في كتابه «من نص الأسطورة الى أسطورة النص» علي جعفر العلاق يستعيد فاعلية المكتوب عبر فاعلية القراءة
كتابة النص فتنة، او لعبة في غواية قارئ ما. جاذبية هذه الكتابة تقترح دائما طقوسا، او ربما توقد نارا تجتذب اليها القارئ المتورط المغوي الباحث عن سر لذته في الاشتعال..هذا الاستبصار في شرط كتابة النص هو ما سعى اليه الشاعر والناقد علي جعفر العلاق عبر انشداده الى الافصاح عن فروض ما يمكن ان تثيره الكتابة النقدية من اسئلة ومن اندفاعات تبعث دائما على مايجعل كتابة النص توغلا في المكابدة، او استشرافا للرحيل المثيو اسطوري في اللغة ومجازاتها الفادحة(للوصول الى حقيقة النص، ان كان ثمة حقيقة اصلا)
في كتابه الجديد(من نص الاسطورة الى اسطورة النص) الصادر حديثا عن دار فضاءات للنشر والتوزيع ـ عمان ـ 2010 ينحني علي جعفر العلاق على فضاءات النقد الشعري من زوايا مايحدسه الشاعر بالنص، وما يبصره الناقد في رؤياه. وهذه الانحناءة معنية بكشف ما تجلوه قراءة النص/ اللوحة التي يسميها الباحث بـ(التحديق بالشرر) من توهجات مربكة، ومن( ضجة تغطي سطح اللوحة كلها بالصخب حينا وبالادعاءات الجميلة حينا اخر)ص7
في مدخل الكتاب يقترح الناقد العلاق عبر لعبة تحديقه تلك، مقاربات تأملية في متن نصوصه وشهاداته المقروءة وتبدأ من مقاربة (دخان المناهج الجديدة) وتنتهي عند المقاربات (النقد مصدر للبهجة) وهذه المقاربات تنطلق من وعيه لاشكالات ما تثيره الاجراءات النقدية الجديدة من شواغل تمسّ جوهر فاعلية الكتابة، خاصة تلك التي تضع (الاحتفاء الانفعالي بالاتجاهات الجديدة) مصدرا اساسيا في توصيف معالجاتها النقدية، واعادة فحص مقولة الحداثة التي تستن الى انها التطبيق الاجرائي لهذه المناهج، بكل ماتثيره من ارتياب وتشابك منهجي. واحسب ان الباحث قد وضع نفسه امام مأزق البحث عن تبرير لمشروع قراءته النقدية وتعاطيها مع تجارب مهمة في المشهد الشعري العربي المعاصر. ورغم المناهج شئنا ام ابينا هي جزء من مشروع الحداثة الغربي، الاّ ان قراءتها العميقة والتعاطي الفاعل مع انجازاتها وتطبيقاتها هي الرهان الاجرائي الذي يضعنا امام مقترح الصناعة المضادة للنص النقدي الذي يخصنا، والداخل في لعبة التفوق النقدي) المضاد كما يراها الناقد، لان المنهج من وجهة نظر الناقد العلاق(لايصنع نقدا حقيقيا، لان النقد ليس منهجا فقط، انه اضافة الى ذلك رهافة في الذوق وموهبة في التفاعل مع النصوص بحميمية وعمق)ص33
يضع الناقد العلاق مدخل كتابه في سياق تمهيدي لتوظيف قراءاته التحليلية المفتونة ببعض تطبيقات المناهج النقدية لنقاد غربيين امثال(تيري ايكلتون، تودوروف، رولان بارت، رامان سلدن وغيرهم) اذ يقول(لقد كان ايكلتون خصبا وشديد المرونة في منهجه النقدي الذي كان يزداد ثراء وجاذبية على الدوام، بحكم انفتاحه على المناهج الاخرى)ص21 وهذا التوظيف لايضع الناقد امام مرجعية نقدية معينة، بقدر مايسعى الى ان يضع(القراءة) بصفتها الشرط الذي يتجاوز مفهوم الجوهر الى مفهوم التأويل، امام قدرتها في الكشف والتقصي، باعتبار ان النقد جزء من فاعلية(الذات المبدعة)
في مباحثه التطبيقية يسعى الناقد العلاق الى مقاربات مع تجارب شعرية عراقية وعربية قارّة وراسخة في الذاكرة الشعرية، والتي تتحول الكتابة عنها الى نوع من القراءة الاستعادية التي تكشف عن المستويات البنائية للنص ولفاعلية القراءة ذاتها، فقصيدة (انشودة المطر)التي تضج باشتغالاتها الاستعارية، تتحول الى قصيدة كشف اسطوري، وان اجراءات الناقد في فحص معطى هذا الكشف تقوم على اساس استغوار ما في القصيدة من مستويات مضمرة وبائنة، بدءا من المستوى الاسطوري الى المستوى الفكري، وبدءا من المستوى الغنائي الى المستوى الدلالي. وهذا التركيب يضع هذه القصيدة الى تواليات من الكشف تقترحها فاعلية القراءة التي تجتهد في توصيف البنى المراوغة فيها والتي تحيلنا من خلال هذه القراءة الى اللامتناهي من الكشف والمحو والاستعادة.
وفي قراءته لتجربة الشاعر محمود درويش لايجلو نظر الناقد الاّ من خلال مقترحه كتابة درويش على انها (بلاغة) شعرية، وان مايكشف من مجازها الشعري يقع في مقاربات هذه البلاغة، لان بنية درويش الغنائية هي توغل عميق في التعبيرية التي لايمكن اخضاع قراءتها الى منهج معين، لان هذا المنهج سيكون متعسفا في التعاطي مع محمولات هذه الكتابة، وبالتالي فان تداخل الاجناس والتوصيفات، وحتى شراهة المخيلة في اثراء هذه الكتابة سيضعنا امام الاستجابة مرة اخرى غواية القراءة وفتنة نصها المكتوب، اذ(تصبح احيانا موضوعا لذاتها هي، او دالا من دوالها المركزية، او ركيزة من ركائزها السردية، المولدة للذرى المؤلمة تارة، وللانفراج العميق تارة اخرى)99 وهذا التوصيف يجعل الكتابة ايضا ازاء احالات يعمد الناقد الى الاستعانة بالعديد من النقاد المنهجيين لتقعيد هذه الاحالات وفك اشتباك بعض مفاهيمها، خاصة من مدونات النقاد البنيويين الذين اعطوا للنص بعده الاجرائي والتكويني، وقيمته كمادة مكتوبة تتصل بعضها بالبعض الاخر، والذي وجد بعض صداه في قصائد درويش التي(تحفل بجمالية شفاهية أخاذة، وانهمار صوتي وجسدي مدهش، لكن هذه الشفاهية تتصل في الوقت ذاته بالكتابة ايضا)103
وفي قراءته لتجربة الشاعر يوسف الصائغ يضع الناقد العلاق موجهه القرائي امام شفرة(شعرية الخوف)التي يقول عنها، بانها سر فجيعة الشاعر الصائغ، اذ ان هذه القراءة تسعى الى كشف البنية المضمرة في تجربة الصائغ، تلك التي وضعت قصيدته الخافتة امام هزيمته الوجودية، واسبغت على هذه القصيدة سمات تحولت في قصائده الاخرين الى دلالات اكثر فجائعية، بدءا من دلالة(السرير)و(الموت)و(اللون الاسود) ورغم اجادة الشاعر الصائغ للحرفة الشعرية كتقنيات تجريبية الاّ ان الكتابة الشعرية تحولت الى كابوس الى لعبة مضنية في الخوف، واحسب ان الناقد العلاق حاول من خلال توظيفه القرائي الى مقاربة هذه العوالم عبر استجلاء تحولاتها وشواغلها ودلالاتها ومستويات توظيفه للاشارة والصورة والفكرة، خاصة في مجموعاته الشعرية الاخيرة، حيث(يتعرض السرير دائما الى الانتهاك، تنكسر وظيفته الازلية فيغدو نقيضا للامن والهناءة، أي يعدو بؤرة للخوف وتوالد الكوابيس) 147
وفي قراءته لسركون بولص يسعى الناقد عبر(تعرّفه على النص) الى استكناه مايحمله النص من انثيالات يتجوهر فيها الشعري على انه(كتابة) مفتوحة، توحي بماوراء البلاغة والمجاز من جاذبية تساكن النثر وتعيد تأهيله لصلاحية نظيرة في القراءة..
قراءة تجربة سركون بولص تعني قراءة نصها العميق، اذ ان هذا النص مسكون بالكثير من الموهبة والرؤيا والفتنة، والتي تجعل الشاعر امام لعبة اليومي والسحري وهما يواجهان عزلة الانسان، وعذاباته. واحسب ان سركون بولص كان حاضرا في قراءة الناقد العلاق ليس بصفته شاعرا نثريا، بقدر ما كان صانعا لقصيدة تفصح(عن وعي بالتراث بمختلف تجلياته الاسطورية والدينية والادبية، حتى ان قصيدته تبدو احيانا وكأنها نموذج بالغ الحيوية لشعرية من طراز فريد في قصيدة النثر)ص168 وهذا التوصيف القرائي يقع ضمن اجراءات الناقد المنهجية التي تنحاز الى قصيدة النثر بصفتها كتابة(على قدر عال من النضج والاختمار وفداحة الاسى)ص168
قراءة الناقد تستحضر لشعرية سركون بولص مستويات قرائية فاعلة في سياق الاجراء النقدي/القرائي تبدأ من التعرّف على(بنية القصيدة)وتنتهي عند(التناص الخارجي ولعبة التكرار) وهي اجراءات فنية لم يعف الناقد نفسه من مقاربتها، باعتبارها الاجراء النقدي الذي يعطي للقراءة الفاعلة تسويغها، ولابراز ماتحمله قصيدة سركون بولص من توهجات تصطنع لها شكلا متعاليا يمكن ادراجه ضمن توصيفات اسطورة النص..
واختتم الناقد كتابة بملحقين شعريين لقصيدة السياب(انشودة المطر)وقصيدة سركون بولص(شهود على الضفاف) كجزء من منهجية القراءة التي تدعو الى معاينة النص واستعادته بالمحايثة مع فاعلية القراءة.. |