءتنا هي قراءة غير انفعالية، وعلى الرغم من أننا أحياناً نخطئ في النحو واللغة، لكننا نجد أن جمهورنا يتآلف معنا. وهذا دليل على أن روحية الجمهور العراقي قد تغيّرت. وليس كما يراهن على ذلك الجانب الآخر الذي يريد أن يشيع أسلوبه التقليدي. احتقار الثقافة والمثقفين قبل أن أسأل عن الفكرة التي طرحها أحمد حول العمل الثقافي اليوم في العراق، سأعود إلى ما قاله محمد ثامر يوسف، قال في جوابه «عراقياً» وشدّد على ذلك، هل بكلامك هذا تحمل نقداً لشعر عربي آخر. هل تظن أنه لا يستطيع أن يلعب هذا الدور؟ محمد ثامر يوسف: لم يكن هذا ما أقصده، أنا بطبعي لا افصل الثقافة وتحديداً الشعر عما يحيط به، الشعر ليس كائناً خرافياً ينزل من السماء، الشعر ابن مكانه. المكان العراقي اليوم هو مكان ضاج وساخن ومليء بالكثير من الاشكاليات التي يطول شرحها الآن. أقول «عراقياً» وأفكر في جوهر القصيدة العراقية الحقيقية التي يعرفها الشعر العربي. لكن محنة المكان اليوم، على أساس أن المكان هو الأساس، محنة غير موصوفة عربياً، غير معيشة، لا يعيشها الشاعر خارج العراق. ومن هنا أجد للنفس الشعري ولخصوصية القصيدة في العراق اليوم ما يدفعني إلى قول ما قلته. علاقة الشاعر اليوم بالمكان والناس والمحيط العام والسياسة بالضرورة هي التي تحتم عليّ أن أقول إن للشعر في العراق اليوم وقعاً خاصاً، كما أن علاقته بالآخر المحلي علاقة حساسة، علاقته بالسياسي أولا الذي يسيطر اليوم على المشهد برمّته بما فيه الثقافة هي علاقة ما زالت شائكة. وبهذا المعنى أنا أفكر في الشعر العراقي.
لنعد إلى قضية العمل الثقافي، كيف تنظرون اليوم إلى الفعل الثقافي العراقي في مرحلة ما بعد سقوط النظام. شئنا أم أبينا، أنجب النظام السابق ثقافته الخاصة، اليوم وبعد سقوطه، ومجيء «دولة القانون» و«الديموقراطية» إذا جاز التعبير، كيف تبررون إقصاء العمل الثقافي؟ حسام السراي: أولا، من الواضح، وكما قيل إنه لا وجود إلى اتفاق أو قناعة بأن يكون هناك للمثقف حضور أو دور في العراق، على اعتبار أن السلطة تملك منهجها وعقيدتها. من جانب آخر، هل هذا الموضوع يتعلق فقط بالسياسة العراقية، بالطبع لا. هناك فرص كبيرة في العراق بعد 2003 لأن تصنع شيئاً. الكثير من مثقفي العراق على اقتناع بما هو موجود. عندما نعبر حدود العراق نكتشف أن ما يحدث على الصعيد المحلي غير معروف، وليس له أثر ولا حتى يبقى تأثيره بعد مرور 24 ساعة. هناك الكثير من الرتابة والارتجال، لا توجد خطة أو منهاج. ليس لدى من يعمل في المؤسسات الثقافية الرسمية أو في المنظمات الأهلية أيّ استراتيجية واضحة. سهيل نجم: بالتأكيد، إن الثقافة العراقية خرجت من حالتها الذليلة في وقت الدكتاتور إلى مرحلة أفضل، اكتسبت فيه حرية التعبير والممارسة، لكنها رسمياً بقيت في آخر القافلة، ربما بضغط الحالة الأمنية، وبضغط الصراعات السياسية، لكن للأسف الشديد جميع من يعمل في السياسة في العراق لم يضع في برنامجه خطة ثقافية، لم يضع الثقافة في استراتيجيته، ولهذا أنا لا أعول على الذين يعملون في السياسة أو في الدولة، ولا أعول على وزارة الثقافة. من ناحية ثانية نجد أن المثقف العراقي قد تحرر كثيراً. هناك مؤسسات ومنظمات صغيرة بدأت نشاطات فعلية، ربما هي أكثر فعالية اجتماعياً من مؤسسات الدولة، إذ بدأت خلق وعي عند الناس، وهذا ما كان مستحيلاً في السابق. محمد ثامر يوسف: كلنا كان لدينا الأمل بأنه مع سقوط الدكتاتورية ستتغير أشياء كثيرة على الصعيد الثقافي، لكن يبدو أن الأمور تعقدت وهي متشابكة أصلاً، ربما لدواعٍ أمنية، وربما لعدم التخطيط السليم. زد على ذلك أن العديد من السياسيين يعتبرون الثقافة في الخانة الأخيرة. يبدو أننا وصلنا إلى نتيجة مفادها أنه لا يمكن التعويل على السياسي في أن يفعل المستحيلات للثقافة. برأيي أيضاً، إن المثقف العراقي يتحمل مسؤولية كبيرة في هذا الموضوع، إذ إن معظم المثقفين العراقيين استسهلوا مسألة الشكوى، أي يشكون دائماً، الفعل الثقافي في جزء منه هو فعل أفراد كما هو فعل مؤسسات ومنظمات. وأعتقد أن الفعل الفردي في الثقافة العربية ومنها الثقافة العراقية يؤتي ثماره إذا كان فعلاً جاداً وحقيقياً، وإذا كان هناك إخلاص للثقافة، وهناك الكثير من النماذج المعروفة. لكن المثقف العراقي في الداخل محكوم بعناصر كثيرة، منها أن الثقافة بحاجة إلى مال ودعم، هذا فضلاً عن العديد من الموانع الإيديولوجية والدينية، التي تحاول أن تعطل عمل الثقافة في العراق. ومع ذلك ربما استطاع عدد من المثقفين أن يفعلوا شيئاً إذا انتبهوا جدياً إلى هذه المشكلات وأيقنوا أن الفعل الفردي يمكن له أن يحقق نتائج جيدة. أحمد عبد الحسن: أعتقد إذا شئنا المقاربة بين زمن الدكتاتورية والزمن الحالي، أقول إن أمراض الثقافة العراقية هي نفسها وكلها تتعلق بالجانب المؤسساتي الذي تشرف عليه الدولة. في السابق ولغاية اليوم نجد أن السلطة تقدم أهل الثقة على أهل الخبرة. ثانيا، احتقار الثقافة والمثقفين كان وما زال قائما، يكفي أن أقول لك إن أحد النواب عندما وزعت المقاعد الوزارية قام محتداً وقال أخذتم منا الوزارات الدسمة وأعطيتمونا هذه الوزارة التافهة، وزارة الثقافة.
|