بين السيرة الذاتية الروائية "طفولة" للروائية ناتالي ساروت وسيرة " العاشق" للروائية مارغريت دوراس وبين" حديقة النباتات" للروائي كلود سيمون ـ جميعا من موجة الرواية الجديدة ـ هناك سيرة ذاتية روائية مروية بشغف وحنان ودفء وعفوية وجرأة، العودة فيها الى الماضي أساسي لكنه ليس الماضي الحرفي بل الماضي المستعاد لأن دلالة العمل الفني، كما يقول جيرار جانيت وهو يشرح بنية الحكاية في (بحثاً عن الزمن الضائع) لمارسيل بروست، في كتابه المرجعي الذي صار الكتاب النقدي المقدس للنقاد العرب" خطاب الحكاية":( لا تتأسس إلا في الأبنية الملتفة والمسبوكة والمعقدة والافعوانية من النسخ والاسترجاعات والتعارضات وتحريفات الواقع. وكما أن هدف العمل الفني لا يتحدد في" وصف الأشياء" وفي محاكاة الواقع محاكاة كلية أو جزئية، كذلك ليست غايته ممارسة لعبة المرآة مع المؤلف) وهي هواية محببة للقارئ العادي الذي يسقط عن وعي أو عن غرض لعبة السرد على حياة المؤلف لأنه التفسير الأسهل والقريب المنال وغير المكلف، وهذا يعني أن القراءة لا تنزع من النص دلالة بل تعطيه، لأن الحالة الأولى قراءة ميكانيكية سلطوية قسرية والثانية ابداعية. نزع( الدلالة) عن النص، قسراً، وتلبيسه بدلالة مختلفة مقحمة من الخارج تعتبر هتكاً لقواعد القراءة والرؤية الادبية الصحيحة وهو عمل شائع وتقليدي.
(طفولة) ناتالي ساروت هي حوار بين الكاتبة وبين الذات، و(العاشق) لمارغريت دوراس سرد للماضي عبر الحاضر من خلال التزاوج بين الأشكال والحوارات وهي طريقة دوراس المعروفة في رواياتها الكبيرة، ولكن (حديقة النباتات) لكلود سيمون هي نوع مختلف تماما من السرد لأن هذا الكاتب الذي لم يكن معروفا لدى غالبية النخبة الادبية الفرنسية حتى عشية اعلان فوزه بجائزة نوبل مما جعل كتاب الاخبار في الصحف الفرنسية حائرين في نشر خبر الفوز لروائي ومواطن فرنسي مجهول، هو كاتب عسير الفهم والسبب الآخر يتعلق بطريقة عيش سيمون ونفوره الفطري من نخب الادب والأهم من ذلك صعوبته وعسره مما يجعل الاستمرار في قراءة رواياته( بلا نقاط ولا فواصل وتداخل السرد والتداعي والقفز على الأزمنة والسرد المتوازي، اي تعدد مستويات السرد... الخ) نوعا من العذاب لقراء الروايات الكلاسيكية أو روايات المغامرة والتشويق، والمغامرة الوحيدة في الرواية كما يصرح سيمون نفسه ليست سرد مغامرات بل مغامرة السرد ـ هو نفسه على المستوى الفردي طبق هذا المبدأ حين هرب من معسكر اعتقال نازي بعد الأسر وعمل في المقاومة ومن قبل مع الجمهورين في اسبانيا لذلك كل رواياته هي سيرته الشخصية.
لكن ما هي دلالة الاستشهاد بهذه النماذج الثلاثة في سرد السيرة الذاتية الروائية؟ هناك اسباب تحاول أو ترغب في توضيح اشكالية الدمج الحرفي بين السيرة الذاتية الروائية وبين حياة المؤلف وتحويل السيرة الروائية الى لعبة مرآة بتعبير جيرار جانيت ومطابقة حرفية بين الواقع وبين المتخيل وهي مقارنة تحدث كثيرا وبلا جدوى لأنها لا تخدم القارئ نفسه مهما كان هدف القراءة، وتقيم معماراً ليس موازياً للنص لأن هذا مقبول ولكن هذه القراءة تقيم معماراً زائفاً ملفقاً بزعم انها كشفت مفاتيح النص وما من نص في العالم ـ بما في ذلك النصوص الدينية ـ يحمل مفتاحا واحدا للقراءة وإلا لماذا كان هذا التعدد في المذاهب والتفاسير والشروحات والحروب الدينية؟ الثابت في السيرة الذاتية الروائية هو( بنية الحكاية) وهو موجود أيضا في الحكايات الشعبية والأساطير والخرافات والأمثال العامة ولكن هذه البنية تتشظى مع مرور الزمن ونوعية القراء والرواة ولا تسلم في النهاية إلا النواة الصلبة للحكاية أو ما يعرف بالبنية وهي، بتعبير جراهام جرين، حبة القمح التي تنتج حقل السنابل. هذا الحقل ليس السنابل وحدها بل الأشواك والأعشاش والطيور والزواحف والحيوانات وحوادث العمل والحب والموت والرعي والحصاد والبذار والمطر والانتظار والعواطف والأرق والمشقة وفرح الحقول والأمهار الصغيرة والربيع والخ. كل ذلك يتفجر من فكرة واحدة ـ حبة قمح ـ أو بنية حكاية اذا أُحسن تفجيرها من الداخل والغوص في عالم الفكرة كما يحدث لحبة القمح، لكن الحبة، البنية ذاتها، لا تموت ولكنها تضيع وتتلاشى وتشرق في الحقل الواسع أو في حقول أخرى: إنها رحلة الغواص، أيضاً.
على سبيل المثال: خلال متابعة المسلسل التلفزيوني( اعلان حالة حب) وبغبطة نفسية غير مفهومة(لماذا يجب أن نفسر كل شيء؟) وجدت أن فضاء السرد المشهدي في المسلسل رغم تشعبه وتشظيه وحركته الملتوية والبارعة والمنتجة للأحداث ليس بعيدا عن(بنية الحكاية) الأصلية لسيرتنا الذاتية الروائية( الأعزل ـ 2000) ورغم التوسع الكبير والواضح للأحداث لم أتمكن من منع نفسي من العودة للتنقيب في "الأعزل" وهي كما قمنا بتعريفها مرة:(سيرة رجل تعرضت حياته الى وليمة نهب مستمرة في كل مكان يصل اليه لكنه متمسك بالأمل والمبادئ التي حاولوا أخراجه منها بلا جدوى وتدثر ببراءته وعزلته وطفولته، في العواصف، كما يتدثر ثعلب قطبي بفروه من العاصفة وينام، بسلام).
إن عبارة( التنقيب في سيرتنا) الواردة أعلاه ليست دقيقة تماما لأن كل نص سيروي سواء كان مكتوباً أو متخيلاً أو معاشاً يظهر، حالاً، لكنه يظهر في بنيته الأصلية الحكائية أولا، وفي حقل السنابل أو الاحداث المتولدة تباعاً، ثانيا، وفي الأسماء، والزمن، والصراعات، ومستويات السرد، والشخصيات، وفي الاطار المرجعي العام الذي ينظم بنية الحكاية ويتحكم بها بقوة ودقة، ثالثا... والخ.
لا يجري هنا التلميح الى شيء محدد وأرجو ألا يساء الفهم لأن الكلام هنا هو قراءة مقارنة لبنية الحكاية وهي حكاية على المستوى الاجتماعي ليست جديدة ولا نادرة بل هي من الحكايات المكررة كثيراً في مجتمعات أبوية صارمة ومنتجة، دائما، لسلطة القمع والاستبداد والزجر العليا، وهناك من يعتقد من المفكرين العرب ان البنية الابوية الذكورية هي المحرض الثقافي الرئيس على انتاج بنية السلطة الدكتاتورية والممهد لذهنية الخنوع والطاعة العمياء والاستسلام المقنّع.
ان التعامل مع الحب والعشق والهوى بطريقة القتل أو في التسامح الساذج والبليد وتصويره على انه الجنون ليس جديدا، لكن الجديد هو أطراف الصراع والزمن ونوعية الشخوص والمعالجة ومجموع العناصر السردية التي ترافق النص ـ المسلسل ـ الفيلم ـ الحكاية أو الرواية.
إن السيرة الذاتية الروائية( الأعزل) تتعرض، بايجاز مركز، لحالة حب على خلفية حرب وحقد وقتل. يهرب العاشقان كما في مسلسل( اعلان حالة حب) ويفكران(على خلفية صراعات عائلية طبقية وسياسية حادة) في الهرب خارج العراق عبر الجبال كما في المسلسل لكن غلق الحدود ونقاط الحراسة كما في المسلسل تحول دون ذلك، وينتهي الأمر بقتل يسرى في الأعزل. أما في المسلسل فقد تم قتل يسار ثم يارا (نغمة الاسم بين يسار و: ياـ س ـ را... واحدة مع يسرى الأعزل) ومن مشاهدة مشاهدة الحلقات وسياق الأحداث وتسلسلها وشريط المقدمة الدعائي الذي يسبق المسلسل يبدو في النهاية أن الرابح لا يأخذ شيئاً وينتهي الجميع، خاسرين.
الذي قتل "يسار ويارا" في مسلسل ( اعلان حالة حب) ليس المخرج القدير حسن حسني ولا المؤلف البارع أحمد هاتف، ولكنه هو نفسه قاتل يسرى في (الأعزل): عادة ما تتواطأ السلطة السياسية الحاكمة مع السلطة الاجتماعية والذكورية في جريمة القتل ويفلت القاتل بلا عقاب كغاسل " للعار" لكي يُقبل ويُدمج في نظام اخلاقوي مزيف كعضو شريف بعد أن تم تنظيف الماضي مع ان العار الحقيقي هو جريمة القتل والسلطة الوحشية الداعمة لهذه الجريمة وجريمة مصادرة الحرية والكرامة الانسانية كما لو ان اغتصاب السلطة والثروة والحرية لا يستحق غسلاً للعار.
ان يسرى ـ الأعزل ـ فضلت العودة لمواجهة مصيرها بشجاعة من أجل أن تنقذ العاشق الواقع في فخ مطاردات طويلة بين الجيش والقبيلة والعائلة( كما في المسلسل، أيضا) في زمن حرب مسموح فيه القتل والموت على الخشبات وكل أنواع الهتك الجسدي والجنسي والسياسي والاقتصادي والحربي والأخلاقي وغير مسموح فيه بالحب. تقول يسرى في النهاية إنها فعلت ذلك من أجل انقاذ الحكاية، وهذا ما فعلته يارا في اعلان حالة حب كما رددته مرات لكي تنقذ هذا الحب من الضياع : ليس الضياع بمعنى الموت فحسب ولكن بمعنى النسيان أو التلويث لكي لا يتحول الحب الى حقد كما حصل فيما بعد حين انقلبت المعايير.
إن حلم وتضحية يسرى قد تحققا بعد أن تحولت تجربة الحب والموت والمطاردة والحقد والصراعات العائلية والطبقية في زمن الحرب الى حكاية في( الأعزل) رغم فشل التجربة في الواقع، وفشل التجربة لا يعني فشل المبدأ السامي الذي تأسست عليه، اي تم انقاذ الحكاية من النسيان ومن التشوه ومن القتل المعنوي الأخطر وهذا هو الانتصار الحقيقي للقلب الانساني، رغم ان هناك ومنذ نشر(الأعزل) من يحاول بمشقة وفي مناخ ثقافي" متساهل" جدا ازاء هذا النوع من الضحالة غير المسماة، تحويل قصة الحب تلك الى جريمة وبالعكس تحويل الجريمة الى بطولة(تطابق بين منطق السلطة السياسية وبين منطق السلطة الاجتماعية المنتج الأفقي لها) وهو أمر نادر الحدوث في ثقافة أخرى حين يتحول المؤلف الى قاتل لشخوصه الروائية:( نوعية القارئ، ثقافةً، وأخلاقاً، تحدد موقفه هو من الحياة ومن النص)، وأي مؤلف في العالم كان سيسمو ويفاخر ويعتز، في زمن الذبح العلني، بـ"جريمة حب" حقيقية أو متخيلة نصية، لأن المطلوب، اليوم، تصفية كل البقع النقية والشجاعة والنظيفة في هذه الحياة ـ حياتنا ـ التي صارت نوعاً من الجحيم الأرضي المستمر لكنه هذه المرة من صنع مسوخ بشرية.
إن قتل يارا ويسار في (اعلان حالة حب) حوَّل يسرى في( الأعزل) الى حبة قمح جراهام جرين والى حقل سنابل وحكايات في انتظار ربيع قادم ولو على صورة عشاق قتلى فارين من المطاردة عبر الغابات والحقول والمفارز والحروب نحو مواسم حب حقيقية، نحو زمن يكون فيه اعلان حالة حب بدل اعلان حالة حرب هو حلم الأعزل وهو حلم لن يموت، أبدا، لأن الضمير العراقي، رغم الدمار، ما يزال حياً، ويقظاً، وباسلاً. كان الثمن فادحا لكنه كان رائعاً: حبة قمح واحدة وبنية حكاية تنتج حقول سنابل وحكايات لعشاق رائعين هاربين من مذبحة مستمرة منذ قرون.
ـالسيرة الذاتية الروائية(الأعزل) :الطبعة الأولى دار بيرغمان،النرويج،2000، والطبعة الثانية عن مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، 2007. |