يشكل عنوان رواية "نخلة الواشنطونيا" للروائي والناقد العراقي عواد علي، التي صدرت حديثاً عن دار "فضاءات" في عمّان، كما في روايته الاولى "حليب المارينز"، أهمية رمزية كبيرة ترتبط بالحالة العراقية. وإذا كانت "نخلة الواشنطونيا" يمكن أن تصادفها في شوارع أي عاصمة عربية أو أجنبية، فإنها في الرواية ليست مجرد نخلة، بل تشغل بال البطل كمال مثلما تشغل بال الراوي وبعض الشخصيات الرئيسية الأخرى على امتداد الرواية، ويمكن النظر إليها تخييليّاً على أنها إحدى "الشخصيات" أو العناصر المهمة في الرواية.
دلالة النخلة
يتردد وصف نخلة الواشنطونيا في الرواية باستمرار منذ البداية وحتى النهاية بحسب الحالات النفسية للشخصيات الي تنظر اليها، وخصوصاً كمال، الاستاذ الجامعي العلماني ذا العلاقات النسائية المتعددة، وراهبة، الارملة الأربعينية الصابئية المندائية صاحبة صالون الشعر للسيدات، الذي تحوّل بقالة للمواد التموينية تحت تهديد الجماعات الدينية المسلحة، وألماس، الأرملة الثلاثينية التي قُتل زوجها الذي كان يعمل مع شركة "بلاك ووتر" الأميركية، وعشيقة كمال التي تأمل الزواج منه، وفيفيان، الارملة المسيحية التي قُتل زوجها لأنه كان يبيع الخمور. لشجرة الواشنطونيا في الرواية قيمة رمزية دلالية في غاية الاهمية تشير إلى الاحتلال الاميركي للعراق، وتتبدى في الوصف المتغير للنخلة على لسان الشخصيات أو الراوي، بما يعكس حالة الشخصيات النفسية في حواراتها ومذكراتها وكوابيسها وتطورات الأحداث على أرض الواقع. تمر نخلة الواشنطونيا بتحولات في نظر الآخرين مثلما تمر الشخصيات ذاتها بتحولات تحت وطأة أزمات الحرب المأسوية، وتتحول النخلة في الرواية من رمز للقوة والاستعلاء رمزاً بشعاً غريباً يشير إلى تغيّر نظرة العراقيين إلى الاحتلال الاميركي: من الاحساس بالضعف أمام صدمة القوة إلى الإصرار على المواجهة وانطلاق المقاومة. تتعزز أهمية الرمز في الرواية في ما يجري للشجرة من أحداث تبدأ باستنفار بعض شبان الحي الذين سكبوا عليها نفطاً وأضرموا فيها النار، لكنها لم تحترق بل بقيت تقف بخيلاء، ثم يستمر رفضها ومقاومتها حتى تنتهي بقطعها واجتثاثها بعد تفجيرها وحرقها، إلاّ أن جنود المارينز يزرعون مكانها شجرة واشنطونيا أخرى. هكذا تكثر وتزداد في شوارع بغداد مما يزيد من أهميتها الرمزية. ذُكرت نخلة الواشنطونيا في سبعة عشر موضعاً في الرواية، التي تتألف من 14 فصلا قصيراً، بدءاً من صفحة 26 وانتهاءً بالصفحة قبل الأخيرة 169. حين ذُكرت للمرة الأولى كانت في نظر كمال صورةً لشيء غريب بشع ظهر في المشهد فجأةً، ولكنها "منتصبة بخيلاء تهز سعفاتها اللامعة وكأنها تسخر ممن حاول إفناءها"، في إشارة إلى غطرسة القوة التي تهزأ برد الفعل. بل تصبح في نظر كمال نقيضه المفقود الذي يشعره بالعار والعجز، حيث يقارن بين "ضعفه المخجل وقدرتها على التحدي، وإصرارها على البقاء". يصفها كمال بأنها شجرة مشؤومة حيث انهالت الكوارث على العراق منذ أن غرسوها. يبدأ كمال بازدرائها، كما يبول على سياجها كلب مارّ من الشارع، وتصبح غبراء الوجه كسعلاة مصابة بالوهن يتجمهر حولها الأطفال ويرجمون تاجها بالحصى. ثم تنتشر في كل شوارع بغداد بعد استبدالها بأشجار النخيل الأخرى. لكن كمال يرى لافتةً معلقةً على السياج المحيط بها تقول: "ارفعوا هذه القمامة وأعيدوا لنا نخلتنا".
أحداث الرواية
تجري أحداث الرواية في بغداد ما بين الشتاء الدموي والصيف الملتهب من عام 2006، وقد مضت على الاحتلال ثلاث سنوات، وهو الصيف الذي تصفه الرواية بأنه "حدث ما يشبه القيامة في بغداد... أصابت تفجيرات رهيبة قلب المدينة وأطرافها. تفجيرات ذات دافع انتقامي أعمى. سالت دماء كثيرة من أجساد غضة ويافعة ومنهكة. أجساد من كل الشرائح والطوائف: في الاسواق والشوارع والمساجد والحسينيات والأحياء المكتظة بالسكان. وفي اليوم التالي ظهر رد الفعل، هستيريا طائفية لا تقل عماءً: مداهمة منازل، قطع رقاب، حفلات شي أجساد حية، تهديدات وتحذيرات..."، لكن الزمن في الرواية متعدد ومتشعب. بطل الرواية كمال ترزي، أستاذ جامعي عربي أصله من كركوك، يدرّس اللغة الاسبانية في كلية اللغات، وسبق له أن عاش فترة في اسبانيا، وزار قرية الشاعر الاسباني لوركا، وهو واسع الاطلاع على الثقافة الاسبانية، التي تظهر في مذكراته والكتب التي يقتنيها ويقرأها ويستشهد بها الراوي في كثير من الاحيان، وفي الموسيقى التي يعشقها، وفي الحفلات التي يحضرها، وحتى في الأكلات التي يصنعها لعشيقاته. يعيش كمال في بغداد ويمر بكل الكوابيس والأحداث الرهيبة التي مرت بها، رافضاً الهجرة لأنه يعتقد أن الغربة ذل للإنسان. لكنه يبدأ في الشك في صحة موقفه عندما رأى ما حل بصديقته نسرين، التي تحولت بائعة هوى في اللاذقية ودمشق. يقول في ما يبدو نادماً على قراره: "لماذا لم أرافقها؟ ألم يكن بإمكاني أن أسافر أنا وإياها بعد سنة أو سنتين على بدء الاحتلال؟ ما الذي كنت آمل منه أن يمنحنا؟ يا لي من أحمق... لقد اضعت امرأةً أعدتُ تكوينها بيديّ مثلما أعاد هيغنز تكوين بائعة الزهور أليزا في مسرحية برناردشو". يعاني كمال من حالة غريبة تنتابه طوال الرواية، وهي انتصاب عضوه كلما سمع صوت انفجار، ولهذا يتعرض لمواقف محرجة عندما يقع انفجار سيارة أو قذيفة أو صاروخ، وخصوصاً عندما يكون في زيارة لإحدى جاراته أو أصدقائه. تستمر معه هذه الحالة، التي قال له الطبيب إن أسبابها نفسية وتسبب له أرقاً. يبدو البعدان الرمزي والنفسي واضحين في أن ويلات الحرب والاحتلال الجاثم تثير لدى الانسان غريزة التمسك بالحياة والمقاومة. ويصبح رد الفعل متجها أكثر نحو إشباع الذات في غياب القيم الدينية والاخلاقية وسقوطها بفضل النموذج العبثي تحت ضربات الطائفيين الذين يفرغون هذه القيم من محتواها الإنساني. هكذا يصبح الجنس والمحافظة على الحياة وإشباع الذات المقهورة المحرومة هو الأكثر تحركاً وتجاوباً مع التحدي. لذا نرى في نهاية الرواية أن عضو كمال لم يعد ينتصب رغم الانفجار، في دلالة مزدوجة على النهاية: نجاح الاحتلال في تعزيز وجوده كأنه شيء طبيعي، والقضاء على مبدأ الرفض لوجوده، وفي الوقت ذاته سقوط كمال ضحيةً، معبراً عن الاستكانة وفقدان الرجولة، وتراجع غريزة التحدي والبقاء حيث يتعرض للخطف على أيدي جنود الاحتلال بعدما وشى به الشيخ العلاّسي.
أسلوب السرد
تعتمد الرواية على أسلوب السرد بضمير الغائب، لكن هناك، إضافةً إلى المذكرات والرسائل التي يرويها أصحابها، فصلان مهمان في الرواية يرويهما كمال وألماس بضمير المتكلم تحت عنوان "ما لا يعرفه الراوي"، يكشف كل منهما فيه عن مرحلة سابقة من صباه ومراهقته. وتظهر في هذين الفصلين إشكالية الدين مبكراً لكل واحد منهما. فكمال يعثر على صندوق مغلق يثير فضوله ليكتشف في ما بعد على إثر كسره أنه يحوي "ألواح حضرة بهاء الله"، وهو الكتاب المقدّس عند البهائيين، ويقع تحت تأثير الدهشة أول الأمر من نصوصه ومضامينه، لكنه يستغرب علاقة والده به، ليكتشف أن أباه وجدّه وكل عائلته كانوا بهائيين، لكن أباه اضطر إلى اعتناق الاسلام ليتزوج من امرأة مسلمة في كركوك. ومع الخشية من رعب الميليشيات يحرق الأب الكتاب في التنور. كما تتعرض ألماس إلى موقف مواجهة وجدال حول معتقد الإنسان ودوره في حياته مع زوج خالتها الخوري، الذي يرفض بشدة زواجها من ابنه ساندر اذا لم تعتنق المسيحية، على رغم الحب الشديد الذي يجمعهما، وتحاول بكل ما أوتيت من منطق أن تقنعه بجدوى الحب والزواج على رغم اختلاف الدين، إلاّ أنه يرفض بإصرار، وعندما تكشف له سر ممارستهما الجنس يتوعدهما بالويل والثبور وطردهما مما يؤدي إلى افتراقهما وموت الحب. واضح هنا توظيف مبدأ المفارقة في تقديم موقفين متشابهين متضادين ليعكس التراجع في حرية المعتقد والتسامح في الأربعينات والثلاثينات من القرن الماضي مقارنةً بما يجري الآن، وتأكيد فكرة أن الامور عادت إلى الوراء. تمتاز لغة السرد في الرواية بالانسيابية والسلاسة والشعرية من خلال لغة بسيطة سهلة بعيدة عن التفلسف والحوارات التجريدية المغرقة في تأويلات الفكر والمطلق، لكنها في الوقت ذاته مثقلة بالمعاني والإشارات والرموز، ونقل ظلال نفسية تتمثل في الغوص في عالم الشخصيات الجواني لنقل معاناتها وأحزانها المكبوتة وأحلامها المقتولة التي تحولها شخصيات بائسة يُرثى لها. تنجح الرواية بلغة مشحونة، في إظهار أزمات شخصياتها مما يمكن معه تصنيفها بالرواية النفسية، على رغم زخم الاحداث فيها، لكن ما يجري في العالم الداخلي من كوابيس وأفكار سوداء وخوف وأمنيات لا تتحقق والتعبير عنها، أهم من أحداثها الخارجية. يبدو واضحاً في الرواية تأثير القضية الفلسطينية والبعد القومي الذي يغلب على تفكير بعض الشخصيات، وخصوصاً كمال وصديقه سلام الياسري، على رغم انهماكهما ومعاناتهما من مأساة الواقع العراقي، لكأنما تؤكد الرواية الارتباط بين القضيتين العراقية والفلسطينية. فسلام يشعر بالتشاؤم لأنه سافر إلى اسبانيا يوم الخامس من حزيران الموافق لذكرى النكبة، كما أن كمال وسلام عاشا ودرسا مع صديقهما الفلسطيني جهاد البشير، الذي أصبح من أعز أصدقائهما وتقاسما معه كل شيء. كما يبدي كمال تعاطفاً حقيقياً مع صديقه جهاد حين يتعرض للاضطهاد، ويتفاعل كثيراً مع فكرته الشروع في رواية حول تسيبي ليفني. يُلاحظ أن هناك تسارعاً في ظهور الشخصيات في الجزء الاول من الرواية، حيث يجري تقديم سبع عشرة شخصية في الصفحات التسع الاولى. كما نلاحظ أن الراوي يسرّع وتيرة السرد في الفصل الأخير المكوّن من خمس صفحات، وفيه يرحل زهراب هاكوبيان وزوجته إلى أرمينيا، كما يرحل جهاد الفلسطيني إلى مخيمات الحدود بعد أن يترك رسالة قصيرة لكمال من دون أن يودعه، مثلما تتصل زهراء من إسبانيا بكمال لتخبره عن فشل محاولاتها في التوسط للحصول على عمل له في السفارة العراقية في مدريد مما يعني انتهاء علاقته بها، كما اختفت ألماس التي كان مقرراً أن يتزوجها كمال، الذي يتعرض هو نفسه للاختطاف على أيدي جنود المارينز أمام مدخل البناية في نهاية مفتوحة على التأويلات، إن كان ذلك مجرد اختطاف أم اغتيال كما تقول الجملة الاخيرة: "التفت بسرعة إلى يمينه وإلى يساره فإذا بالكفّين اللتين تمسكان به هما لكائنين يفوقانه طولاً، يرتديان بزتين مرقطتين شبيهتين بجلد أفعى...". في الختام، لقد نجحت رواية "نخلة الواشنطونيا" في تناول شفيف وذكي لأبعاد متعددة لويلات الحرب بما يترك للقارئ إدراك أزمات أبطالها النفسية والحياتية والتعاطف معها بأسلوب بعيد عن التقريرية أو الرثائية، وتقديم شخصيات متنوعة تعكس الواقع الفيسفسائي للمجتمع العراقي بتعدد أصوله ودياناته وثقافاته، والتي حولت الحرب حياتها كوابيس متواصلة، وضحايا مذعورة خائفة تبحث عن الخلاص الذاتي. ولعل رسالة جهاد البشير قبل رحيله عن بغداد تلخص فشل حلول الخلاص الذاتي: "لقد أيقنت تماماً أن القوة تصنع الحق كما يقول شكسبير. كل الأمكنة هنا تنطوي اليوم على غدر متخفِّ تباغتنا به في كل لحظة عشوائية لترسلنا إلى الموت على غفلة من تدابيرنا وتوقعاتنا" أياد نصّار
|