|
|
فصل من رواية :أحــبّـــــك يـــا مـــيــــدوزا |
|
|
|
|
تاريخ النشر
11/09/2010 06:00 AM
|
|
|
أصابني اضطراب شديد حين سمعت الصوت. كان يمكن أن يتبادر اليَّ أنني لست في حالة يقظة، لكن رنين الهاتف جاء في لحظة يستحيل أن تكون غير واقعية، تلك هي لحظة انشدادي إلى التلفزيون، الذي كان يعرض تقريراً مصوراً عن تفجير حدث في كركوك قبل يومين، وجُرحت فيه صديقتي بولينا. في البدء سألني الصوت: - هل أكلّم السيدة نورهان؟ أحدثت نبرته هزّةً في داخلي فقلت متلعثمةً: - نعم... نعم. أنا هي. من معي؟ - تغير صوتكِ كثيراً. لم يعد مثلما كان قبل سنوات بعيدة. تسارعت نبضات قلبي: - من أنت؟ صوتك ليس غريباً عني. - ستعرفينني إن وضعتِ الهاتف على قلبك. شعرتُ برعشة تسري في جسدي: - مستحيل! أنت تتكلم بصوت ليس صوتك. انتبهت ابنتي إلى الذهول الذي اعتراني، فأخفضت على الفور صوت التلفزيون. - هل أنتِ وحدك في البيت؟ - لا.. لا. معي ابنتي. - صوفيا؟ - تعرف اسمها أيضاً؟ - كيف لا أعرف، ألم يكن هذا اتفاقاً بيننا؟ - مستحيل! أنت لست هو. - حاولي أن تحدّثيني على انفراد. هرعت إلى غرفة النوم وأغلقت الباب. وضعت الهاتف على قلبي، ثم أعدته إلى أذني بعد برهة، وقلت: - لا تخدعني، الصوت صوته، نعم، لكنك لست هو بالتأكيد. - صدّقيني أنا هو. - يا إلهي، كيف يمكن أن تكون هو وقد استشهدتَ منذ ثلاث وعشرين سنة؟ - ستعرفين حينما نلتقي. - من أين حصلت على رقمي؟ - من أحدهم. - لا، لا، أنت لست سلمان، ربما تكون جنّياً تلبستَ شخصيته. - هل تؤمنين بهذه الخزعبلات؟ - يا إلهي. أكاد أجنّ. لو أعطيتني تفسيراً صغيراً فقط. - أنتظرك بعد ساعة عند قبة "بغدة خاتون". لم تستغرق المكالمة بيني وبينه سوى بضع دقائق، أغلق هاتفه وتركني غارقةً في ذهول شديد. تهاويتُ على سريري وغطّيتُ وجهي بكفيَّ، فاشتعلت نار ذكراه في أعماقي، وأخذتُ أستعيد لهيبها مذ رأيته، أول مرة، في يوم ربيعي من شهر اللوز قبل خمس وعشرين سنة، وكانت خامدةً طوال العقدين الماضيين اللذين عشتهما زوجةً لرجل حاول أن يسعدني ويعوّضني عما فقدته. كنت في ذلك اليوم البعيد خارجةً، برفقة خالتي ألماس، من بوابة "جامع النبي دانيال" في القلعة، حيث اعتادت النساء، أيام العيد، على التجمع في باحته للتبرك بضريح ذلك النبي وطلب المراد منه، على رغم علمهن أنه ضريح وهمي لا عظام فيه. كانت خالتي آنذاك تقترب إلى العنوسة، فأقنعتها بأن تعقد قطعة قماش، دونما إحكام، وترميها من أعلى منارة في الجامع الذي يقع فيه الضريح، مثلما تفعل الأخريات، لعل العقدة تنحلّ عندما تلامس الأرض، فتنال مرادها (في الحقيقة، أنا التي كنت أرغب، منذ بداية مراهقتي، في ممارسة ذلك الطقس، فشاركتُ خالتي في رمي كيس مملوء بالحلوى). كان سلمان يقف في الممشى الخارجي المؤدي إلى بوابة الضريح، في صفّ طويل من الشبان، الآتين من مختلف أنحاء المدينة ليستعرضوا أنفسهم أمام الفتيات الزائرات، أملاً في أن يجدن مرادهنّ فيهم. وحين أقبلتُ صوبه، مختالةً بنفسي أمشي أمام خالتي، رمقني بنظرة عميقة متلهفة، وكأنه يعرفني منذ زمن طويل، وأردفها بابتسامة فائضة أشعرتني بأنه يتشهى معانقتي، فرفعتُ يدي، لا إرادياً، وأمررتُ أصابعي على خصلات من شعري حرّكتها الريح، وبادلته ابتسامةً خاطفةً أشاعت في نفسه ارتياحاً. وقد اعترف لي في أول لقاء جمعنا على انفراد في منزل جدتي، أن تلك الابتسامة هي التي شجعته على مغازلتي حينما مررتُ من أمامه. كانت كلماته جميلةً وغريبةً، لم أعهدها من قبل وأنا في الثامنة عشرة من عمري (بدت لي مختلفةً عن كل ما سمعته من أقرانه في صفّ العشاق ذاك). وعلى رغم الأثر الذي تركته في نفسي، لم يخطر لي أنني سألتقي سلمان مرةً أخرى. طلبتُ من خالتي أن نذهب إلى متنزه المدينة لنكمل طقس العيد، لكنها اعترضت أول الأمر، بحجة أن جدتي وحدها في البيت، وقد يزورها بعض أقاربنا ومعارفنا، ثم وافقت على مضض بعد إلحاحي عليها. سلكنا الأزقة المؤدية إلى بوابة "البنات السبع" في الجانب الشرقي للقلعة، وقطعنا المسافة إلى المتنزه في نصف ساعة. اخترنا مصطبةً منزويةً تحت شجرة وارفة، وجلسنا نتطلّع إلى الأطفال والصبيان، الذين ملأوا المكان بصياحهم، وهم يتنافسون على احتلال مقاعد في الأراجيح ودواليب الهواء. كنت أنظر إليهم وبالي مشدود إلى سلمان، صورته أمامي، نظرته العميقة تربكني، وابتسامته تأخذني إلى عالم أثيري. لم تكد تمضي خمس دقائق على وصولنا حتى باغتنا سلمان مقبلاً إلينا. من الواضح أنه كان يتعقبنا في غفلة منا، ولم أتوقع أن تبلغ جرأته إلى تلك الدرجة. سلّم علينا بأدب أولاً، ثم خاطب خالتي طالباً منها، من دون أن يعرف صلتها بي، السماح له بأن يكلّمني على انفراد. وعلى رغم الارتباك الذي شعرتُ به اعتقدتُ لحظتها، وأنا أنظر إلى عينيه المشعتين، اللتين تنطقان حباً، بأن الله ربما وضعه في طريقي ليكون مرادي. قالت له خالتي، معربةً عن حرص مفتعل: - ولِمَ على انفراد؟ ابنة أختي لا تزال صغيرةً، فإن كانت نيّتك سليمةً فكلِّمها أمامي. قال: - لكنني أشعر بالحرج إنْ تكلمتُ معها أمامكِ. ردّت عليه خالتي: - بعد كل الذي فعلتَه، تشعر بالحرج؟ تكلّم، أعرف ما تريد قوله. تردد سلمان برهةً، ثم قال: - بصراحة، أنا مغرم بنورهان. التفتت خالتي إليَّ مستغربةً، ثم سألته: - وتعرف اسمها أيضاً؟ - قلبي تعلق بها مذ رأيتها ترقص في نادي "عرفة" قبل أشهر، أقصد في حفلة رأس السنة الأخيرة. كنتِ أنتِ وبقية أفراد الأسرة برفقتها، فظننتكِ أمها، بينما كنتُ أجلس أنا إلى طاولة على مقربة من طاولتكم. من حسن حظي كانت نورهان تجلس قبالتي، فأخذت أسترق النظر إليها طوال السهرة، مدفوعاً بجذوة هيامي بها، لكن عيوننا لم تلتقِ البتة. وقد عرفتُ ليلتها من الطفل الذي كان معكم أنّ اسمها نورهان، وأنكم من حي "ميدان" بالقلعة. منذ ذلك اليوم وأنا أفكر في المجيء إلى هنا خلال العيد، قلت لنفسي لعلّني أحظى برؤيتها وأكلّمها، وها هي أمنيتي تتحقق. صدِّقيني، لقد خيّل اليَّ حين بادلتني الابتسامة قبل قليل أنها ألقت حبالها عليَّ من عل، كأنها ملاك أعارته السماء للأرض. - أهذا فقط ما أردتَ أن تقوله لها؟ - أردت أيضاً سماع ردّها. - تعجبني جرأتك. ما اسمك؟ - سلمان البدر. - هل أنت من القلعة؟ - لا، لا، أنا من حي تسعين. - ومن يضمن أنك لست مخادعاً مثل الآخرين؟ - لكِ الحق. لكن صدّقيني أنا أختلف عنهم. - لا أريد لنورهان أن تكرر تجربتي المرة. أقسم سلمان أنه يريد إقامة علاقة شريفة معي إنْ بادلتُه الحب، وسيتزوجني بعد تخرجه من الجامعة، ثم شرع يتحدث عن نفسه وعن أسرته قائلاً إنه في المرحلة الثانية بكلية اللغات، ووالده يمتلك مكتبةً. لم تردّ عليه خالتي، بل نظرت إليّ نظرات متسائلة. كنت لحظتها أشعر بشيء ما يجذبني إليه، لكني تظاهرتُ، من باب الحياء والخجل، بأنه لا يصحّ بتّ أمر كهذا خلال لقاء عابر، وفي مكان عام. عندئذ طلبت خالتي من سلمان رقم هاتفه، ووعدته بأنها ستتصل به حينما تتأكد من رغبتي في وصاله. بدت لي خالتي ألماس أنها تضمر شيئاً ما في داخلها، شعوراً أو أمنيةً، تجاه العلاقة العاطفية المحتملة بيني وبين سلمان. لا أعرف بالضبط، لكن يغلب الظن عليّ أنها تنظر إليها وكأنها واقعة مشتركة، أعني أن حب سلمان لي يشكّل لها تعويضاً عن فشلها في علاقاتها السابقة، أو انتصاراً من نوع ما على خساراتها. كانت أول تجربة حب فاشلة في حياتها أيام دراستها في دار المعلّمات، أحبّت طالباً في دار المعلمين وهي في المرحلة الثالثة، كانت في مثل سني تقريباً، لكن علاقتهما لم تدم أكثر من ثلاثة أشهر، تعكّرت بسبب غيرته من تفوقها في الدراسة، وأخذت تبرد شيئاً فشيئاً حتى تخلّى عنها وأحبّ إحدى صديقاتها. حزنت خالتي، طبعاً، لموت تلك العلاقة أول الأمر، إلاّ أنها لم تأسف عليها حينما اكتشفت أن والد ذلك الطالب كان عضواً في الحرس القومي، ومن ألدّ أعداء الحزب الشيوعي الذي تنتمي إليه سرّاً، (أرغمها خالي، في ما بعد، على تركه إثر انكشاف أمرها واعتقالها، ليس خوفاً عليها من بطش السلطة، بل كرهاً بالشيوعيين، وخصوصاً الأكراد، الذين شنقوا عمّه في مذبحة كركوك عقب انقلاب عبد الكريم قاسم، وهم يهتفون إمعاناً في الترهيب: "ماكو مؤامرة تصير والحبال موجودة"). بعد تخرجها، وقع في غرامها مدير مدرستها، وهو من أبناء القرية التي تقع فيها تلك المدرسة، كان أكبر منها بعشرين عاماً، ثريّاً، متزوجاً من إبنة عمه في سن مبكرة كعادة أهل الريف، وله منها ثلاث بنات وولدان، أكبرهما في عمر خالتي. أغراها بشراء سيارة لها، وتسجيل ملكية بيت في المدينة باسمها. رفضت في البداية، متعللةً بأنها لن تتزوج إلاّ رجلاً تحبّه أولاً، وغير متزوج ثانياً. لكن المدير لم يقطع أمله، وراح يوسّط المعلّمات لإقناعها، وحين فشلن هؤلاء في المهمة خدعها بتنفيذ شرطها الثاني: جلب لها ورقة طلاق (مزوّرة) من زوجته، وكانت هذه متواطئةً معه، تحت التهديد والإغراء بالمال. انطلت الخدعة على خالتي لكنها لم تستسلم، ظلت متمسكةً بشرطها الأول، فأخذ المدير يمثّل دور العاشق المتيّم بشتى السبل، يعاملها بمنتهى اللطف والنعومة، ويقتني لها الثياب الفاخرة والهدايا الثمينة، ويدسّ في حقيبتها رسائل غرامية تُصهر الحجر، وتحيل الشوك ريحاناً... حتى لانت وصارت تبادله مشاعر الحب (لم تقل لي إن كانت صادقةً أم مفتعلةً). إلاّ أنها لم تكن مطمئنةً إليه كلّ الاطئمنان، ولذلك ظلّت تؤجّل مشروع الزواج مدةً طويلةً إلى أن اكتشفت كذبة طلاقه من زوجته، فأدارت له ظهرها وانتقلت إلى مدرسة في المدينة. أعقبت تلك التجربة تجارب فاشلة أخرى كانت أقساها تلك التي انتهت بتصفية حبيبها الشيوعي أواخر عام 1978، بعد انهيار الجبهة الوطنية. منذ ذلك التاريخ وهي تنتظر الحبيب الذي يعوّضها عما فاتها، على رغم أنها دخلت في سن الأربعين. حاولتُ في الأيام الثلاثة التي تلت لقائي بسلمان أن أتغلب على نفسي، وأردع فكرة الارتباط العاطفي به، متذرعةً بأنني يجب ألاّ أستجيب أول من يتعلق بي، وخصوصاً أنني لا أزال صبيةً، وجميلةً يتمنّاني ألف شاب، بحسب تعبير أمي، ثم أنني مقبلة بعد أسابيع قليلة على عالم جديد، عالم الدراسة في المعهد الفني، حيث سأتعرّف إلى العشرات، وسيكون في إمكاني أن أحبّ من أشاء من الطلاب. لكن محاولتي باءت بالفشل في نهاية الأمر، فقد وجدتُ نفسي متعلقةً بسلمان، تشدّني إليه بقوة أشياء كثيرة: إحساسي بصدق مشاعره، شخصيته المختلفة عن الآخرين، عيناه الحميميتان، ابتسامته العذبة، جرأته، وأسلوبه اللطيف. قبل أن تسألني خالتي عما انتهى إليه قراري، صارحتُها برغبتي في أن ألتقيه، فاتصلتْ به على الفور، ووصفت له عنوان المنزل: "زقاق زندان، الباب الخامس بعد حمّام النساء، باب خشبي قديم ذو دلفتان، في كل واحدة منها مقبض برونزي وإطاران مستطيلان نُقشت عليهما زخارف صغيرة". جاء سلمان في اليوم التالي، فرحاً مثل طفل، حاملاً علبة حلويات معبأة بالبقلاوة والبورما والأصابع. استغربتُ الصورة الرهيبة المطبوعة على العلبة، كانت لامرأة شعرها من ثعابين، تحيط بها قلادة من الحلويات التي تبدو كصدفات المحار لفرط صغرها، سألته عنها فقال: - إنها رأس الميدوزا. - لم أسمع بها. - وردت قصتها في أساطير اليونان القديمة، ورسمها فنان إيطالي اسمه كارافاجيو من القرن السادس عشر، يُقال إن نظرةً منها إلى أي مخلوق كانت كافيةً لتحويله حجراً، إلاّ أنها في الأصل كانت إلهةً وعشيقةً لإله البحر بوسيدون، فغضب عليها كبير الآلهة زيوس، ومسخها مع أختيها كائنات بشعة سميت بـ"الجرجونات الثلاث"، وجوههن تغمرها لحى، وأنوفهن فطساء، وألسنتهن مندلقة، ولهن أنياب خنزير، وأيدٍ من البرونز، ثم نفاهن إلى جزيرة في البحر المتوسط ليعشن في الكهوف، وسط عشرات التماثيل الحجرية لأولئك البحّارة التعساء، الذين ألقى بهم قدرهم إلى شاطئ هذه الجزيرة. وبقين هكذا حتى جاء برسيوس، ابن زيوس من امرأة بشرية، واستطاع أن يقتل الميدوزا، بينما كانت أختاها نائمتين، باستخدام درعه البرونزية المصقولة كمرآة، ثم قطع رأسها بضربة واحدة، وأخذه في كيس وأظهره أمام التنين قبل أن يبتلع حبيبته اندروميدا، التي اضطرّت أمها، الملكة كاسيوبيا، إلى تقديمها قرباناً له وإلاّ أغرق جزيرتها بأمر من الآلهة الكبار، فحوّلت نظرة رأس الميدوزا ذلك الوحش تمثالاً حجرياً. - من أين لك كل هذه المعلومات؟ - قرأتها. - هل تهوى القراءة؟ - كثيراً. وأنتِ ألا تهوينها؟ - بلى، لكني لا أعرف ماذا أقرأ؟ - هناك كتب كثيرة يمكن أن تقرأيها. روايات، شعر، أساطير، فلسفة. هذا إذا كانت ميولك أدبيةً. - قرأت بعض الروايات عن الحب لإحسان عبد القدوس وعبد الحليم عبد الله ويوسف السباعي. - سأعطيك رواياتٍ مترجمةً لكاتب شهير من أميركا اللاتينية اسمه ماركيز، فيها حب ورومنطيقية أيضاً، لكنها تتحدث عن أغرب الأحداث. إنه ملهمي الأول في الكتابة. - أنت تكتب أيضاً؟ - بدأت بكتابة الشعر، لكني بعدما قرأت ماركيز قررت أن أكون روائياً. - أريد أن أسمع من شعرك. - اسمعي هذا المقطع الذي كتبته عنكِ: "سابغةٌ كعطور صبايا القلعة/ ينبثُّ غناؤكِ في الضوضاء/ وفي ضفة النهر الأدرد". - ما معنى الأدرد؟ - إنه الكائن الذي طاحت أسنان فكّه العلوي. - وكيف يكون النهر أدرد؟ أيّ نهر هذا؟ - إنه نهر "الخاصة"، وقد تخيّلته هكذا لأنه بسبب جفافه بانَ قاعه أملسَ مثل فكٍّ فقد أسنانه. - ياه! أنت تملك مخيّلة فظيعة. - أعجبتك؟ كم أتمنى أن أصبّها في رواية أحلم بكتابتها، يشتبك فيها الحدث الواقعي بالحدث الفانتازي والغرائبي، والوعي باللاوعي، والعقلي بالسحري. - مثل قصة الميدوزا؟ - ولِمَ لا؟ بل يمكن أن تحمل أسمها أيضاً. فكّر سليمان قليلاً، ثم قال: - يمكن أن أسمّيها "أحبك يا ميدوزا". - أتحبّ هذه المخلوقة البشعة؟ - لم تكن بشعةً في الأصل، بل امرأة جميلة، وأنا أرى أنها تمثّل سلطان الأنثى بدلاً من الشر، وقد غدر بها إله مستبد يجسّد الذكورة في أبشع صورها. ما أكثر الأحاسيس التي انتابتني ذلك اليوم وأنا أتهيأ لتزيين نفسي. طليتُ أظفاري بلون زهري، وسرّحتُ شعري بعناية، وجعلتُهُ ينسدل على كتفيَّ، ثم وقفتُ أمام خزانة ملابسي طويلاً، أستعرض محتوياتها بحيرة شديدة، وتمنيتُ خلال لحظات لو أستطيع الاتصال بسلمان لأسأله ماذا يحب أن ألبس، لكني وجدتُ أن ذلك سيضعف من شخصيتي، ويجعلني أبدو منقادةً إليه من البداية، فعزمتُ على مفاجأته بارتداء ما أراه جميلاً ومناسباً. من حسن حظي أن أمي، المتشدّدة قليلاً، كانت غائبة عن البيت، فقد استجابت نصيحة خالتي، ورافقت جدتي في زيارتها إلى أختها التي جاءت من الحج. وقع اختياري أخيراً على فستان أبيض موشّى بدانتيلا مذهبة، وأخذته معي إلى منزل جدي وارتديته هناك، ورششتُ رقبتي وتحت أذنيَّ بالعطر. قالت لي خالتي، التي ارتدت ثوباً أحمر وأحاطت خصرها بحزام أسود، إن شكلي يبدو أقرب إلى شكل عروس مني إلى فتاة تستقبل شاباً سترتبط به بعلاقة غرامية، فملأني كلامها غبطةً. ثم نصحتني أن أودع الفستان عندها حينما أعود إلى منزلنا. في البدء مكثت معنا، بخّرت الصالة جيداً ببخور هندي، تفوح منه رائحة النرجس، وجلست تصغي، مثل مراقب محايد، إلى ما يدور بيننا، ثم نهضت وفتحت التلفزيون، ومضت إلى المطبخ لتشغل نفسها بطهي طعام الغداء. كان سلمان يجلس على مبعدة عني، تفصلنا مسافة تكفي لشخصين على الأريكة، وحين غادرت خالتي اقترب إليّ، وأخرج من جيبه علبةً صغيرةً مغلّفة بورق هدايا، فتحها والتقط منها ساعةً نسائيةً، وسحب يدي برقة، مثل مَن يسحب يد سيدة لتقبيلها، وثبّتها ببطء على معصمي، فيما كانت عيناه النابضتان بالحيوية توجهان سهامهما إلى عينيَّ، فاستشعرتُ بازدياد نبضات قلبي، وتسلل دفء راحة يده إلى ذراعي كلها. شكرته على الهدية وأخذت أتأملها، كان لون قرصها بلون فستاني وعقاربها بلون شعري. بعد هنيهة أمال رأسه إليَّ وسألني عن العطر الذي استخدمه، قلت له اسمه "جيفنشي"، فأثنى على رائحته، وشرع يغازلني بأسلوبه الشاعري، ويكشف لي عن هيامه بي، ويدلّعني باسم نورا، فبعث كلامه في نفسي إحساساً بالاسترخاء والخدر، كأنني خرجتُ من مغطس، وراح خيالي يسرح بعيداً. أمضينا نتحدث ساعتين تقريباً على انفراد، تارةً بالعربية وأخرى بالتركمانية، التي يجيدها سلمان بقليل من الإتقان، تخللتهما ملامسات بالأصابع على استحياء، وقبلة خاطفة جعلت كياني كله يضطرب، وكدت أفلت كأس العصير من يدي. كانت تلك أول قبلة في حياتي يطبعها رجل على ثغري. قطع التلفزيون خلوتنا الغرامية، فجأةً، بظهور مذيع عابس صارم الوجه، مقطّب الجبين، ظلّ صامتاً بضع لحظات يقلّب عينيه يميناً وشمالاً، ثم أخذ يذيع خبراً طويلاً عن شنّ القوات الإيرانية هجوماً بريّاً على منطقة الخفاجية، وردّ قواتنا عليها بهجوم مقابل أعنف منه. وما إن انتهى الخبر حتى ظهر فيلم تسجيلي عن معارك سابقة، يصور جثثاً منكفئةً على الأرض لجنود إيرانيين، تصحبه مارشات عسكرية، وتعليقات غرائزية، وقصائد حماسية تثير نزعة الانتقام. شعر سلمان بالانقباض، ودهمني أنا قلق شديد، خشيةً على أخي الكبير هجران، فقد كانت وحدته في قلب المنطقة التي حدثت فيها المعارك، وكان ذلك سبباً كافياً لأن ينتهي لقاؤنا الأول. يا إلهي. كان ذلك اليوم استثنائياً في حياتي، عشت مشاعر متناقضة جداً، سعادتي بلقاء سلمان وخوفي على أخي، ورحت أتساءل مع نفسي: لماذا نفقد إحساسنا بالزمن حين يطغى علينا الفرح، بينما يغدو ثقيلاً، كئيباً، يحوك خيوط الحزن في زوايا قلوبنا، حين يغشانا القلق؟ نظرت إلى "رأس الميدوزا" المطبوع على علبة الحلويات فانتابتني مشاعر سوداوية. تخيّلت الحرب أفعى مجلجلة عملاقة تلتف على جسد كل مَن تبصره، فتقطع جريان الدماء في شرايينه ودماغه، ولذا فإن الجنود المساكين هم فرائسها فقط، أما القادة الذين يقبعون في مواضعهم المحصنة فإنهم في منجى من شرورها. أردت أن استحضر للـ"ميدوزا" صورة الأنثى الجميلة المغدورة، بدلاً من صورتها البشعة، فلم أستطع. أفرغتُ الحلويات في صحن ورميتُ العلبة في برميل القمامة، معتذرةً في داخلي لحبيبي سلمان. شاركتني خالتي قلقي على أخي هجران، وأخذت تستنشق دخان سيجارتها بعمق وتنفض رمادها بسرعة، لكن عينيها كانتا تقدحان بالأسف، لا أدري إن كانت متضايقةً أم مستاءةً من مغادرة سلمان من دون أن يتغدّى معنا. وكانت قد أعدّت طبخةً لذيذةً تليق به، قدر من الملفوف محشوّاً بالأرز ولحم الخروف المثروم. ملأني شعور بالذنب لأنني لم أكبت مخاوفي وتسببت في خروجه، فعافت نفسي الأكل، وأمضيت يومي متكدّرةً، على رغم أني اتصلت بسلمان واعتذرت له، فأقسم لي أنه يقدّر مشاعري ويشاطرني القلق على أخي. مساء ذلك اليوم كلّمتني بولينا بصوت متألم، وكأن أحدهم قذف رأسها بحجر، فاكتشفت، بعدما بحتُ لها بسر مجيء سلمان إلى بيت جدي، أنها متألمة مثلي لأن أخاها جورج أيضاً في القاطع نفسه الذي هجم عليه الإيرانيون، وودّعتني قائلةً إنها ستذهب صباح غد الأحد إلى الكنيسة لتصلّي من أجل أن يوقف الرّب هذه الحرب العبثية. صرنا نلتقي أنا وسلمان كلما جاء من بغداد في نهاية الأسبوع، ونتهاتف يومياً أو مرةً كل يومين. في البدء كنت أخرج، مضطرّةً، مع خالتي لأجتمع به في مكان عام، سوق أو مستشفى أو دائرة حكومية، فنكتفي بالكلام مثل ناسكَين، وفي داخل كلٍّ منا رغبة جامحة في معانقة الآخر، ثم أدركنا، بعد أسابيع، أنه ليس من المعقول أن نظل هكذا، نلتقي وسط حشد من المتبضعين والمرضى والمراجعين، ولا نفعل شيئاً سوى أن نتحدث كغريبين. كان علينا البحث عن مكان يؤوينا بعيداً من أعين الناس، ومنهم خالتي التي رأينا أن دورها قد انتهى، وآن الآوان أن تتركنا لحالنا. أمضينا أياماً عديدةً نفكّر في إيجاد ذلك المكان، وذات مساء اتصل بي سلمان من بغداد قائلاً: - حبيبتي نورا، لقد كنت أحمق بالفعل... - ماذا حدث؟ - وجدت المكان الذي يؤوينا. يا إلهي كيف نسيته وهو في متناول يدي؟ - أي مكان تقصد؟ - مكتبتنا... فيها مخزن صغير، وله باب يفضي إلى شارع فرعي، إنه أفضل مكان في الدنيا. - ووالدك؟ - يعود كل يوم إلى البيت بعد الظهر، ويحلّ محلّه أخي هاشم. كانت المكتبة في الأصل محلاً لبيع السجائر، كما أخبرني سلمان، ولما شحّت هذه البضاعة من السوق في زمن الحرب فكّر والده في تحويله مكتبة، وسرعان ما حصل على ترخيص رسمي بذلك، وأخذت الدار الوطنية للتوزيع تزوّده الكتب والمجلات والصحف، وبذل سلمان جهده في شراء الكتب المطلوبة من مكتبات بغداد. وهكذا أصبح مخزن الكتب الصغير، القابع في نهاية المكتبة، فردوسنا الآمنة التي نتطارح فيها الغرام. في المرة الأولى دخلتُ إلى ذلك المكان، شعرتُ بالقلق، تهيأ لي أن أخي، الذي عاد من الجبهة في إجازة قصيرة، يتتبعني عن بعد مذ خرجت من المنزل، وسيهجم عليَّ، ويمسكني من شعري، ويجرجرني إلى الشارع ليقتلني أمام الناس، لكن سلمان أزال الخوف من صدري، وسكب على قلبي كلماتٍ مُطَمئِنة من ذهب لسانه. كان سلمان في كل مرة يوصد الباب ويغلقه بالمزلاج، ويحيط كتفيّ بذراعيه ويضمّني إلى صدره، هامساً في أذني أن رائحة الأناناس المنبعثة من جسدي تُسكِره، ويلثم شفتيَّ ووجنتيَّ، فأغمض عينيَّ من فرط السعادة، ثم نفرش الأرض بأوراق الجرائد القديمة، ونستلقي عليها مثل زوجين مشرّدَين، لكن اللذة كانت تغمرنا، فنشعر بأننا أسعد مخلوقين في الكون. بقينا نمارس حياتنا السريّة هذه (يجب أن أقول "المتخفية" لأن ثلاثة أشخاص فقط كانوا على علم بها أنا وسلمان وأخوه) سنةً وبضعة أشهر، ثم اهتدينا إلى مكان آخر أكثر أماناً وراحةً: منزل أخته نادية، التي استشهد زوجها في الحرب، فعادت أدراجها إلى أهلها، ولم يمضِ على زواجها سوى شهرين. طرقت صوفيا باب غرفتي فأيقظتني من شرودي. نظرتُ إلى الساعة فإذا بها الأولى والنصف، لم يبق إذاً سوى نصف ساعة على موعدي مع الرجل الذي يُفترض أن يكون في الأصل سلمان. قررت ارتداء ملابس ملوّنة، واخترت الألوان التي يحبّها: الأزرق والأبيض والفيروزي، فبهتت صوفيا لأنني تخليت عن ملابس الحداد. |
|
رجوع
|
|
مقالات اخرى لــ عواد علي
|
|
|
|
|
انضموا الى قائمتنا البريدية |
| | |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|