سيجد الباحث اعجاباً منقطع النظير في الصحافة العراقية احتفاء بصعود المانيا وحيويتها، في العهد النازي، وقدرتها على الابداع الصناعي، وبناء جيش مكين. وهو ينعكس بوضوح في الصحافة العراقية يكاد يقتصر على ممثلي النزعات القومية (العراقية، والعربية). وقد درس الباحث بيتر فين في اطروحة مميزة هذا «الاعجاب» بألمانيا عند التيارات العروبية في العراق، حتى الليبرالي منها.
وهناك اشارتان حول المانيا لدى قائدين فكريين. الاول ساطع الحصري، العثماني – العروبي الذي كان المدير العام لدائرة التربية والتعليم، والثاني يوسف سلمان (فهد) (اعدم عام 1948) وهو زعيم وباني الحزب الشيوعي.
فالأول امتدح المانيا الهتلرية من زاوية اعجابه ببناء الوحدة القومية في دولة قوية، ورفضه الصريح للماركسية - الستالينية في مقاربتها الامة كبناء اقتصادي صرف. فالحصري اعتمد في نظريته عن الامة على فيخته بوصفها كياناً روحياً، معطى. ولعله وجد المانيا النازية تجسيد النجاح لفكرة القومية.
على الضد، يرد ذكر التوتاليتارية باسم «الفاشستية» عند فهد، باعتبارها المولود الشرعي للامبريالية، اسوة بالصهيونية او «مطية الامبريالية». وقد اتخذ هذا الموقف انطلاقاً من منظور الحركة الشيوعية العالمية، وتعمق لديه بعد الغزو الالماني لروسيا الاشتراكية.
هذان التياران، المعجب بألمانيا النازية، والمعارض لها، لم يقدما اي تحليل لمفهوم التوتاليتارية، ولا نجد ذكراً لهذا المفهوم إطلاقاً.
والقوميون المعجبون آنذاك بالمانيا كانوا تيارين. الاول ليبرالي - ملكي، والثاني تسلطي - جمهوري. وتمسك الاثنان بتأييدها بدافع الاعجاب بنموذجها، كما بدافع الكراهية للكولونيالية البريطانية (التي تحتل العراق)، او بدافع كراهية الصهيوينة في فلسطين. ولعل حركة رشيد عالي الكيلاني (المعروفة بانقلاب مارس 1941) ترمز الى هذه الكراهية لبريطانيا، مثلما ان الدور الذي لعبه امين الحسيني (فلسطين) في التعاون مع المانيا، ودوره المفترض في التحريض لمصلحة انقلاب 1941 العراقي، يرمزان الى البعد الفلسطيني، او كره الصهيوينة.
وتكاد العقود الثلاثة اللاحقة من بداية الخمسينات حتى اواسط السبعينات، تخلو من اية اشارة للتوتاليتارية، من دون ان يمنع ذلك نشوء نزعات توتاليتارية قومية لدى حزب البعث الحاكم في العراق ابتداء من تلك الفترة.
لكن جذور النسخة التوتاليتارية في العراق منذ اواخر السبعينات ترجع الى استلهام النموذج الستاليني، وكان صدام حسين يمثل هذا الاستلهام، حيث دشن حملته بشعار: الحزب القائد، المفهوم المستمد من افكار وممارسة البلدان الاشتراكية المزعومة في اوروبا الشرقية، ثم الشعار الذي اطلقه صدام: «بناء الاشتراكية في بلد عربي واحد»، وهو شعار ستالين اصلاً الذي يناقض، فكرة «الاممية» وأن الاشتراكية نظام عالمي لا قومي، بحسب الماركسية الكلاسيكية.
ولعل صدام تأثر ايضاً بميول ونزعات خاله، خير الله طلفاح، ذي الميول الالمانية، الذي كان ضابط التوجيه المعنوي في اذاعة بغداد خلال فترة انقلاب الكيلاني.
لكن صعود النظام التوتاليتاري العراقي - البعثي في السبعينات، حفز على دراسات فكرية وتاريخية عراقية تقرنه بالنموذج النازي - دولة الحزب الواحد القومية التسلطية.
اول دراسة في هذا الشأن وضعها الباحث العراقي زهير الجزائري، بعنوان «الفاشية، الفكرة والممارسة»، في 1980 عن دار المدى، في دمشق، حلل فيها صعود النازية وبنية دولتها، في مقارنة واضحة او مضمرة مع الدولة البعثية. وعمد كاتب عراقي آخر، شمران الياسري، وهو كاتب عمود ساخر، وكادر قيادي في الحزب الشيوعي، الى توصيف النظام البعثي بأنه «فاشية بدوية».
لكن المقارنة بدت ضعيفة. فالعراق بلد غير صناعي، وهو يفتقر الى البعد المدني، ويختلف اختلافاً بيناً عن وضع المانيا النازية. من هنا بدت المقارنة بلا سند تاريخي. لكن توصيف هذين الكاتبين للنظام البعثي العراقي بأنه «فاشية» اقرار بأنه نظام توتاليتاري من طراز خاص، انسجاماً مع الادبيات الماركسية (وبخاصة جورج لوكاش)، الذي اعتبر الظاهرة الفاشية (النازية) بمثابة «ثورة مضادة» ناجمة عن فشل الثورة البروليتارية. وبالطبع فهذا التحليل يلغي وجود تماثل بنيوي مع التوتاليتارية الستالينية من الاتحاد السوفياتي. وقد احتفظ كتاب «عصر التطرفات» لأريك هوبزباوم بهذا التحليل.
اهتمامي الشخصي بالتوتاليتارية بدأ منتصف الثمانينات، بعد الاطلاع على اعمال هنه آرنت (التوتاليتارية) وفرانز نيومان (بيهيموث)، وقبل ذلك جورج لوكاش (تحطيم العقل)، واعمال اريك فروم واعمال ماركوزه وشارل بتلهايم، ومدرسة فرانكفورت عموماً. وتوسع الاهتمام بعد دراستي لخوان لينتز، واريك هوبزباوم (عصر التطرفات). يضاف الى ذلك اعمال ثيدا سكوتشبول (الدولة والثورة الاجتماعية)، وكذلك مؤلفها: «الثورات الاجتماعية في العالم الثالث». ثم الاطلاع على اعمال كارل فريدريك وزبيغنيو بريجنسكي. هذه الاعمال ساعدتني على دراسة التوتاليتارية كنمط سياسي - اجتماعي قائم بذاته، وفهم امكانات نشوئه في بلدان متطورة (المانيا) ومتأخرة (روسيا او العراق). فالدراسات اشارت الى وجود تشابه بنيوي بين المانيا وروسيا في اطار مفهوم التوتاليتارية، وسبب كره الماركسيين السوفيات ومدرستهم لهذا المفهوم. كان النمط الاول الالماني نمطاً دولتياً، والثاني تنموياً، لكنهما ينطلقان على ارضية تاريخ ديموقراطي قصير وهش، وعلى قاعدة تفتت او ضعف او عدم نضج المجتمع المدني وعلى استقلالية عالية للدولة كجهاز قمع وسيطرة. وهذا النموذج مغر لكل النظم الديكتاتورية في العالم العربي، خصوصاً اذا انتقلت هذه الدول الى مجتمع جماهيري محتدم، ولم تعد الدكتاتورية العسكرية بكافية لضبطه وحكمه.
التوتاليتارية ايديولوجيا وحركة اجتماعية، وهندسة سياسية – اقتصادية - اجتماعية تتشوف الى تدمير او الغاء الفصل بين المجتمع السياسي والمجتمع المدني، وفرض سيطرة شاملة على الاثنين، عبر هندسة ايديولوجيا جماعية واحدية. وبسبب تخلف هذه البلدان وضعف مؤسساتها، يكتسب النموذج التوتاليتاري، عند تطبيقه، سمات محلية، كوجود نظام القرابة الذي يضفي على التوتاليتارية طابعاً قرابياً. فالتوتاليتارية يمكن ان تنشأ في مجتمعات فلاحية مثل كوريا الشمالية والصين.
ولعل العائق الذي منع تطوير مفهوم التوتاليتارية علمياً هو الصراع الايديولوجي حول هذا المفهوم ابان الحرب الباردة، وسعي الولايات المتحدة لاستثمار المفهوم لمصلحة سياستها الخارجية. مثلما ان الاستخدام الدقيق له حالياً يصطدم بعقبات مماثلة (نظرية صمويل هنتنغتون - صدام الحضارات، او نظرية فوكويوما حول نهاية التاريخ).
مفهوم التوتاليتارية اليوم شائع في العراق، معرّباً بكلمة «النظام الشمولي»، يرد استخدامه في الادبيات السياسية، والصحافة، وتصريحات القادة السياسيين والمثقفين، من دون ان يعني ذلك ان هذا المفهوم واضح وعميق عند كل الذين يستخدمونه. فهو يبدو بمثابة كلمة اخرى لـ «الديكتاتورية».
اما العالم العربي فبعيد كل البعد عن مناقشة، ناهيك عن معرفة، «التوتاليتارية». فالفكر السياسي في العالم العربي باهت، يفتقر الى اي عمق معرفي. |