وحدة
فقد العجوز بصره في تفجير إرهابي وقع قبل سنتين فانفصل عن وحدته المحببة وبات على ولده الوحيد أن يرافقه في الذهاب إلى أقصى الزقاق وإعانته على بيع حاجات منزلية رخيصة. في تفجير إرهابي آخر حصل قبل عام فقد الشيخ ولده فاتسعت الظلمة المحيطة به وعاد إلى وحدته ثانية. استعان الشيخ الضرير بابنته الوحيدة ذات السبعة أعوام وعاود البيع برفقتها مرة أخرى. في منتصف هذا العام قتلت طفلته الوحيدة في حادث إرهابي وقع داخل السوق فشعر العجوز الأعمى لأول مرة بحاجته للرؤيا ليذهب برفقة وحدته القديمة إلى المقبرة.
كآبة أتريث كثيراً قبالة باب بيتنا قبل أن أطرق الباب، أشعر بغمامة حزن، وتجتاحني موجة صاعقة من الكآبة، لا شيء يشدني إلى أسرتي عدا إقراري الخفي بخيبتي وبذلك المسار المألوف لبوصلة البطالة التي لا تعرف غير هذا الباب وتلك الأسرة المستفزة. سأطرق الباب فيهرع الجميع نحوه بقلوب هلعة وعيون مفقوءة لتلقى استدعاء جديد من دائرة الأمن. سأتعرض لوابل من العتاب واللوم، وستبكي شقيقتي وهي تحتضنني لتشم رائحة شقيقها المفقود منذ انتفاضة آذار، بينما سيكتفي شقيقي الأكبر بنظرة قاسية تختزل كل قلقه وتجواله اللامجدي عن آخر شقيق له يود الاحتفاظ به، أما أبي المسكين، ابن الثمانين عاما فسيستحضر آخر ما بقي لديه من مظاهر التسلط ليصبّها على رأسي. سأصمت كعادتي، أخطو مسرعاً صوب غرفتي ثم اضطجع بكامل قيافتي على سريري البارد.
بيت العجوز القديم
هو عجوز فلاح يعمل في أحد التقاطعات. يزرع الورود والأشجار والنباتات الصغيرة. هو رجل مسن محني الظهر، لكنه فلاح مثابر، يصل إلى حديقته مبكرا، يركن دراجته الهوائية القديمة ويبدأ بمعاينة الورود والنباتات ويلتقط النفايات، لتغدو حديقته جميلة في عيون المارة والراكبين. في كل صباح يشاهدوه الناس وهو يسقي ورود الكاردينيا والجوري والرازقي والقديفة والنرجس، ويرش الماء على النباتات المخضرّة، ثم ينغمر في حلم جميل. (هذه الحديقة هي بيتي الثاني، أعمل فيها منذ أكثر من ثلاثين عام، رائحة الورود تسري في دمي، أغصان الأشجار تتفرع من قلبي، أعشق الزهور والنباتات، أحبها كما أحب أولادي وبناتي، هي أسرتي وبيتي وأهلي). في صبيحة كل يوم يهديني العجوز صفحة زاهية الألوان، أتمتع بنظرة قصيرة من خلف زجاج نوافذ السيارة التي تقلني. ولكن في صبيحة يوم دام (زرع) أحدهم عبوة ناسفة بين ورود العجوز ونباتاته وأشجاره. في ذلك الصباح شاهدت العجوز المسكين، كانت أشلاؤه متناثرة بين وروده وأشجاره ونباتاته في (مقبرة) التقاطع، بيت الفلاح العجوز القديم!.
حصار
يا إلهي، ليس من المعقول أن أرى نصف معلّمي مدرستي الابتدائية وهم يرتدون "الدشاديش" ويروّجون لبضاعتهم إلى حد الاستجداء!؟. سبحانك يا ربي، لا يمكن أن أصدّق أن "فرات" الأستاذ الأنيق، مدرس اللغة الانكليزية يجلس على تنكة فارغة قبالة بضاعة رخيصة ويحدّق في وجوه المارّة بعينين تتوسل التفاتة من وجوههم. لا، ليس من الإنصاف أن أشاهد الحاج ضاحي، جاري العجوز المتقاعد جالساً خلف ماكينة خياطة يدوية صغيرة من نوع "سنكر" وهو يخيط ملابس رخيصة للأطفال ويعرضها للمشترين، بل ليس من العدل يا إلهي أن أرى قصّاصين وشعراء يعرضون للبيع أثمن ما لديهم من كتب نفيسة ثم يملئون أكياس الدقيق الفارغة بما تبقى لديهم من كتب ويحملونها على أكتافهم سيراً على الأقدام باتجاه مركبات نقل الركاب، جنباً إلى جنب مع "العتّاكه" العائدين إلى بيوتهم.
اشاعاااااات
فجأة توقفت مئات السيارات في الشارع وانقطع السير. العديد من الراكبين ترجلوا من السيارات وفضلوا السير على أقدامهم. سائق السيارة سأل أحد العابرين عن سر توقف طابور السيارات فأجاب: يقال ان عشر سيارات مفخخة تدور في هذه المنطقة.أحد الركاب قال: ربما عثروا على عبوة ناسفة، عجوز كان يضع عباءته على رأسه قال: يقولون انتحاري... طالب جامعي قال: مواجهات مسلحة تحدث حاليا بين الجيش وعدد من المسلحين، امرأة مسنة قالت: احذروا التجمع ربما يحصل انفجار. عدد كبير من الركابين انشغلوا بإجراء مكالمات هاتفية. أحد المتندرين ردد ساخرا: ربما حصل هجوم في (الفكه). أجابه شاب: يقال ان المنطقة الخضراء تتعرض الى قصف مدفعي. فجأة تحركت السيارات وصعد العديد من الركاب. قرب الجسر لاحظ الجميع شاحنة عاطلة يتم إبعادها عن الشارع بعد ان تسببت بكل هذه الإشاعاااااااات.
هروب
فتح أبي "الصندقجه" العثمانية العائدة إلى جده وأخرج منها خمس مِسبحات، اثنتان منها أم 33 حبة من نوع "سندلس" وثلاث أم 99 حبة أحداهما من نوع "يسر" والأخريان من نوعي "كهرمانة وباي زهر"، كما أخرج عدداً من المواعين النحاسية والفرفوري المزدانة بالنقوش الأندلسية التي تحيط بدائرة واسعة رسمت فيها إما صورة الملك فيصل الأول أو صورة الزعيم قاسم، ثم نبش في زوايا الصندقجه ورفع كيساً كبيراً من قماش “الكتان” وأراني ما به من عشرات العملات النقدية المعدنية من فئة الروبية الهندية التي تحمل صور ملوك بريطانيا وعملات يونانية عليها صورة رأس اسكندر الأكبر أو صورة الملك انطياخوس وأخرى نمساوية وعثمانية وفارسية أثارت الصداع برأس أبي فأعادها إلى الكيس ثم رماه فجأة بكفي بطريقة تشبه رمي الخلفاء لأكياس المال على الشعراء المدّاحين في العصر العباسي الأول!.
عبودية
وجوه غزتها التجاعيد وأجساد بدأت تذوي وحوارات في الشارع والمقهى والسيارة تدور في دوامة الجوع والأمراض والحصة التموينية والكهرباء، وثمة مَن يتحدث عن ضربات صاروخية جويّة جديدة، وحملات قص آذان الهاربين من الجيش، وهناك من ينشغل بتأمين قوت يومه ولا ينتظر من ينقذه. لقد بدأ الواقع يضيق لكن لا أحد يشعر به لأنهم ينكمشون أيضا، أجسادهم تضيق بهم، والأدهى من ذلك عمى الحواس الذي أصابهم وأفقدهم قدرة التمييز والمفاضلة، فراحوا يتكئون يوماً بعد آخر على لذة الشعور بالعبودية التي تؤمّن لهم مرارة العيش ولكنها تُبعد رقابهم عن المشانق، وكلما ضاق الواقع بهم، اكتفوا بأكثر الأشياء ضحالة وأقلها شأناً كي يشعروا دائماً أن خياراتهم ما زالت متاحة وأن الحياة رغم قسوتها الشديدة تبقى مباحة لهم، وربما يبدو كل ذلك كافياً بنظرهم.
رؤية هايجنز
ظل يتأرجح كالبندول منذ أعوام على تكتكة ساعات "سور والرولكس وأولما وأوميغا"، زاعماً أن الساعات السويسرية ستضبط ضياع عمره وتوقف هجمة الأمراض التي غزته، طالما أن أصابعه قضت أكثر من نصف قرن في بث الروح بها وأعادتها إلى الحياة. كان يسخر من دقات ساعة "بك بن" وتوقيت غرينتش، "كرانتي" زبائنه الذين طالما اشترطوا عليه أن تعمل ساعاتهم العاطلة بتوقيته، مفضلا دقات موهبته الفطرية القادرة على ضبط حركة جميع عقارب الزمن!. الآن، وقبالة هزة رأس الطبيب ومط شفتيه أدرك المصلح العجوز وهم الساعات السويسرية الخدّاعة ورؤيا المخترع الهولندي (كرستيان هايجنز) التي ادعى، منذ طفولته أنها ألهمته معرفة التصليح، لكنها الآن لم تلهم الطبيب الحزين الواقف قرب السرير قدرة خلاص المصلح العجوز من الموت.
حلم
رفع يديه إلى الأعلى وصنع حركة تموجية ابتدأت من أصابعه وكفيه وساعديه، ثم حرك رأسه إلى اليمين واليسار بسرعة، بينما راحت قدماه تدك الأرض في حركة تبادلية مقرونة بهز جسده هزاً عنيفاً وكأنه مصراع يدور بأقصى سرعة داخل نصف دائرة صنعها الراقصون الذين تحلقوا حوله مكتفين بالتصفيق والصفير وإبداء صيحات الإعجاب والاندهاش. كان يرسم باهتزاز جسده الحر واللانهائي رقصات "الفلامنجو والتانغو والفوكس تروت والكويك ستيب والزوربا وتجميع جثمان أوزوريس"، وظل يدور بمفرده حول نفسه في رقصة دائرية صوفية على طريقة مولانا جلال الدين البلخي الرومي حتى وصل إلى حالة من الذهول فشرع يبكي حزناً وألماً ثم جثا على ركبتيه وطأطأ برأسه وسط موجة عارمة من التصفيق والهتافات لم تنتهِ إلا باستيقاظه قرب أكوام من النفايات في شارع فرعي.
شارع المعسكر
تلبية لدعوة صديقه قرر أن يصطحب عائلته ويقوم بزيارته في داره الواقعة في جسر ديالى. واجه صعوبات بالغة في ساحة الطيران حتى وجد سيارة أجرة نوع كيا. داهم طفليه الحر فاشترى لهم مهاف وقناني مياه معدنية. توقفت السيارة بسبب الزحام الخانق لما يقرب من ربع ساعة فضجرت زوجته وبدأت تلومه على قرار تلبية الدعوة. فوجئ السائق بغلق شارع المعسكر بسبب عثور القوات الأمنية على عبوة ناسفة. نزل المئات من الركاب واكتظ الشارع بطابور طويل من السيارات والسابلة وسط موجة حر شديدة. أصيب أحد أطفاله بحالة إغماء وعانت زوجته من الاختناق وضيق النفس. حمل طفليه على أكتافه وترجل من السيارة مع زوجته المرهقة. منع رجال السيطرة المارة من مواصلة السير فتسللوا إلى شوارع ترابية وأحياء سكنية عشوائية. هاجمتهم مجموعة من الكلاب فتعالى صراخ النساء والأطفال. سمعوا صوت انفجار العبوة فعادوا إلى شارع المعسكر وصعدوا في سيارة أخرى. تشاجر السائق مع العديد من السائقين والمارة. بعد أكثر من ثلاث ساعات وصلت العائلة إلى جسر ديالى، فاتصل بصديقه ليدله على أقرب مستشفى. |