من نصف قرن على تولي الانظمة العسكرية والشمولية حكم العراق ووقوعه تحت الاحتلال تبدو حركات وتمردبعد مرور أكثر ات وثورات الاحتجاج الادبية العراقية مترددة أو غائبة أو محتجبة كما لو ان فكرة التمرد الادبي والثقافي والمعرفي، سواء على وحشية المؤسسة أو صنمية النص، فكرة تخضع للبناء التقليدي الاجتماعي بمقاييسه الصارمة، وظلت هذه الحركات تتراوح بين الظهور الخافت أو الضمور الكلي ولا يوجد في سجل التاريخ الادبي خلال الفترة المذكورة تمردات أدبية خلاقة غير ما عرف عن ظاهرة السياب الاستثنائية في الشعر وعبوره القالب الشعري وكان ثمن ذلك باهظا من العوز الى النبذ والمحاصرة ومعارك موثقة في رسائل الشاعر الناضحة بالألم أو في الموت المبكر في مستشفى كويتي كغريب، أو تمرد الشاعر حسين مردان الشعري والسلوكي أو في تصعلك عبد الأمير الحصيري الذي لم يكن في جوهره تمردا على الأشكال الشعرية بل كان تمردا على صدمة الواقع لشاعر شاب قدم من مدن "مقدسة" محافظة تعيش منظومة قيم واضحة وصريحة ومحددة الى عاصمة كبيرة مضطربة ومشوشة المقاييس، أو في جنوح الشاعر جان دمو الى الغرائبية الفردية وهي في الأصل سلوك شخصي مقموع ظهر كإنحراف في السلوك العام وفي الانضباط وفي التعاطي مع الحياة اليومية.
لم تُكتب لهذه الصور ـ عدا السياب ومردان ـ الاحتجاجية التأسيس لبنية أدبية حية أو لمشروع ثقافي تمردي ولم يكن الأمر بعيدا في كون هذه الاحتجاجات كانت تولد بالتوازي مع الانقلابات العسكرية والبلبلة العامة وفي رسوخ المؤسسات الاجتماعية المسيطرة، والأغرب من ذلك تحوّل المؤسسة الادبية نفسها الى أداة قمع لكل بادرة احتجاج سواء عن طريق الاذرع النقدية المغلَّفة باخلاقوية زائفة أو منظومات التبسيط والتحنيط النقدية أو من خلال نظام اداري قهري كان يضع هؤلاء وأمثالهم في مستوى الخارجين عن القانون العام ويصنفون كحثالات غير مرغوب فيهم.
ان نظرة الى اعلانات الطرد ـ على باب مبنى الإتحاد ـ ومنع دخول الشاعر الحصيري وجان دمو وغيرهما الى مقر الاتحاد العام لأدباء العراق في تلك الفترة يوضح هذا الوضع المأساوي ويجلي الصورة المخزية عن تحول المؤسسة الادبية من مؤسسة خلق أدبية الى مؤسسة خنق عقابية. ولم يقتصر الأمر على المنع بل المصادرة والتسخيف والنبذ والاحتقار والإهمال وهي عوامل عقابية صارمة عبر التاريخ.
على الضد من هذه الصورة الكريهة كانت تجري رعاية الدخلاء والطارئين والأميين كجزء من التضليل الثقافي العام مما أغرى سوّاق منتصف الليل وسكارى الحانات العابرة وبعض الضجرين الى الدخول الى مشرب الاتحاد للشرب والاستئناس وقضاء الوقت لا أكثر بل كان بعضهم يتدخل في النقاش العام من باب التسلية والجدارة لسهولة الوضع وظرافة الموقف.
أدوات حجب التمردات الأدبية تجاوزت كثيرا سلوك المؤسسة السياسية والأدبية الى المؤسسات التعليمية كالجامعات والأساتذة والمجامع اللغوية والاندية والبرامج الثقافية حيث تحول السلوك الأدبي المرغوب فيه الى السلوك النمطي المدجن وتحولت اساليب التعليم والنقد واللغة ـ حتى اليوم ـ الى التلقين والتكرار والنسخ والتقليد وتمجيد الذوق العام والوعي العام بما يضع الاديب ضمن "ممتلاكات" وشرعية المؤسسات العامة ويصبح الخروج عن شرعية الامتلاك خروجا عن المجتمع والسلطة والرأي العام وهي بالضبط وظيفة الأدب، وتصبح البلاغة السائدة والمقبولة هي بلاغة السلطة والمؤسسة ويتم أمحاء الخصائص الشخصية إما عن طريق منظومات عقابية عرفية كما ورد في السابق أو اجراءات الحصار السياسي ومنظومات الردع الايديولوجية الحزبية التسقيطية حين تتم إحالة التمرد الادبي الى مفردات الشوارع الخلفية ويجري سحق كل بادرة في تجاوز وعبور منطق القطيع باسم العرف العام والنظام الاجتماعي أو في اقل النوايا شراً باسم السيكولوجيا كما لو ان هذه الرذائل والفظائع والجرائم لا يخرج عليها الا المرضى عقليا بعد افلاس الايديولوجيا الحاكمة في القمع وهو عرف تمأسس في الوعي الادبي العام وانتقل كوباء من جيل الى جيل وصار ظاهرة شائعة ومقبولة تمارس بتلقائية وسطحية كواحدة من قوانين الطبيعة وتحولت اللغة الى لغة قساوسة وأحكام وتصنيف واختزال( لغة جماعة) مع انها تحمل أسوأ المعاني ابتذالاً، وأشد الحكم خضوعاً، وتنمي الخدر والبلادة وموت واندثار الوعي وتلغي استقلالية العقل.
لم يعد السلوك الثقافي والادبي والفني ميزة خاصة بشرائح تتمتع بخيال خاص ومنفرد ونظام نفسي متفرد ومنظومات تفكير وتخيل وعمل ذهني مميز، بل كان ـ والآن ـ يخضع للمعايير العامة بل المقاييس المبتذلة، وهو أمر لا يمكن تفسيره وقبوله حين النظر اليه من زاوية مضادة حيث يسمح للسياسي والمصرفي والبائع الجوال والقهوجي والمدلكجي والتتنجي والثورجي وبائع الكركري والجص والكرزات والكباب والجندي والشرطي والقواد والنصاب والسرسري والمرابي وغير هذه الأصناف في التصرف وفي الكلام وفي التعبير بناء على نظامها اللغوي والاخلاقي والسلوكي والنفسي ـ من باب التفهم والمراعاة؟ ـ وفي الوقت نفسه يُحجز ويُحجر الادباء والكتاب والمثقفين في أقفاص كثيرة تعكس في النهاية رمزية السلطة واشكال ظهورها المموهة والملتوية والماكرة.
هذا (الإفتتان) بالعادي والهزيل والشاحب والخاوي والفارغ ليس افتتانا عاديا بل هو جوهر عمل المؤسسة التي تميل الى الدمج والمحو والازالة والهضم والقضم والاقصاء والارتقاء بكل ما هو دوني الى السطح والنزول بكل ما هو مرتفع الى الأسفل في نوع من المساواة الغريبة لا تصح الا في مجتمعات عاطلة ومعطوبة تاريخيا وثقافيا والخ وهلم جرا.
مجتمعات كثيرة مرت في ظروف أقل قسوة وتحديات أقل ضراوة لكنها انتجت حركات وتيارات تمردية احتجاجية سياسية ومعرفية وأدبية وشعرية وروائية وفنية وفقط لأنها عاشت تحديات يمكن أن تكون في العرف العراقي عادية وعابرة كجزء من بناء عقلي لا يرى الكارثة الا حين تصبح الشوارع غارقة بالجثث والمنازل ملعبا للقوى الأمنية والعصابات: في الاتحاد السوفيتي، مثلا، وفي ذروة القبضة البوليسية كانت هناك حالات من التمرد الأدبي على الوضع العام كظاهرة الروائي بوريس باسترناك والروائي ايليا أهرنبورغ، وفي فرنسا وتحت الاحتلال النازي كانت المراجعات النقدية الفكرية للأسس والاصول الاجتماعية والادبية والثقافية تجري بالتوازي مع التمردات الادبية والشعرية والفنية وتم في تلك المرحلة التأسيس للرواية الجديدة التي كان كثير من روادها أعضاءً في المقاومة الفرنسية: فرانسوا مورياك، كلود سيمون ـ أُسر وفرَّ من الأسر وعمل في المقاومة ـ البير كامو ومالرو وغيرهم، وفي بريطانيا كانت الدعوة قوية لمراجعة ونقد الأسس واعادة النظر في المسلّمات، ومعروفة مسرحية جون أوزبورون( انظر الى الوراء بغضب) التي كانت صرخة احتجاج ضد الحرب وضد النظام السياسي والاجتماعي والاخلاقي السائد الذي هادن النازية أول الأمر ومهد لها وخاض الحرب ضدها فيما بعد تحت دعاوى محاربة النازية وفي الحقيقة كان صراعا استعماريا على المصالح والنفوذ والمواد الخام وثروات الشعوب، وفي أمريكا كان الشاعر آلن غينسبيرغ وجيل النبضة (البيت ـ البيتنكس) قد أسسوا حركة أدبية وشعرية وثقافية معادية للسلطة والقيم السائدة المنحطة وضد الحرب والعنصرية واللغة المتحجرة، وهناك تحت اليد الكثير من البراهين على الطريقة التي تستجيب فيها النخبة الادبية والفكرية والثقافية في مراحل التحول والمنعطف: فهل نكون نحن قد عشنا شكلاً من الخواء الأدبي كان يتم التستر عليه بعباءة الدكتاتورية وكُشف عنه في المرحلة القائمة اليوم؟ أم ان البناء الأفقي الاجتماعي والنظام الأبوي السلطوي القائمة على التسلسل والهرمية والطاعة العمياء والخضوع وهو الركيزة القوية للبناء الفوقي السياسي ومُنتج السلطة ما يزال هو نفسه لم يتبدل؟ أم ان الخلل في نوعية ومصادر ومتانة الوعي الادبي نفسه وفي السطحية الادبية المتكئة على البلاغة اللغوية والفصاحة والانشاء اللفظي الزخرفي وضيق الأفق النقدي والمعرفي للأدباء؟ هذه أسئلة تُطرح متأخرة على الذات الادبية لأن سؤال المؤسسة وحده عن الخلل لم يعد ممكناً ومقبولاً ومثمراً.
ان اشكال السلطة الرمزية المموهة المختفية خلف حجابات ونظم ومرجعيات وقوى وأحكام وأفراد لا تخفي نفسها دائما الا للعميان والثُول وقصيري النظر لأن الطاقة الباطنية المحرمة والزاجرة والقامعة للمؤسسات القمعية تظهر في أشكال كثيرة بل ترتدي أكثر الأقنعة نعومة وأكثرها وحشية ودناءة من أجل تمرير مشروع وقف العقل، ولعل أشنع أشكال ظهورها هو النزول بالثقافة والادب والفكر والمعرفة الى أدنى درجات الحضيض.
هذا الاسفاف الشرس الذي يُقابل اليوم في حياتنا الثقافية العامة بالسكوت والصمت والاهمال والتغاضي في تنمية غبية لوحوش صغيرة جديدة، هذا الاسفاف هو نوع من البلورة والتمرين وبناء ساحة موت تقضي على كل أمل في تجاوز المعرفة السائدة والواقع السائد وخلق الفراغ الطنان والعربات المدوية الأكثر صخباً مما سيشكّل تراثاً أدبياً مخجلاً للأجيال القادمة والأمثلة وافرة ولا حاجة للتذكير.
إن اعتقاداً قدرياً زائفاً وهميّاً بدونية وعرضية ومرضية الاحتجاج والتمرد والخروج والعصيان الادبي يغذيه البعض بوعي أو بلا وعي، عن خوف أو عن منفعة، صار يدفع البنية الثقافية والأدبية نحو التابعية والخنوع والاستسلام سواء عن طريق منظومات الردع والتغاضي والنقد والاهمال أو عن طريق الأساليب الدنيئة المعروفة التي تتحول مع الوقت الى الاطار المعرفي والنقدي الوحيد القادر على تفسير أشد حالات التمرد براءةً ونظافةً وابداعاً وبقاءً، وهذه النزعة السوقية التي هي تطور جديد في نظام عمل منظومات الردع السلطوية بعد ثورة الانترنت وسهولة التعاطي مع قضايا حساسة ومصيرية بعقلية صبيانية مسطحة انتهازية تعيش كجرذان الكوارث، هي نزعة مضادة للمعرفة والأدب والحياة لكنها تتموضع داخل سفينة الاضطراب والتشوش والغموض والعواصف حتى صارت السرسرلوجيا في بناء أنماط الحياة المشوهة بديلا عن الايديولوجيا والارهاب وكل الانساق المطلقة وتكيّف نفسها ومقاييسها في مناخ حاضن وداعم ومشجع ومستفيد يبعث على الخزي. لم يعد الكلام قائما عن فقدان الحدود بل تداخلها وهو الأخطر: الأكثر سوءاً ان هذا الاختلال يتحول مع الوقت والعادة والتكرار الى نظام عمل سياسي وأدبي واقتصادي ونفسي ومنطقي والى تقليد ليست وظيفته ولا شاغله البحث عن حلول لمعضلات ولا الخوض في عملية خلق وابداع بل البحث عن أزمات مركّبة ـ بمعنى التركيب وليس التعقيد ـ وجر الجمهور المستسلم، طوعاً، أو غفلةً، الى المسلخ من دون الشعور ان هذا الفعل هو عمل مؤسساتي وسلطوي خفي يتجاوز أدواته بل يتخطى ادراكها الممزق والسطحي والهش لأن عملية "تقديس الواقع" واحترام أنساق القيم اللاجمة والمعرقلة هو ارهاب مخرب ومتستر ونوع من الجنون الخفي بل الاستهتار، لأن الارهاب، بتفسير جان بودريار في اطروحته(موت الواقع) لا يتعلق بالعنف أو الحادثة، بل في اللايقين والردع :" ويبدو اننا غير مستعدين لتقبل هذه الثورة " لأن موت هذا الواقع الكريه بكل ما فيه من سلط ورموز وقيم وأفراد وأنماط كتابة وسجون ومشانق ورصاص وكذب وغدر وسرقة سيقودنا الى سؤال مصيري غير مطروح الآن: الى أين نمضي من دون هذا" الواقع"؟ |