الاصغر، يهزم الاكبر في احيان كثيرة. اختصر الرئيس الروسي السابق ميخائيل غورباتشوف المواجهة بين موسكو وواشنطن بعبارة دالة يوما ما: ميكي ماوس الفأر الصغير، تغلب على لينين المنظر العملاق. غورباتشوف الذي فشل في اصلاح التجربة، يشير الى وسائل الترفيه الاميركية القائمة على الفكرة البسيطة والحيوية مثل شخصية ميكي ماوس، التي كان فهمها عند شباب الاتحاد السوفيتي، اسهل من فهم نظرية لينين ضمن واقع يتردى معاشيا وسياسيا.
هناك مثلا نزاع بين العراق والكويت، لكن الجارة الاصغر جغرافيا وسكانيا، لا تفتأ تسبقنا منذ عقود في مجالات مهمة. اخشى ان الامر يتكرر الآن مع اقليم ضمن العراق ننشغل نحن بالصراع معه على ألف قضية، ولدينا قضايا مشروعة في هذا الاطار، غير انه ينشغل بتجاوزنا والتفوق علينا، رغم ان امكانياته اقل منا بكثير.
الصديق دولوفان براوري اعلامي وصحفي من الموصل، كان يزورنا قبل يومين ويحدثني عن اربيل والسليمانية وكردستان التي لم ارها منذ 3 اعوام. كل شهر هناك جديد عمراني او تعليمي او "نفطي" في المحافظات الثلاث التي انتظمت بإقليم. الساسة الاكراد يساجلون العرب العراقيين ساعة ثم يعودون الى العمل ومتابعة شؤون مدنهم ساعة اخرى. ساستنا يساجلون الاكراد ساعة ثم يعودون فيساجلون انفسهم وكتلهم وطوائفهم، ساعة اخرى. وفي الساعة التالية يستأنف العربي مناظراته الطويلة مع الكردي. الحصيلة ان للكردي ساعة عمل وبناء يربحها في هذه الدوامة التفاوضية.
السياسي العربي في العراق محتجز في غرفة مفاوضات لا يغادرها. ينتقل من سجال الى آخر وينسى داخل النقاشات الساخنة، ان لديه محطات طاقة عملاقة متروكة على الحدود لشهور بسبب خلاف بين المالية والكهرباء حول الضريبة. ينسى الكثير من مشاريع البناء العاجلة التي لم يتابعها فخربت. ينسى ايضا ان يستفيد من معلومات استخبارية تأتي بها 4 وكالات مخابرات عراقية واجهزة معلومات من الدول الحليفة. الشهر الماضي كان ساستنا العرب منهمكين في مفاوضاتهم الابدية، فحدث ان قاموا بنسيان 5 خبراء نفط فرنسيين في مطار البصرة عشر ساعات بلا فيزا. النتيجة خروق وكوارث وفشل معظم جهود البناء وتبدد الاموال، لأن السياسي العربي فهم اللعبة خطأ وتوهم ان عليه الجلوس ليل نهار في غرفة المفاوضات، وأن من حقه ان ينسى الوطن في اي حقيبة على رصيف اي مطار، لأنه يتفاوض من اجل هذا الوطن المنسي!
الكردي نجح في تنظيم ساعات يومه. اعتقد ان الساسة الاكراد ايضا نجحوا في "تنظيم" الفساد المالي نفسه. صار هناك فساد مقنن يترك المجال للبناء. جزء يذهب للمصلحة الخاصة وآخر للعامة. لذلك تظهر لديهم كل شهر مشاريع جديدة ويسبقوننا. اما نحن فنقسم اموال العراق الى جزء يجري اختلاسه، وجزء آخر يجري هدره وتبديده. ثم يغضب الزعيم حين نشتكي من وجود قمامة تزكم انوفنا نحن عاصمة النفط والشعر في بلاد الساميين.
دلوفان يحدثني عن مشروع الجامعة الاميركية في السليمانية. كان هذا المشروع قبل مائة عام سلسلة مدارس اميركية اقيمت في البصرة وبغداد والموصل تحت اسم "المدرسة الانجليكانية". اقيمت واحدة في بيروت وثانية في شيراز الايرانية..الخ. في المدن العراقية الثلاث نجح الساسة السابقون خلال انهماكهم في مفاوضات اخرى، بطرد المدرسة الاميركية الى الابد، والتحق بنا الايرانيون فطردوها من شيراز. اما لبنان الصغير سكانيا وجغرافيا، فقد تمسك بالمدرسة التي تحولت الى الجامعة الابرز، ورغم حربه الاهلية نجح في الاحتفاظ بها. السليمانية اليوم تقوم بشيء مشابه يبدأ متواضعا لكنه يمكن ان ينمو على نحو جاد.
المدرسة الانجليكانية "الجامعة الاميركية" ستظل ممنوعة في مدن عرب العراق حتى حين، وربما خرجت مظاهرات غاضبة لو فتحنا فرعا لها في بغداد او النجف. النتيجة ان السليمانية بادرت وربحت وسيذهب اولادنا ويدفعون رسوم التعليم هناك.
بالطريقة ذاتها سيقدم الاكراد صورة اكثر مقبولية من صورتنا. الغربي اليوم يأتي الى العراق ليرى ساسة في اربيل لديهم وقت للبناء، وشعبا كف عن ممارسة العنف. سيرى، مثلما رأى في الكويت، طبقة سياسية ليس لديها تاريخ في التنمية، لكنها تنجح في تخصيص ساعة للتفاوض والصراع، وأخرى لمتابعة المشاريع. تنجح في تقسيم المال بين "فساد" منظم، وآخر يتحول لعمل مفيد. لا تنسى خبيرا في مطار.
نحن ننسى خبراء النفط في مطار البصرة، ونعاملهم كمشبوهين في مطار بغداد كما قال مهندس لمجلة الايكونوميست مطلع الاسبوع، والغرب لن يلح كثيرا بشأن المشاركة في اعمار ذي قار والرمادي. يمكن للغرب ان ينسانا ايضا في بعض مطاراته. سياسة العنف والفساد والانهماك الابدي في المفاوضات، لم تترك امام الاميركان سوى خيار تبديد اكثر من 53 مليار دولار خصصتها واشنطن لإعمار العراق. اوباما يرحل ويسأل نفسه هذه الايام، عن حجم الهدر والفساد الذي لحق بتلك الاموال. ويأتي الجواب ان العراق لم يكن مهيئا لهذا المشروع العملاق. اعلم ان الفساد الاميركي كان سببا كذلك، لكن عنفنا واهمالنا شجعا الموظف الاميركي على ان يكفر بنا وينهب الاموال.
هكذا تبدد الشعوب فرصها العظيمة. سيبقى الكردي يربح ساعة اضافية يخصصها للعمل. وسنظل نتنازع معه حتى نفاجأ بكويت أخرى شمال البلاد هذه المرة، ينحاز اليها الغرب ويحبها. ستضيع حقوقنا، وبدل ان نحاول دخول سباق عمراني مع اربيل، سنفكر لحظتها بخيارات اخرى من شأنها توسيع خارطة الخراب، ونسيان المزيد من محطات الكهرباء على الحدود الدولية ليأكلها الصدأ والغبار.
عن "العالم" البغدادية |