كان يوسف ينظر الى ارتال العجلات المحترقة والى الجنود الذين قذف بهم عصف الانفجارات على الطربق قتلى ممزقين وجرحى يحدقون في الافق بعيون تعبة مفتوحة تنضح اسا وعتبا ورجاء . يمر بالمجازر بآلية محاولا تاجيل الاحساس بالكارثة مرددا " هذا كابوس .. ليس اكثر من كابوس .. انا حي ، واحمد حي . وهؤلاء الجنود .. هذه الجثث المرمية على قارعة الطريق ليست حقيقة .. انها كابوس !!" في الصباح، عندما وقعت انظاره الشاردة ، على القتلى الذين داستهم العجلات والدبابات والمصفحات الثقيلة الهاربة من الجحيم ليلا ، وجعلت منهم قطعا متجلدة من القماش والانسجة الحية والعظام ، تامل المشهد قليلا وواصل سيره مرددا " يالها من مزحة ثقيلة !! ياله من فن قذر!! " اقنع نفسه ان فنانا مريضا صنع هذه اللوحة المرعبة مستعملا الكولاج!! كان يوسف احد الناجين الاربعة والعشرين من وحدة عسكرية مؤلفة من مائتين وخمسة واربعين جنديا اعطيت لها الاوامر بالانسحاب من الكويت . عندما وصل الى الزبير راى اعدادا ضخمة من الجنود يخوضون في اوحال تسببت بها امطار حامضية غزيرة لم تتوقف طوال ثلاثة ليال . في محاولات محمومة للوصول الى البصرة ، كان الجميع يتجنب الطرق العامة المعرضة لقصف الطائرات . لم تكن الطرق البديلة واسعة لتسير فيها العجلات بسرعة بعد ان سدت العجلات والدبابات والمصفحات المحترقة والجنود القتلى على جوانبها ، مساحات منها . في بؤرة الحشد الخاكي الطيني، انقاد بوسف ليد سحبته الى عجلة نقل تخص وحدته . استطاع السائق اصلاح عطب تعرضت له اثناء تنفيذ امر الانسحاب لاعادة تنظيمهم في بغداد. بدا السائق فرحا وهو ينادي زملاءه مستعملا منبه السيارة بايقاعات متناغمة وكانه يدعوهم للانضمام اليه في رحلة استجام او مشاهدة احد افلام العيد. شعر يوسف بقوة حضورالاجساد في حوض العجلة . لم يتكلم احد . هيمن الصمت على الجميع . كان بعض الجنود باصابات خطرة إلا ان احدا منهم لم يمتلك القدرة على الانين. كان سير العجلة ببطء شديد بمثابة قلق لم ينبس به ، وترقب طائرة قد تظهر بين لحظة واخرى تجد فيهم صيدا مغريا ، مسلمة لم يصرح بها اخرست الحناجر وقتلت الكلمات . مرت العجلة بحذر الى جانب عشرات العجلات وناقلات الاشخاص المدرعة المحترقة والمعطوبة وكأنها تخشى ايقاظ الموتى من البشر والحدبد. مسح يوسف المنظر بشرود وعدم تصديق وبطمأنينة موغلة في الاسى والقدم تفصله عن كل مسافات الكارثة الواسعة المفجعة تلك . تعلقت انظاره بعجلة جنود محترقة على جانب الطريق تدلت منها جثة جندي بللتها الامطار صنعت بركة وردية صغيرة اختلطت بالوحل. لم يستطع تمييز وجه القتيل الذي منح الارض ملامحه بينما تدلى جذعه وعلقت اطرافه في حوض العجلة . انشغل يوسف بتخمين عمر القتيل و تأمل المشهد بنظرة خبير يتفحص نبتة او سطور كتاب قديم. لم يبد عليه الانفعال ولم يركز انظاره في بسطاله كما فعل من معه طوال الوقت . تفحص كل تفصيل بما تبقى لديه من طاقة .. الى اقصى ما يستطيع . كانت اعداد السابلة تتضخم كلما اقتربت البصرة. لوح الجنود الذين كانوا يسيرون على جانبي الطريق للعجلات بيأس . لم يتوقف السائق . كانت عجلتهم مكتظة . رجا احد الجنود السائق التوقف لحمل جريح لوح لهم بصرخات اختلط فيها البكاء بالتوسل حتى بدآ نواح ام في مقبرة . ما ان توقفت العجلة حتى هجم عليها جنود تملكهم الاعياء وتعلقوا بحوافها . افسح يوسف مكانا للجندي الجريح من غير ان ينظر اليه . ظل يحدق في الافق البشري والحديدي المحترق . شعر بحرارة تتسلل الى ذراعه . تحرك قليلا فتحسست كفه لزوجة . كان الجريح الذي غفا متكئا على كتفه ينزف بشدة . لم يتحرك يوسف . شعر بالبرودة تخلل عظامه وتغطس عميقا في روحه . واكبها . لم يجد لها قرارا. ظل يتاملها كرة ثلج تتدحرج بسرعة من قمة جبل الى هاوية . تغذيها وجوه وانآت واجساد . وجوه يعرفها واخرى لايعرفها . بدت الهاوية بعيدة والوجوه اكثر مما يستطيع تقديره ، تصوره . تناهى الى مسامعه صوت ينشج" مو بدينا نودع عيون الحبايب مو بدينا .. والعشك لحظة عمر وتمر علينا " تخيل ان الصوت صوته . كان احد الجنود ينوح بتلك الكلمات حتى كانت حشرجة اكثر منها كلمات . افاق الجريح على صوت النشيج وبكى بصمت . نظر يوسف للوجوه المحيطة به . راى العيون تغالب الدموع . انضم جندي الى النشيج . تبعه اخر .. واخر . سارت العجلة مثقلة بالنشيج . توقف النواح عندما اعترضت عجلتهم شاحنة معطوبة . حاول السائق تجنبها بالخروج الى الطريق الترابي . انغرست العجلة بالوحل . نزل الجميع ماعدا الجريح والمغني الذي شله الحزن واستغرق في غيبوبة النشيج . كانت الغيوم السود : غيوم الحرائق والانفجارات قد غطت الظهيرة . من فتحة في سواد الغيوم افزع صوت طائرة الجميع قبل ان تظهر . اسرعت الاجساد للتوغل في السواقي والاحراش على جانبي الطريق . وجد يوسف نفسه في حفرة موحلة صنعتها احدى القنابل . تعالت الانفجارات وتطايرت الشظايا . شعر يوسف ياثقال هوت على ظهره . اختفت الطائرة إلا ان يوسف ظل منبطحا منغمسا في الوحل ، مغطى بجثتين تطايرتا من العربة بفعل عصف الانفجار . ود يوسف لو يظل هكذا . يغفو اغفاءة طويلة ويرتاح . ربما يصحو بعدها ليتاكد احساسه ان كل ماجرى ويجري لايتعدى كونه كابوسا طويلا . كان وجهه منغرسا في لزوجة الوحل وبرودته جاهدا ان يرى نهاية لكرة الثلج التي تحرق روحه بصقيعها . تفقد الجنود الاحياء المكان . اقتربوا من الحفرة . حاولوا تحريك الجثث . خالوا ان يوسفا جثة هو الاخر لولا حركة من يده . راى يوسف من قاسمه الحفرة . كانت الجثتان للمغني والجريح الذي تسلل دمه الى جلد وعظام يوسف وروحه قبل ان يتسلل الموت اليه ويتحول دمه على ذراع يوسف تذكارا لاغنية معتقة الحزن لاتنتهي. نظر الى وجه المغني . كان مغمض العينين وكانه يطبق على كلمات خرجت من اعماق روحه . بينما كانت عينا الجريح تنظران بسلام الى نقطة ما ، بدا ليوسف انه يحدق بطائرة ورقية تلوح في الافق بالوانها الزاهية في يوم اياري هادئ . نظرة بعيدة منيعة لاتمس لم يتبدد منها شيء . نجى عشرة جنود بترت ساق احدهم . حاول يوسف ان يوقف النزيف بقمصلته العسكرية المصنوعة من الفرو . نظر الى الجريح . لم تكن تعابير وجهه حزينة او يائسة . كانت تشي برغبة في الراحة .. تنشد نوم عميق. اشار بحركة من يديه " اتركوني" قبل ان يغط بغيبوبة . نظر يوسف الى ساق الجريح الاخرى . داهمه وجه احمد الشاحب بعد الانتهاء من بتر ساقي جندي ، قبل ان يذهب في اغفاءة لم يفق منها. لم يقو يوسف على حمل الجريح الذي كان ضخما بالنسبة الى يوسف. هرع السائف وحمله . سار الجميع على حافة الطريق بصمت . كانوا يسيرون بارواح مثقلة بوجوه تحولت الى جثث في غفلة من الزمن . وجوه شاركتهم الفاجعة والنشيج" مو بدينا نودع عيون الحبايب .. مو بدينا " ساروا وكل واحد منهم مغرق في عزلته ، منغمس في وحدته تحت سماء مغلفة بغيوم سود تضلل الاحساس بالوقت. ساروا برتابة وايقاع واحد كانهم كرسوا حياتهم من اجل تحقيق هارموني في فوضى الموت المجاني وعبثه . توقف السائق وطلب مساعدته في حمل الجريح الذي اصبح ثقيلا . وضعه على الارض . اقترب جندي لرفعه لكنه كف عن المحاولة . وضع اذنه على صدر الجريح وتفحص نبضه . تركه من غير اي كلمة . جاء جندي اخر وقام بالشيء ذاته . تبعه اخر ... تفحص كل واحد منهم الجريح وكانه لايملك سوى ان يقف في طابور ليؤدي مهمة ثقيلة يعرف نتيجتها مسبقا . بعد ان انتهوا من فحص الجريح/ الجثة ساروا تباعا . متفرقين متجنبين السير جنبا الى جنب . حافظ كل واحد منهم على مسافة تبعده عن الاخرين . شعر يوسف بالحمى تجتاح بدنه . غروب بارد اخر ماذا لو افترش الارض المعجونة بالدم والمطر واستسلم لاغفاءة ابدية ! لكنه عاد يردد " انه كابوس ,, ليس حقيقة , انها الحمى فقط" باغتته اصوات الجنود الثمان المتشذرمين تصرخ بعجلة لاحت من بعيد . لم يخفف السائق من سير العجلة فما كان منهم سوى ان يعترضوا العجلة باجسادهم . فتحوا اذرعهم متأهبين لاحتضان العجلة. ضغط السائق على الكابح بقوة جعلت العجلة تنزلق على الاسفلت الموحل وتتوقف بعد ان استدارت نصف دائرة . لم يابه الجنود لشتائم السائق البذيئة واسرعوا نحو العجلة. كان يوسف اخر الواصلين . تحركت العجلة قبل ان يضع جسمه في حوض العجلة فامتدت الايادي لسحبه . توقف بجانب سطح القمرة , وضع وجهه عليها . تسللت اليه برودة الحديد فغفا واقفا . في عمق غفوته تسلل اليه نحيب بعيد لم يستطع تحديد ان كان للجنود الذين معه او لذلك المغني . هل ما يسمعه ينتمي الى اللحظة ام الى الماضي .. الى نحيب اعتاد سماعه في مراحل مختلفة من حياته ؟ اضطرت العجلة لسلك الطرق القديمة بعد قصف معظم الجسور الرئيسة في المدن التي قطعوها وسقطت في الفرات الحضن الحنون الذي لايرفض الابناء والاشجار والاحجار والحديد . سارت العجلة مثقلة بكوابيس الجنود ونومهم المؤجل ، تتلمس طريقها بدون انارة تقطع مسافات مضاعفة في الطرق القديمة تحت سماء لاينيرها قمر او نجوم تحرقها نيران الصواريخ والطائرات . كانت العتمة تغلف الهواء المشبع برائحة الدم والحرائق . استيقظ يوسف على صوت السائق وهو يخبرهم عن نفاذ الوقود . كان يجلس متكئا على جدار العجلة بينما انحشرت قدماه تحت اجساد استسلمت للنوم . تساءل احدهم" وين وصلنا ؟" رد السائق بصوت ضعيف متعب عذبه الخوف والسهاد" مدخل الكوت" عاد بعض الجنود الى النوم وكانهم لم يسمعوا ماقاله السائق الذي فقد اعصابه وصرخ بهم" احنا هدف عسكري جاهز .. ماتفهمون؟" كان يوسف اول من غادر العجلة من دون ان يلتفت او يقل كلمة.ناداه السائق فلم يرد. حذره السائق " انزع رتبتك العسكرية .. لاتمشي بالطريق العام " واصل يوسف طريقه غير آبه بالتحذير . كان يشعر بأنه ليس هو ذاته وان الجسد الذي يسير لايمت اليه بصلة . وان شخصا اخر يرى ويسمع ويتنفس ويتبول ويغفو وينام ويستيقظ . وصل مجمع الباصات فوجده يعج بالجنود . ما ان تصل حافلة او مركبة حتى تكتسحها الامواج البشرية بقوة وعنف . يدخلونها من النوافذ والابواب فتمتلئ بلمح البصر. تساءل يوسف عن المنبع الذي ينتهل منه هؤلاء الجنود قوتهم . فكر ربما هي غريزة الحياة . شرب يوسف الشاي عند عجوز يبيع الشاي والسكائر في ركن من ساحة الكراج الكونكريتية . تذكر انه لم يتناول شيئا منذ اكثر من يوم . استغرق دقائق في ارتشاف الشاي على مهل . كان شارد الذهن حتى تنبه الى صوت العجوز يساله" منين جييتك ياوليدي؟" - " اه ياخالي! من الجحيم" لم يكن قد انهى كلماته حتى سمع جلبة وحركة غريبة تبعها ركض محموم وفوضى.. اقدام تتعثر واجساد تقفز متسلقة جدران ساحة الكاراج . كان الجميع يحاول مغادرة المكان في وقت واحد . سمع صرخة تردد بفزع" وصلوا ,, وصلوا " تساءل يوسف من الذي وصل .. الامريكان؟ تجمد في مكانه لا يعرف ما يفعل. سحبه العجوز تحت الطاولة التي يستعملها لبيع الشاي . انصاع ليد العجوز واختبأ . سمع صوت اطلاقات نارية واصوات تخبط ارجل وصرخات . بعد زمن خاله لن يأتي ، سمع العجوز يدعوه للخروج. " اسمع ياوليدي.. انطيني قمصلتك العسكرية واخذ سترتي. انزع بسطالك والبس شحاطتي.. لاتمشي بالشارع العام " احتاج يوسف ثوان ليست قليلة ليخرج عن صمته ويسأل : خالي .. شنو اللي صار؟ منو اللي يضرب؟" - " لا تسأل ياوليدي .. اللي يسترنا من اللي جاي " نفذ يوسف كلمات العجوز بلا تردد او طرح اسئلة . لم يكن عليه ان يناقش او يفكر. لم يكن يفعل طوال اليوميين الماضين غير الاستجابة لحركة الحشود ومخاوفها. لم يفعل غير ترك جسده يتحرك كما تتحرك الاجساد المحيطة به. غادر يودعه دعاء العجوز" الله يوصلك لامك وام وليداتك بالسلامة .. يحفظك ويحفظ كل شاب" كانت الفوضى تعم المدينة . راى نسوة يلطمن صدورهن وينثرن التراب على رؤوسهن الملفعة "بالعصب" السود . لطخت بعضهن رأسها بالطين وكان بعضهن يسرن وهن يضربن صدروهن نائحات. غادر يوسف المدينة عبر بساتينها وطرقها الخارجية . قابل بعض الجنود يسيرون في جماعات . لمح من بعيد شاحنة تحمل شحنة طماطة. لوح الجنود للسائق . توقف وهو يقول" صعب اخذكم .. تتلف الطماطة " اقنع الجنود سائق الشاحنة بتدبر امر الجلوس من دون اتلاف شحنة الطماطة. ازاحوا اكوام الطماطة التي كدست فوق بعضها في حوض الشاحنة، وحشروا اجسادهم على حافة الشاحنة وتشبث بعضهم في جوانبها. اطلت الشمس بعد غيابها ايام .لم يكن هناك من صوت غير صوت العجلات وهي تقطع الطريق . التهم الجنود بعض حبات الطماطة. دب جو من المرح عندما صاروا يرمون بحبات الطماطة الى الجنود في العجلات العسكرية السائرة في طريقهم . قطع فاصل المرح القصير صوت طائرتان التمعت اجنحتهما باشعة الشمس . قفز الجنود الى جانبي الطريق قبل ظهور الطائرتين . بومضة من الزمن هبطت اربعة صواريخ على تلك العجلات فاصابت اربعة منها. تناثرت اجساد الذين كان الموت اسرع منهم . رمى عصف الانفجارات ببعض الاجساد على الاسفلت وعلى جانبي الطريق. اصطبغ الاسفلت بدماء الجنود والطماطة التي تناثرت على مسافة اكثر من كيلومتر مختلطة باطراف القتلى والشظايا . لم تساور يوسف مشاعر رعب . حيوات تختفي بلمح البصر. مشهد تكررت رؤيته حتى صار لايعرف ان كان قد مر به من قبل او انه تخيله قبل وقوعه ! لطالما شعر بانه قد راى هذا من قبل بالتفاصيل ذاتها : تفاصيل الموت المجاني المتكرر بعبث منذ سنوات طويلة لم يعد يتذكرها . متى راى هذا من قبل؟ حاول ان يتذكر . لم يستطع لكنه كان واثقا من مشاعره . لقد عاش وتالم وخاف وهو يرى هذا المشهد مرات عدة من قبل حتى ان خفقات قلبه لم تعد تتسارع وهو يعيش تلك اللحظات . لكنه ظل يردد " انه كابوس وليس حقيقة .. ليس ما اراه واعيشه حقيقة !" كان كلما مر بامر مماثل وخرج منه حيا يزداد يقينا من ان ما يعيشه لايتعدى كونه كابوسا سيفيق منه في لحظة ما ، بالرغم من انه .. هناك في اعماقه السحيقة كان يرى ويشعر ويحس بكرة الثلج التي تاخذ بطريقها كل شيء الى الهاوية التي رغب كثيرا برؤيتها كي يصحو من كابوسه وينام طويلا بلا كوابيس . كان يود بشدة ان يرى الهاوية ليستيقظ او ينام طويلا . كان مستغرقا بحلمه للتخلص من الكابوس عندما سمع صرخات هيستيرية : اصوات بحت من شدة الانفعال تحاول الانفلات من طبقات حددتها لها الطبيعة . رأى الجنود وهم يحتضون بعضهم ويبكون . تمدد بعضهم على الاسفلت المصبوغ بالدخان والدم والطماطة ووجهه الى السماء باكيا. لم يتحرك يوسف من مكانه . كان ينظر باستغراب ودهشة وعدم فهم مشوب بالشك. فكر " متى اصحو من هذا الكابوس المرعب . لابد اني مجنون او في طريقي الى الجنون" انطلق نحوه احد الجنود واحتضنه وهو يبكي . استسلم يوسف لذراعي الجندي وحضنه ونشيجه ودموعه . سمع كلمات الجندي المحتنقة بالمرارة " تصدك راح نرجع لاهلنا .. الخنازير حتى اخر لحظة يتلذذون بقتلنا " ادرك يوسف ان الحرب توقفت . ادار ظهره لمهرجان البكاء وانطلق يسير والدموع تنهمر على خديه . لم يحاول كفكفتها او تجفيفها . ترك العنان لقدميه وعينييه . ***** لم يكن الوصول الى بيته هو مادفعه للسير اياما بقدمين متورمتين متقرحتين . كان الاستمرار بالمشي منفذا لتخدير روحه الفزعة المنذهلة وقلبه المنكمش مثل عصفور يحتضر. مشى مرددا " ما عشته ليس حقيقيا .. انا حي .. واحمد حي. نحن احياء.. انه حي .. نحن احياء" . كان يردد هذا لكن صورة احمد وهو يخرج شاحبا من غرفة اتخذت غرفة عمليات على عجل ، سرعان ماتعود اليه. خرج احمد مترنحا . مال مستندا الى الجدار ثم انهارعلى كتف يوسف. كان يرتجف وينضح عرقا . احتضنه يوسف واجلسه على كرسي . لم يقو احمد على قول او فعل شيء . استسلم لاغماءة لم يعد منها. كان جراحا ماهرا غير ان صرخات الجريح، قبل عملية بتر الساقيين اثر انفجار لغم ، كانت تحاصر خبرة الجراح ونجاحاته. توسل الجريح باكيا" لاتبتر . بعدني ما تزوجت .. خطيبتي تنتظرني.. ارجوك " كانت تلك الصرخات وتنازلات الجريح تصادر قدرة احمد على التحمل" ابتر وحدة واترك وحدة.. لاتبترهن اثنيناتهن .. الله يخليك دكتور .. ارجوك .. اترك وحدة " الجريح يصرخ واحمد يبكي ويبتر . عاد الجريح الى الوعي بساقيين مبتوريين ولم يعد احمد من غياهب صراخ الجريح . غاب في تلك البئر الى الابد . يعود يوسف بساقيين متورمين وروح متورمة ، لاينشد الوصول بل تخدير الحقيقة والباسها ثياب الكابوس. سار بخطوات آلية لامبالية ، مر بالدبابات والمدافع والهاونات المحترقة في الطريق ، بالجنود السائرين افرادا وجماعات وجوههم متعبة ونظراتهم شاردة ، بالامهات اللواتي يسألن عن اولادهن ذاكرات اسماء واوصافا تنطبق على معظم الجنود ، بالمدن المنذهلة المظلمة الخائفة ، مر بأماكن لايدري ان كانت توصله الى بيته . يسير حتى يبتلعه التعب فيغفو في محطة قطار او كراج سيارات او في ظل بيت مهجور . تمتد اياد امهات واباء تناوله طعاما وتنتظر اجابة عن ابن او اخ او زوج . يجيب غير مدرك لمعنى ما يقال او كيف ينطق بالكلمات ويرد على التساؤلات . كان يشعر بانه خارج جسده يتفرج على اخر يستمع ويجيب ويأكل ويشكر ثم يسير . كانت صورة احمد والجريح وتفاصيل ايام راى فيها من عرفهم ملابس "خاكية وبساطيل" يتحولون الى جثث ، ترافقه ملتصقة به: بيوسف الذي لا يعرف ان كان هو داخل الجسد او انه من يتفرج على الجسد المسمى يوسف! في تلك اللحظات تمارس روحه دفاعاتها بالتفكير بضحايا الكابوس : بماذا شعروا عندما داهمهم الموت وهل ممكن ان يكون الموت اكثر الما مما يعيشه وهو يراهم وكأنهم لم يكونوا.. كيف يمكن لرصاصة او قذيفة او اي قطعة حديد من صنع الانسان ان تنشر كل هذا الخراب.. تطيح بهذا الجسد الاعجوبة؟ حالما ينتهي من افكاره هذه ينتقل الى دفاعات اخرى فيتذكر بيته واسرته . ولداه وابنته . يخرج من جيبه صورة التقطها لابنته في عيد ميلادها الثالث وهي تحمل قطعة كيك بكلتي يديها بينما انتشرت الكريما حول فمها الضاحك. ينظر الى الصورة فينسى الحرب والمكان الذي يجلس فيه . يرى نفسه في بيته وفي حديقته . . ولديه يلعبان الكرة معه .. مريم تتسلق ظهره . يرغب في ان يحتضنها بقوة ، يخدش وجهها الناعم بذقنه . يحتضنها حتى تصرخ به مهددة" كافي بابا .. ترى بعد ما احبك" عند هذه اللحظة تغادر روحه سكينة الاسرة وتعود الى مريم التي فقدها منذ سنوات . يفكر ان كانت على قيد الحياة. تعود الاسئلة تعذبه وتؤلمه : هل اختارت ان تختفي من حياتي ام انها اجبرت على ذلك.. ماذا حدث لاخيها .. لم ليس هناك اي اثر لهما؟ هل خذلتها لاني لم اعثر عليهم والانتقام لها ..لماذا لم تنتظرني .. الم اخبرها بأني لن اعود حتى امسك بهم؟ كانت صورة مريم في ذلك اليوم الشتوي وهي تخبره عما فعلوه بها تجعله يضرب رأسه ويبكي . ياتيه صوتها المتحشرج وهي تمسك يده وتتحدث في تلك الظهيرة عنهم وعنها فيقمع صراخه ويضرب رأسه. تتحدث مريم وكانها مسرنمة .. وان ماحدث لها لايعنيها بل يعني امراة اخرى او فيلم رأته وتسرد احداثه عليه .كانت هي ذاتها غير مصدقة ان ذلك قد حدث لها فعلا. يقاطعها يوسف مستفسرا لكنها تعيد سرد الحكاية من البداية الى النهاية من غير ان تجيبه او تتوقف عند مقاطعته حكايتها . كانت تتحدث غارقة في ذات غير ذاتها ، وحيدة في درب تحاول تلمس ذاتها فيه ولا تنجح ، فتعود لبداية الدرب علها تعثر على ما يخصها ويعنيها في حكاية تسمع صوتها يكررها كلما انتهت بآلية وبلا توقف. اعادت الحكاية مرات فما كان من يوسف إلا ان يمسك بها . هزها بعنف علها تفيق من دوامة الحكاية . صرخ بها ان تتوقف. صمتت وهلة . اتجهت انظارها اليه لكن لم يبدو عليها انها تراه .. وكان صورته منقوعة بالضباب .. عادت لسرد الحكاية من جديد . لم تتوقف حتى احتضنها في تلك الحديقة العامة الممتلئة باناس يحتفلون بدفئ الشمس .. احتضنها بقوة . قمع صرخة مدوية في داخله . راحت تبكي بصمت . كان كلما استعاد تلك اللحظات يستغرب دموع مريم تلك ويتساءل : ايمكن لانسان ان تكون له كل هذه الدموع !! كان انهمار دموعها مذهلا . يمسحها بمنديله .. بكفه فتزيد انهمارا . حاول ان يتذكر ملامح وجهها فلم يستطع . لم يتذكر سوى ذلك اللقاء وكان ملامحها التي طالما انطبعت على صفحة روحه استحالت الى دموع ... لا شيء سوى دموع منهمرة يتذكر دموع مريم فتنهار دفاعاته . يبكي الجنود الموتى الذين لا يعرفهم : يرى بيوتهم والاهل الذين بانتظارهم . تمر امامه نعوشهم متشحة بالاعلام والذهول الذي يلف الامهات والزوجات والابناء والجيران والاقرباء حين يتجه النعش الى باب الدار.. صرخات عدم التصديق والبكاء والعويل .. المقابر .. صوت القران واللون الاسود .. حينها يكون الظلام قد لف المكان فينام يوسف ليعود في فجر جديد ودفاعات جديدة |