أحمد الصيّاد، دبلوماسي يماني، يشغل منصب مساعد المدير العام لمنظمة اليونسكو للعلاقات الخارجية، صدرت له مؤخراً عن دار رياض الريس رواية عنوانها "اليمن فصول الجحيم". هذه الرواية كان من الممكن أن يسجل كثير من فصولها على هيئة يوميات، أو هكذا بدت بأسلوبها وخطابها، وعلى وجه الخصوص، تلك الأجزاء التي تتعلق بالحرب في الشطر الجنوبي من اليمن.. مؤلفها فضّل الرواية لأسباب ربما تدرج بعضها ضمن جاذبية وشيوع هذا النوع الأدبي، أو لتهرّب المؤلف من مواجهة ماضي اليمن وحاضرها على نحو يبتعد فيه عن الاسلوب الدبلوماسي.
الرواية هي عن حكاية اليمن، البلد القلق والمقلق الذي تكمن مشكلته لا في انشطار بين جنوبه وشماله وحسب، بل بتشظي بنيته بين مكونات مختلفة، حيث تتغلب فيها القبيلة على الدولة، والفوضى على النظام، والمصالح الضيقة على مصلحة الوطن.
هل أتى المؤلف بجديد؟ هذا السؤال يبرز بعد الانتهاء من قراءة العمل، فالرواية بشخصياتها وأحداثها، تنطلق من ممكنات تسجيل الحدث ضمن إطاره التاريخي، وهي على بساطة خطابها، تضع القارئ أمام خارطة الصراع سواء في الجنوب أو الشمال عبر شخصية الراوي الذي عايش الحالين. البطل يعود بأصوله إلى الشمال، ومن قرية تتحكم فيها القيم القبلية، ويسود فيها الجهل، ولكن والده المغترب الذي "أقسم ذات يوم ان يرسخ كل حياته لتعليم أبنائه" استطاع أن يرقى باوضاع عائلته الى مرتبة متقدمة. يكبر الولدان عمار وصادق واختهما غادة لتفترق طرقهما، غادة تبقى في القرية، المرأة الوحيدة المتعلمة، بينما ينتمي عمار إلى حزب السلطة الشمالي، بعد أن يكمل دراسته في لبنان، وصادق الى حزب السلطة الجنوبي، بعد أن يكمل دراسته في دولة اشتراكية. يبدأ السرد بصوت الشخص الثالث، ليقدم تقريرا باوضاع العائلة، ثم تتولى مهمته الشخصية الأولى، صادق المنكوب بفشل التجربة السياسية في الجنوب.
إطار الرواية يعتمد على المتخيل في العلاقات العائلية والاجتماعية، ولكن محتواها يكاد يذكر الأحداث والشخصيات الواقعية التي عاصرها المؤلف مع بعض التحوير في الأسماء، عدا ألقاب قادة السلطة في الجنوب، من قُتل منهم ومن هرب إلى الخارج.
في عودة إلى زمنين، زمن يسبق أحداث القتال بين قادة الحزب الاشتراكي، وزمن يلحقه، بعد أن انتهت جمهورية اليمن الديمقراطية الاشتراكية إلى فشل، يتحدث البطل المهزوم والمحبط عن تلك الأيام الحاسمة بما يشبه التسجيل لأحداثها مؤرخا يوميات القتال. ولن نجد في تلك الحركة الدرامية ما يبرز الصراع على هيئة أفعال بين أطرافه، فالبطل يرصده من الوكالات والاذاعات العربية ومن بيته في عدن بعد أن أقفلت زوجته الباب خشية أن يقتله رفاقه.
غلاف الرواية
اختار المؤلف وجهة نظر من الصراع بدت محايدة ومحسومة ضد الحرب، لكونها عودة إلى القبلية والمناطقية، ولكونه لم ينحز إلى أي طرف فيها، كان موضع ريبة عند الجهتين. على هذا، يمكننا القول، إن السارد كان شاهدا سلبياً، أي إن فاعليته باعتباره الشخصية الرئيسية، كانت لفظية وواصفة ولم تكن مساهمة في توليد الأحداث. ولكن موقعه يتغير على نحو نسبي، عندما يعود إلى قريته، ليسلك درب الشمال وصولا الى إلعاصمة صنعاء وما تسبقها وتلحقها من مدن.
يحاول البطل هذه المرة تنشيط فاعليته الثقافية، سواء في محاولته البحث عن الأصدقاء القدامى ممن تسميهم زوجته المجرية ساخرة "المناضلين الشرفاء" واللقاء بهم، أو تشغيل مكامن ثقافة المكان بعودة إلى المواقع التاريخية في اليمن، شارحا لزوجته اهمية تلك المواقع ودور اليمن الحضاري في الماضي.
صورة البطل المثقف تشغل الرواي، فيستشهد بأشعار من البردوني وعبد العزيز المقالح وسواهما من شعراء، يمانيين، وعرب معاصرين، وقدامى، ويكاد هنا يقترب من الحكاية القديمة التي يصبح الشعر فيها أقرب الى وسيلة إيضاح تعزز وجهة نظر البطل.
من خلال تلك الرحلة التي تؤدي به إلى السجن، وقرار من المحكمة بطرده من اليمن ومنعه من دخولها، يستطيع أن يكشف مكامن الخلل في تجربة اليمن الشمالي: الغلاء والرشوة والفساد وتجاوز القضاء.
عبر شخصية الأخ الأكبر عمار، الذي يحتل مكانة مرموقة في سلطة الشمال، يقدم لنا السارد، نموذج الديمقراطية المضادة للتجربة الاشتراكية في بلد مثل اليمن، فهذا الأخ الذي صعد سلم السلطة بإشرافه على مقاولات كبيرة للمسؤولين، يتذكر قريته كي يقدم نفسه مرشحا عن المنطقة، وعندما يسمع بعودة أخيه إلى بيتهم، تبدأ هواجسه في المنافسة، فيدبّر مكيدة تودي بالأخ الأصغر إلى السجن والمحاكمة.
تراجيديا الأخوة تنتهي بشهادة الأخت وخالهم في المحكمة لصالح الاشتراكي، فتستبدل عقوبة الموت بالنفي، وهكذا يرحل البطل من بلده التي لم يعد مكان له فيها.
تسيطر فكرة المراجعة، مراجعة التجربة وفحصها، على خطاب الرواية، ولكن تلك المراجعة لا تعني التنكر لتجربة الجنوب، رغم إيمان البطل بوحدة الشطرين، بل انه يشكل بشخصه القادم من الشمال، رمزا لهذه الوحدة. ولكنه يبقى على قناعته بمنطلقات تجربة الجنوب التي انتجت خطاباها الخاص الذي يستحضر البطل كل مفرداته وهو يخاطب رفاقه القدامى ويستذكر من خلالهم الأناشيد والأقوال التي رددها الحالمون بدولة اشتراكية، الذي يستطيع أن يخرج به القارئ من هذا الموقف، لا تقوله الكلمات، بل أفعال البطل ومهنته، فهو طبيب يحرص على أن يجلب معه الدواء الى قريته، ليعالج المرضى مجانا، ولن يكون هذا الدواء سوى هدية من سفارة كوبا! الحلم الثوري الرومانسي يرحل معه، ليتجسد في مسيرة يجوب فيها البلاد كي يقف عند علل اليمن ومشكلاته: انتشار تهريب السلاح، اختطاف الأجانب وضرب موارد السياحة، استبدال زراعة المحاصيل بزراعة القات، الفقر والأمية، سلطة القبيلة واضطهاد المرأة.
سيؤدي البطل مهمة الشارح لزوجته الأجنبية، ولن تخلو كل خطوة يخطوها من دلالة على نموذج لحالة عامة، محطات الرحلة ومشاهدها تنوب عن مغامرات الحكاية القديمة التي يخرج منها البطل بمواعظ مفيدة لسامعه، وخاصة رحلات المقامات.
يتضاعف إحساس البطل بالعجز، كلما أوغل في مسيرته، فيطل على مشارف اليأس مستحضرا كل قول عن مستقبل اليمن، فهو يخاطب نفسه " أهذا هو حقاً البلد السعيد الذي توهمنا أنه كان ذات يوم سعيداُ، وهو في واقع الأمر لم يكن سعيدا، لا في ماضيه ولا في حاضره، ولن يعرف ما هي السعادة في مستقبله القريب والبعيد إذا ظل يسير على ما هو عليه".
لن نجد في الرواية مراجعة شخصية للبطل، أي: دور الفرد في تحديد مسؤوليته حين تفشل تجربة ما، بما فيها الأحلام التي أخطأت أهدافها. لذا بقيت سيرة متخيلة، ولكن مخيالها ينطوي على بُعد انتقائي وتبريري، على الأقل في ابتعادها عن أدب الاعتراف الذي تفتقده الثقافة السياسية العربية. |